Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 9-9)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهذه التسوية كانت أولاً للإنسان الأول الذي خلقه الله من الطين ، كما قال سبحانه : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] وقد مَرَّ آدم - عليه السلام - في هذه التسوية بالمراحل التي ذكرت ، كذلك الأمر في سلالته يُسوِّيها الخالق - عز وجل - وتمر بمثل هذه المراحل : من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة … إلخ ، ثم تُنفخ فيه الروح . وإذا كان الإنسان لم يشهد كيفية خَلْقه ، فإن الله تعالى يجعل من المشَاهد لنا دليلاً على ما غاب عَنَّا ، فإنْ كنَّا لم نشهد الخَلْق فقد شاهدنا الموت ، والموت نَقْضٌ للحياة وللخَلْق ، ومعلوم أن نَقْض الشيء يأتي على عكس بنائه ، فإذا أردنا مثلاً هدم عمارة من عدة أدوار فإن آخر الأدوار بناءً هو أول الأدوار هدماً . كذلك الحال في الموت ، أول شيء فيه خروج الروح ، وهي آخر شيء في الخَلْق ، فإذا خرجت الروح تصلَّب الجسد ، أو كما يقولون شضَّب ، وهذه المرحلة أشبه بمرحلة الصلصالية ، ثم يُنتن وتتغير رائحته ، كما كان في مرحلة الحمأ المسنون ، ثم يتحلل هذا الجسد ويتبخر ما فيه من مائية ، وتبقى بعض العناصر التي تتحول إلى تراب ليعود إلى أصله الأول . إذن : خُذْ من رؤيتك للموت دليلاً على صِدْق ربك - عز وجل - فيما أخبرك به من أمر الخَلْق الذي لم تشهده . وقوله تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ … } [ السجدة : 9 ] سبق أن تكلمنا عن هذه الأعضاء ، وقد قرر علماء وظائف الأعضاء مهمة كل عضو وجارحة ، ومتى تبدأ هذه الجارحة في أداء مهمتها ، وأثبتوا أن الأذن هي الجارحة الأولى التي تؤدي مهمتها في الطفل ، بدليل أنك إذا وضعتَ أصبعك أمام عين الطفل بعد ولادته لا يرمش ، في حين يفزع إنْ أحدثت َ بجواره صوتاً : ذلك لأنه يسمع بعد ولادته مباشرة ، أما الرؤية فتتأخر من ثلاثة إلى عشرة أيام . لذلك كانت حاسة السمع هي المصاحبة للإنسان ، ولا تنتهي مهمتها حتى في النوم ، وبها يتم الاستدعاء ، أما العين فلا تعمل أثناء النوم . وهذه المسألة أوضحها الحق سبحانه في قصة أهل الكهف ، فلما أراد الحق سبحانه أنْ يُنيم أهل الكهف هذه المدة الطويلة ، والكهف في صحراء بها أصوات الرياح والعواصف والحيوانات المتوحشة لذلك ضرب الله على آذانهم وعطَّل عندهم هذه الحاسة كما قال سبحانه : { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً } [ الكهف : 11 ] . إذن : الأذن هي أول الأعضاء أداءً لمهمتها ، ثم العين ، ثم باقي الأعضاء ، وآخرها عملاً الأعصاب ، بدليل أن الطفل تصل حرارته مثلاً إلى الأربعين درجة ، ونراه يجري ويلعب دون أن يشعر بشيء ، لماذا ؟ لأن جهازه العصبي لم ينضج بَعْد ، فلا يشعر بهذه الحرارة . لذلك نجد دائماً القرآن يُقدِّم السمع على البصر ، ويتقدم البصرَ إلا في آية واحدة هي قوله تعالى : { أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا … } [ السجدة : 12 ] لأنها تصور مشهداً من مشاهد القيامة وفيه يفاجأ الكفار بأهوال القيامة ، ويأخذهم المنظر قبل أنْ يسمعوا الصوت حين ينادي المنادي . ومن عجائب الأداء البياني في القرآن أن كلمة أسماع يقابلها أبصار ، لكن المذكور هنا : { ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ … } [ السجدة : 9 ] فالسمع مفرد ، والأبصار جمع ، فلماذا أفرد السمع وجمع البصر ؟ قالوا : لأن الأذن ليس لها غطاء يحجب عنها الأصوات ، كما أن للعين غطاءً يُسْدل عليه ويمنع عنها المرئيات ، فإذن فهو سمع واحد لي ولك وللجميع ، الكل يسمع صوتاً واحداً ، أما المرئيات فمتعددة ، فما تراه أنت قد لا أراه أنا . ولم يأْتِ البصر مفرداً - في هذا السياق - إلا في موضع واحد هو قوله تعالى : { إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] ذلك لأن الآية تتكلم عن المسئولية ، والمسئولية واحدة ذاتية لا تتعدى ، فلا بُدَّ أنْ يكون واحداً . ومن المناسب أن يذكر الحق سبحانه السمع والأبصار والأفئدة بعد الحديث عن مسألة الخَلْق لأن الإنسان يُولَد من بطن أمه لا يعلم شيئاً ، وبهذه الأعضاء والحواس يتعلّم ويكتسب المعلومات والخبرات كما قال سبحانه : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] . إذن : فهذه الأعضاء ضرورية لوجود الإنسان الخليفة في الأرض ، وبها يتعايش مع غيره ، ولا بُدَّ له من اكتساب المعلومات ، وإلاَّ فكيف سيتعايش مع بيئته ؟ وقلنا : إن الإنسان لكي يتعلم لا بُدَّ له من استعمال هذه الحواس المدركة ، كل منها في مناطه ، فاللسان في الكلام ، والعين في الرؤية ، والأذن في السمع ، والأنف في الشم ، والأنامل في اللمس . وقلنا : إن هذه الحواس هي أمهات الحواس المعروفة ، حيث عرفنا فيما بعد حواسَّ أخرى لذلك احتاط العلماء لهذا التطور ، فأطلقوا على هذه الحواس المعروفة اسم " الحواس الظاهرة " ، وبعد ذلك عرفنا حاسة البَيْن التي نعرف بها رقَّة القماش وسُمْكه ، وحاسة العضل التي نعرف بها الثقل . إذن : حينما يُولَد الإنسان يحتاج إلى هذه الحواس ليتعايش بها ويدرك ويتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه ، ولو أن الإنسان يعيش وحده ما احتاج مثلاً لأنْ يتكلم ، لكنه يعيش بطبيعته مع الجماعة ، فلا بُدَّ له أن يتكلم ليتفاهم معهم ، وقبل ذلك لا بُدَّ له أنْ يسمع ليتعلم الكلام . وعرفنا سابقاً أن اللغة وليدة السماع ، فالطفل الذي يُولَد في بيئة عربية ينطق بالعربية ، والذي يعيش في بيئة إنجليزية ينطق الإنجليزية وهكذا ، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان ، فإذا لم تسمع الأذن لا ينطق اللسان . لذلك سبق أن قلنا في سورة البقرة في قول الله تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ … } [ البقرة : 18 ] أن البَكَم وهو عدم الكلام نتيجة الصمم ، وهو عدم السماع ، فالسمع - إذن - هو أول مهمة في الإنسان ، وهو الذي يعطيني الأرضية الأولى في حياتي مع المجتمع من حولي . ومعلوم أن تعلُّم القراءة مثلاً يحتاج إلى معلم أسمع منه النطق ، فهذه ألف ، وهذه باء ، هذه فتحة ، وهذه ضمة … إلخ ، فإذا لم أسمع لا أستطيع النطق الصحيح ، ولا أستطيع الكتابة . وبالسماع يتم البلاغ عن الله من السماء إلى الأرض لذلك تقدَّم ذِكْر السمع على ذِكْر البصر . والحق سبحانه لما تكلَّم عن السمع بهذه الصورة قال : أنا سأُسْمع أسماء الأشياء ، فهذه أرض ، وهذه سماء … إلخ ، لذلك حينما نُعلِّم التلميذ نقول له : هذه عين ، وهذه أذن . وبعد أنْ يتعلم التلميذ من مُعلِّمه القراءة يستطيع بعد ذلك أنْ يقرأ بذاته ، فيحتاج إلى حاسّة البصر في مهمة القراءة ، فإذا أتم تعليمه واستطاع أن يصحح قراءته بنفسه ، واختمرت عنده المعلومات التي اكتسبها بسمعه وبصره استطاع أنْ يقرأ أشياء أخرى غير التي قرأها له معلمه ، واستطاع أن يربي نفسه ويُعلِّمها حتى تتكون عنده خلية علمية يستحدث من خلالها أشياء جديدة ، ربما لا يعرفها معلمه ، وهذه مهمة الفؤاد { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ … } [ السجدة : 9 ] . فالمعاني تتجمع بهذه الحواس ، حتى يصير الإنسان سَوياً لديه الملَكة التي يتعلم بها ، ثم يُعلِّم هو غيره . واللغة المنطوقة لا تُتعلَّم إلابالسماع ، فأنا سمعت من أبي ، وأبي سمع من أبيه ، وتستطيع أنْ تسلسل هذه المسألة لتصل إلى آدم عليه السلام أبي البشر جميعاً ، فإنْ قلتَ : فممَّنْ سمع آدم ؟ نقول : سمع الله حينما علَّمه الأسماء كلها : { وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ البقرة : 31 ] . وهذا أمر منطقي لأن اللغة المسموعة بالأذن لا يمكن لأحد اختراعها ، ومع ذلك يوجد مَنْ يعترض على هذه المسألة ، يقول : هذا يعني أن اللغة توقيفية ، لا دخْلَ لنا فيها . بمعنى : أننا لا نستحدث فيها جديداً . ونقول : نعم ، اللغة أمر توقيفي ، لكن أعطى اللهُ آدم الأسماء وعلَّمه إياها ، وبهذه الأسماء يستطيع أنْ يتفاهم على وضع غيرها من الأسماء في المعلومات التي تستجد في حياته . وإلا ، فكيف سمَّينْا الراديو والتليفزيون … إلخ وهذه كلها مُستجدات لا بُدَّ لها من أسماء ، والاسم لا يوجد إلا بعد أنْ يوجد مُسمَّاه ، وهذه مهمة المجامع اللغوية التي تقرر هذه الأسماء ، وتوافق على استخدامها ، وقد اصطلح المَجْمع على تسمية الهاتف : مسرة . والتليفزيون : تلفاز … إلخ . إذن : أتينا بهذه الألفاظ واتفقنا عليها لأنها تعبر عن المعاني التي نريدها ، وهذه الألفاظ وليدة الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام ، فاللغة بدأت توقيفية ، وانتهت وضعية . وقوله تعالى بعد هذه النعم : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ السجدة : 9 ] دليل على أن هذه النعم تستوجب الشكر ، لكن قليل منَّا مَنْ يشكر ، وكان ينبغي أن نشكر المنعم كلما سمعنا ، وكلما أبصرنا ، وكلما عملتْ عقولنا وتوصلتْ إلى جديد . لذلك ، كان شكر المؤمن لربه لا ينتهي ، كما أن أعياده وفرحته لا تنتهي ، فنحن مثلاً نفرح يوم عيد الفطر بفطرنا وبأدائنا للعبادة التي فرضها الله علينا ، وفي عيد الأضحى نفرح لأن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - تحمَّل عنَّا الفداء بولده ، لكي يعفينا جميعاً من أنْ يفدي كل منَّا ، ويتقرب إلى الله بذبح ولده ، وإلا لكانت المسألة شاقة علينا لذلك نفرح في عيد الأضحى ، ونذبح الأضاحي ، ونؤدي النُّسُك في الحج . وما دام المؤمن ينبغي له أن يفرح بأداء الفرائض وعمل الطاعات ، فلماذا لا نفرح كلما صلَّينا أو صُمْنا أو زكَّيْنا ؟ لماذا لا نفرح عندما نطيع الله بعمل المأمورات ، وترْك المنهيات ؟ لماذا لا نفرح في الدنيا حتى يأتي يوم الفرح الأكبر ، يوم تتجمع حصيلة هذه الأعمال ، وننال ثوابها الجنة ونعيمها ؟ واقرأ إن شئت قول ربك : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ يونس : 9 - 10 ] .