Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 7-7)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الخَلْق إيجاد من عدم بحكمة ، ولغاية ومهمة مرسومة ، وليس عَبَثاً هكذا يخلق الأشياء كما اتفق ، فالخالق - عز وجل - قبل أنْ يخلق يعلم ما يخلق ، ويعلم المهمة التي سيؤديها لذلك يخلق سبحانه على مواصفات تحقق هذه الغاية ، وتؤدي هذه المهمة . وقد يُخيَّل لك أن بعض المخلوقات لا مهمةَ لها في الحياة ، أو أن بعضها كان من الممكن أنْ يُخلَق على هيئة أفضل مما هي عليها . ونذكر هنا الرجل الذي تأمل في كون الله فقال : ليس في الإمكان أبدعُ مما كان . والولد الذي رأى الحداد يأخذ عيدان الحديد المستقيمة ، فيلويها ويُعْوِجها ، فقال الولد لأبيه : لماذا لا يترك الحداد عيدان الحديد على استقامتها ؟ فعلَّمه الوالد أن هذه العيدان لا تؤدي مهمتها إلا باعوجاجها ، وتأمل مثلاً الخطَّاف وآلة جمع الثمار من على الأشجار ، إنها لو كانت مستقيمة لما أدَّتْ مهمتها . وفي ضوء هذه المسألة نفهم الحديث النبوي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم - عن النساء : " إنهن خُلِقْنَ من ضلع ، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه ، فإنْ ذهبتَ تقيمه كسرته ، وإنْ تركته لم يَزَلْ أعوج ، فاستوصوا بالنساء " . وحين تتأمل الضلوع في قفصك الصدري تجد أنها لا تؤدي مهمتها في حماية القلب والرئتين إلا بهذه الهيئة المعْوَجة التي تحنو على أهم عضوين في جسمك ، فكأن هذا الاعوجاج رأفة وحُنُو وحماية ، وهكذا مهمة المرأة في الحياة ، ألاَ تراها في أثناء الحمل مثلاً تترفق بحملها وتحافظ عليه ، وتحميه حتى إذا وضعتْه كانت أشدَّ رفقاً ، وأكثر حناناً عليه ؟ إذن : هذا الوصف من رسول الله ليس سُبَّة في حق النساء ، ولا إنقاصاً من شأنهن لأن هذا الاعوجاج في طبيعة المرأة هو المتمم لمهمتها لذلك نجد أن حنان المرأة أغلب من استواء عقلها ، ومهمة المرأة تقتضي هذه الطبيعة ، أما الرجل فعقله أغلب ليناسب مهمته في الحياة ، حيث يُنَاط به العمل وترتيب الأمور فيما وُلِّي عليه . إذن : خلق الله كلاً لمهمة ، وفي كل مِنَّا مهما كان فيه من نقص ظاهر - مَيْزة يمتاز بها ، فالرجل الذي تَراه لا عقلَ له ولا ذكاءَ عنده تقول : ولماذا خلق الله مثل هذا ؟ لكن تراه قويَّ البنية ، يحمل من الأثقال والمشاقّ ما لا تتحمله أنت ، والرجل القصير مثلاً ، ترى أنت عيبه في قِصَر قامته ، لكن يراها غيرك ميزة من مزاياه ، وربما استدعاه للعمل عنده لهذه الصفة فيه . وحين تتأمل مثلاً عملية التعليم ، وتقارن بين أعداد التلاميذ في المرحلة الابتدائية ، وكم منهم يصل إلى مرحلة التعليم العالي . وكم منهم يتساقطون في الطريق ؟ ولو أنهم جميعاً أخذوا شهادات عليا لما استقام الحال ، وإلاَّ فمَر للمهن المتواضعة والحرف وغيرها . إذن : لا بُدَّ أنْ يوجد هذا التفاوت لأن العقل الواحد يحتاج إلى آلاف ينفذون خطته ، وقيمة كل امرئ ما يُحسنه مهما كان عمله . لذلك قلنا : إنه لا ينبغي لأحد أنْ يتعالى على أحد لأنه يمتاز عنه في شيء ما ، إنما ينظر فيما يمتاز به غيره لأن الخالق عز وجل وزّع المواهب بين الخَلْق جميعاً ، ويكفي أن تقرأ قول الحق سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ … } [ الحجرات : 11 ] . فالله تعالى : { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ … } [ السجدة : 7 ] لأن لكل مخلوق مهمة مُهيّأ لها ، وتعجب من تصاريف القدر في هذه المسألة فتجد أخوين ، يعمل أحدهما في العطور ، ويعمل الآخر في الصرف الصحي ، وتجد هذا راضياً بعمله ، وهذا راضٍ بعمله . حتى أنك تجد الناس الذين خلقهم الله على شيء من النقص أو الشذوذ حين يرضى الواحد منهم بقسمة الله له وقدره فيه يسود بهذا النقص ، أو بهذا الشذوذ ، وبعضنا لاحظ مثلاً الأكتع إذا ضرب شخصاً بهذه اليد الكتعاء ، كم هي قوية ! وكم يخافه الناس لأجل قوته ! وربما يجيد من الأعمال ما لا يجيده الشخص السَّوي . فإنْ قلتَ : إذا كان الخالق سبحانه أحسن كل شيء خلقه ، فما بال الكفر ، خلقه الله وما يزال موجوداً ، فأيُّ إحسان فيه ؟ نقول : والله لولا طغيان الكافرين ما عشق الناسُ الإيمانَ ، كما أنه لولا وجود الظلم والظالمين لما شعر الناس بطَعْم العدل . إذن : فالحق سبحانه يخلق الشيء ، ويخلق من ضده دافعاً له . ثم يقول سبحانه : { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ } [ السجدة : 7 ] فالإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات بدأه الله من الطين ، وهو أدنى أجناس الوجود ، وقلنا : إن جميع الأجناس تنتهي إلى خدمة الإنسان . الحيوان وهو أقربها للإنسان ، ثم النبات ، ثم الجماد ، ومن الجماد خُلِق الإنسان . وقد عوَّض الله عز وجل الجماد الخادم لباقي الأجناس حين أمر الإنسان المكرَّم بأن يُقبِّله في فريضة كُتبت عليه مرة واحدة في العمر ، وهي فريضة الحج ، فأمره أن يُقبِّل الحجر الأسود ، وأنْ يتعبد لله تعالى بهذا التقبيل لذلك يتزاحم الناس على الحجر ، ويتقاتلون عليه ، وهو حجر ، وهم بشر كرَّمهم الله ، وما ذلك إلا ليكسر التعالي في النفس الإنسانية ، فلا يتعالى أحد على أحد . وسبق أنْ بيّنا أن المغرضين الذين يحبون أنْ يستدركوا على كلام الله قالوا : إن الله تعالى قال في مسألة الخَلْق مرة { مِّن مَّآءٍ … } [ المرسلات : 20 ] ومرة { مِن تُرَابٍ … } [ الكهف : 37 ] ومرة { مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] ومرة { مِن صَلْصَالٍ … } [ الحجر : 33 ] ومرة { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] … إلخ ، فأيُّ هذه العناصر أصل للإنسان ؟ وقلنا : إن هذه مراحل مختلفة للشيء الواحد ، والمراحل لا تقتضي النية الأولية ، فالماء والتراب يُكوِّنان الطين ، فإذا تُرك الطين حتى تتغير رائحته فهو الحمأ المسنون ، فإذا تُرك حتى يجفَّ ويتجمد فهو الصلصال ، فهذه العناصر لا تعارضَ بينها ، ويجوز لك أنْ تقول : إن الإنسان خُلِق من ماء ، أو من تراب ، أو من طين . … إلخ . والمراد هنا الإنسان الأول ، وهو سيدنا آدم - عليه السلام - ثم أخذ الله سلالته من ماء مهين ، والسلالة هي خلاصة الشيء ، فالخالق سبحانه خلقنا أولاً من الطين ، ثم جعل لنا الأزواج والتناسل الذي نتج عنه رجال ونساء . ثم يحتفظ الخالق سبحانه لنفسه بطلاقة القدرة في هذه المسألة ، وكأنه يقول لك : إياك أنْ تفهم أنني لا أخلق إلا بالزوجية ، إنما أنا أستطيع أنْ أخلق بلا زوجية كما خلقْتُ آدم ، وأخلق من رجل بلا امرأة كما خلقتُ حواء ، وأخلق من امرأة بلا رجل كما خلقتُ عيسى عليه السلام . وقد تتوفر علاقة الزوجية ويجعلها الله عقيماً لا ثمرةَ لها ، وهكذا تناولت طلاقة القدرة كل ألوان القسمة العقلية في هذه المسألة ، واقرأ إنْ شئتَ : { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى : 49 - 50 ] . إذن : هذه مسألة طلاقة قدرة للخالق سبحانه ، وليست عملية ميكانيكية ، لأنها هِبَة من الله { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً … } [ الشورى : 49 ] ولاحظ أن الله قدَّم هنا الإناث ، وهم الجنس الذي لا يفضِّله الناس أن يُولد لهم ، ولكن تجد الذي يرزقه الله بالبنت فيفرح بها ، ويعلم أنها هِبَة من الله يُعوِّضه الله بزوج لها يكون أطوعَ له من ولده . كما أنه لو رضي صاحب العُقْم بعُقْمه ، وعلم أنه هِبَة من الله لَعَّوضه الله في أبناء الآخرين ، وشعر أنهم جميعاً أبناؤه ، ولماذا نقبل هبة الله في الذكور وفي الإناث ، ولا نقبل العقم ، وهو أيضاً هبة الله ؟ ثم ألستَ ترى من الأولاد مَنْ يقتل أباه ، ومَنْ يقتل أمه ؟ إذن : المسألة تحتاج منّا إلى الرضا والتسليم والإيمان بأن العُقْم هبة ، كما أن الإنجاب هبة . ثم إن خَلْق الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام من طين جاء من البداية على صورته التامة الكاملة ، فخلقه الله رجلاً مستوياً ، فلم يكُنْ مثلاً طفلاً ثم كبر وجرتْ عليه سنة التطور ، لا إنما خلقه الله على صورته ، أي : على صورة آدم . والبعض يقول : خلق الله آدم على صورته أي على صورة الحق ، فالضمير يعود إلى الله تعالى ، والمراد : على صورة الحق لا على حقيقة الحق ، فالله تعالى حيٌّ يَهَب من حياته حياة ، والله قوي يهَبُ من قوته قوة ، والله غنيٌّ يهب من غِنَاه غِنى ، والله عليم يَهبُ من علمه علماً . لذلك قيل : " تخلَّقوا بأخلاق الله " لأنه سبحانه وهبكم صفات من صفات تجلِّيه ، وقد وهبكم هذه الصفات ، فاجعلوا للصفة فيكم مزية وتخلَّقوا بها ، فمثلاً كُنْ قوياً على الظالم ، ضعيفاً متواضعاً للمظلوم ، على حَدِّ قول الله تعالى في صفات المؤمنين : { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } [ الفتح : 29 ] . وقال : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ … } [ المائدة : 54 ] . وهذه الصفات المتناقضة تجتمع في المؤمن لأنه ليس له طبع واحد ، إنما الموقف والتكليف هو الذي يصبغه ويلويه إلى الصفة المناسبة . وقلنا : إن علماء التحاليل في معاملهم أثبتوا صِدْق القرآن في هذه الحقيقة ، وهي خَلْق الإنسان من طين حينما وجدوا أن العناصر المكوِّنه لجسم الإنسان هي ذاتها العناصر الموجودة في التربة ، وعددها 16 عنصراً ، أقواها الأكسوجين ، ثم الكربون ، ثم الهيدروجين ، ثم النيتروجين ، ثم الصوديوم ، ثم الماغنسيوم ، ثم البوتاسيوم … إلخ .