Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 18-18)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قد : حرف يفيد التحقيق ، خاصة إذا جاءتْ من الحق سبحانه ، ويأتي معها الفعل في صيغة الماضي ، لكن هنا { قَدْ يَعْلَمُ … } [ الأحزاب : 18 ] فجاء الفعل بصيغة المضارع ، وهذا يعني أن الحدث الذي يقع الآن سيثبت أن الله يعلم المُعوِّقين ، وقد علم أزلاً . فإنْ قُلْتَ : فالحق سبحانه يعلم قبل أنْ يكون هناك تعويق ، نقول : فَرْق بين أنْ يعلم الأمر قبل أنْ يقع ، وأنْ يعلمه إذ يقع ، فقد يقول قائل : علمتُ وسوف تجازيني على ما تعلم سابقاً ، لكن لو تركتني في المستقبل لن تحدث مني مخالفة . إذن : فالحق سبحانه يريد أن يؤكد هذا الأمر . والمعوِّق : هو الذي يضع العوائق أمام مرادك ، ويُثبِّط هِمَّتك ويُخذِّلك . وقوله : { هَلُمَّ إِلَيْنَا … } [ الأحزاب : 18 ] يعني : أقبل وتعال . وكلمة هلم تأتي هكذا بصيغة المفرد دائماً مع المفرد والمثنى والجمع ، ومع المذكر والمؤنث ، ومنه قوله تعالى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا … } [ الأنعام : 150 ] أي : هاتوا ، وهذه هي اللغة الفصيحة . وفي لغة من لغات تهامة يُلحقون بها علامة التثنية والجمع ، والتذكير والتأنيث ، فيقولون : هلم وهلمي وهلما وهلموا ، ولجمع الإناث هَلُمْنَ . وقوله تعالى : { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الأحزاب : 18 ] البأس أي : الحرب ، كما جاء في قوله تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ … } [ الأنبياء : 80 ] . وقال سبحانه : { وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ … } [ البقرة : 177 ] ففَرْق بين البأس والبأساء : البأس أي : الحرب . أما البأساء ، فكل ما يصيب الإنسان من مكروه في غير ذاته كفَقْد ولد ، أو خسارة مال … إلخ ، أما الضراء فما يصيب الإنسان في ذاته ، كمرض أو نحوه . ومن ذلك قول الله تعالى عن سيدنا داود : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ … } [ الأنبياء : 80 ] . والمراد : صناعة الدروع التي يلبسها الإنسان على مظانِّ المقَاتِل فيه ، وعلى أجهزته الحيوية كالصدر والقلب والرأس ، ولها غطاء خاص الخوذة ، وتُصنع الدروع مُسنَّنة . أي : بها تموُّج وتجاويف ، بحيث تتلقى ضربات السيف بإحكام ، فلا تنفلت الضربة إلى مكان آخر فتؤذيه . لذلك يقول تعالى لنبيه داود عن هذه الصنعة { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ … } [ سبأ : 11 ] أي : في إحكام هذه الحلقات المتداخلة . وفَرْق أيضاً هنا بين لَبُوس ولباس : اللباس هو ما يقي الإنسان تقلبات الجو ، ويستر عورته أثناء الأمن وسلام الحياة ، وهذه هي الملابس العادية التي يرتديها الناس . وفيها يقول الحق سبحانه : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } [ النحل : 81 ] . أما كلمة لَبُوس فهي المُعدَّة لحالة الحرب كالدروع ونحوها لذلك جاءت بصيغة دالة على التضخيم لَبُوس . وهذه الآية تلفتنا إلى مظهر من مظاهر الدقة في الأداء القرآني المعجز ، فالآية هنا ذكرت الحَرَّ ، ولم تذكر شيئاً عن المقابل له ، وهو البرد ، والعلماء عادةً ما يلجئُون إلى تقدير هذا المحذوف عند تفسير الآية ، فيقولون : أي تقيكم الحر والبرد ، يريدون أنْ يكملوا أسلوب القرآن ، وهذا لا يجوز . وحين نمعن النظر في هذه الآية ، نجد أن الله تعالى خلق الظلال لتقينا حرارة الشمس ، وجعل اللباس ، وكذلك جعل لنا الأكنان في الجبال ، والله خلق الحرَّ على هذه الصورة التي لا يتحملها الإنسان لأن للحر مهمة في حياتنا ، فحرارة الشمس تخدمك في أمور كثيرة ، وإنْ كانت تضايقك بعض الوقت ، فالحق سبحانه أبقاها لتؤدي مهمةَ خير لك ، ثم حَمَاك بالظل واللباس والأكنان من شرِّها . فإنْ قُلْتَ : فهذه الأشياء تقيني أيضاً البرد ، نقول : إياك أنْ تظن أن الدفء يأتيك من غطاء ثقيل أو ملابس شتوية ، إنما الدفء من ذاتك أنت ، فأنت تدفئ البطانية والفراش الذي تنام عليه ، بدليل أنك ساعة تأتي فراشك لتنام تجده بارداً ، ثم بعد مرور ساعات الليل تجده في الصباح دافئاً . إذن : فحرارتك الذاتية انتقلَتْ إلى الغطاء فأدفأَته ، وكل ما يؤديه الغطاء أنه يحفظ حرارة جسمك بداخله ، فلا تتبدد في الهواء المحيط بك . لذلك ، لما درس العلماء مسألة حرارة جسم الإنسان وجدوا فيها مظهراً من مظاهر قدرة الله ، فالإنسان تُشع منه حرارة تكفي في أربع وعشرين ساعة لِغَلْي سبعة عشر لتراً من الماء ، ومعدل هذه الحرارة في الجسم 37 ثابتة في قيظ الحر وبرد الشتاء ، مما يدل على أن لجسمك ذاتية منفصلة تماماً عن الجو المحيط بك . ومن عجائب خَلْق الإنسان أن هذه الحرارة تتفاوت من عضو إلى عضو آخر ، والجسم واحد ، فأعضاء حرارتها ما بين 7 - 9 كالأنف والأذن والعين ، ولو زادتْ حرارة العين عن هذا المعدل تنفجر ، أما الكبد فحرارته 40 … إلخ ، ومعلوم أن الحرارة تُحدِث استطراقاً في الجسم الواحد ، وفي المكان الواحد . ومن عجائب خَلْق الإنسان في هذه المسألة العَرَق الذي يتصبب منك في حالة تعرضك للحرارة الشديدة ، فيخرج العرق من مسامِّ الجسم ، ليُلطف من درجة حرارته ، ويُحدِث عملية تبريد ، كالتي نراها مثلاً في موتور السيارة ، حتى عندنا في الفلاحين تجد الفلاح من كثرة عمله في الأرض وكثرة عرقه تتكون على جسمه طبقة مثل الجير ، وهذه أملاح تخرج مع العرق لذلك يكثر في هؤلاء الفلاحين أكل المش و المخللات لتعويض نسبة الأملاح المفقودة مع العرق ، إذن : فالحق سبحانه لم يقل والبرد ، لأن الدفء كما رأينا ذاتي . وقوله تعالى : { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الأحزاب : 18 ] وهذه القلة مستثناه : إما من الإتيان ، أو أنهم يأتون البأس ، لكن قلة منهم يُقاتلون بهمة ونشاط ، والباقون أتوْا ذَرَّاً للرماد في العيون - كما يقولون ولئلا يُتهموا بالتخلف عن رسول الله . ثم يقول الحق سبحانه : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا … } .