Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 19-19)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ … } [ الأحزاب : 19 ] الشح في معناه العام هو البخل ، لكن الشحيح الذي يبخل على الغير ، وقد يكون كريماً على نفسه وعلى أهله ، أما البخيل فهو الذي يبخل حتى على نفسه لذلك قال تعالى : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ … } [ الأحزاب : 19 ] ليس على أنفسهم . وأنت حين تتأمل الصفات المذمومة في الكون تجدها ضرورية لحقائق تكوين الكون ، وتجد لها مهمة لذلك فَطِن الشاعر إلى هذه المسألة ، فقال : @ إنَّ الأشِحَّاءَ أسْخَى الناسِ قَاطِبةً لأنَّهم مَلكُوا الدُّنيا وَمَا انتفَعُوا لم يَحْرِمُوا الناسَ من بَعْضِ الذِي مَلكُوا إلاَّ لِيُعْطَوْا هُموا كُل الذِي جمَعُوا @@ وآخر يرى للبخيل فضلاً عليه ، فيقول : @ جُزِي البخيلُ عليَّ صالحةً مِنَّّى لخِفَّتِهِ علَى نَفْسِي @@ نعم ، البخيل خفيف على النفس لأنه لم يَجُدْ عليك بشيء يأسرك به ، ولم يستعبدك في يوم من الأيام بالإحسان إليك ، فهو خفيف على نفسك لأنك لستَ مديناً له بشيء . وهذا على حَدِّ قول الشاعر : @ أَحْسِنْ إلىَ النَّاسِ تَسْتعبدِ قُلُوبَهُم وطَالَما اسْتعبَد الإنْسانَ إحْسَانُ @@ فالبخل وإنْ كان مذموماً ، فقد ركزه الله في بعض الطباع ليعين التضاد ، ومعنى " يعين التضاد " أن البخل مقابله الكرم ، والبخيل يعاون الكريم على أداء مهمته ، فالكريم عادة إيده سايبه ، ينفق هنا وهناك حتى ينفد ما معه ، ومن أهل الكرم مَنْ يلجأ إلى أنْ يبيع أرضه أو بيته في سبيل كرمه ، فمَنْ يشتري منه إذن إذا لم يكُنْ هناك مَنْ يكنز المال ويبخل به ؟ إذن : لو نظرتَ إلى كل شيء في الوجود تجد له مهمة ، حتى إنْ كان مذموماً ، ثم إن البخيل كثيراً ما يكون ظريفاً لا يخلو مجلسه من ظُرْفه ، فقد كنا في بواكير شبابنا نشرب السجائر ، فكان الواحد منا يُخرج علبة السجائر يوزعها على الحاضرين ، وربما لا تكفي واحدة فأخرج الأخرى ، وكان في مجلسنا واحد من هؤلاء ، فنظر إليَّ في غَيْظ وقال يا قلبك يا أخي . وقد كانت هذه السجائر سبباً في أننا جُرْنا على شبابنا ، فكان لها أثر بالغ علينا في الكِبَر ، فليحْمِ الشباب شبابهم ولا يدمروه بمثل هذه الخبائث المحرمة . ثم يقول سبحانه : { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ … } [ الأحزاب : 19 ] أي : في ساعة الفزع ، يأخذ الفزع أبصارهم ، فينظرون هنا وهناك ، لا تستقر أبصارهم ، ولا تسكن إلى شيء ، زاغتْ أبصارهم { كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ … } [ الأحزاب : 19 ] . ومن ذلك الخبر : " إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتَقلُّون عند الطمع " . كان هذا حالهم عند الخوف والفزع { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ … } [ الأحزاب : 19 ] معنى { سَلَقُوكُمْ … } [ الأحزاب : 19 ] آلموكم وآذوكم بألسنتهم ، وقالوا لكم : أعطونا حقنا ، فقد حاربنا معكم ، ولولا نحن ما انتصرتُمْ على عدوكم ، إلى غير ذلك من التطاول بالقول والإيذاء والتأنيب . وهذا كله من معاني السلق ومنه : سلق اللحم ونحوه ، وهو أنْ يغلي في الماء دون أنْ تضيف إليه شيئاً ، ومثله السلخ ، فكلها معانٍ تلتقي في الإيلام . وعادةً ما تجد في اللغة إذا اشترك اللفظان في حرفين ، واختلفا في الثالث تجد أن لهما معنى عاماً يجمعهما كما في سلق وسلخ ، وفي : قطف ، وقطر ، وقطم . وكلها تلتقي في الانفصال . وقوله تعالى : { بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ … } [ الأحزاب : 19 ] حداد يعني : حادة فصيحة بملء الفم ، كما في قوله تعالى : { فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] . ومعنى { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ … } [ الأحزاب : 19 ] بعد أنْ قال { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ … } [ الأحزاب : 19 ] أكدَّ هذا المعنى بقوله { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ … } [ الأحزاب : 19 ] أي : في عمومه . { أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ … } [ الأحزاب : 19 ] لأنهم لو آمنوا لَعلموا أن الشحَّ ، شُحٌّ عليهم هم ، وليس في صالحهم لأن الكريم يستزيد من الله العطاء ، أما الشحيح فليس له زيادة لذلك يقول تعالى : { هَٰأَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ … } [ محمد : 38 ] . وربك حين يراك تنفق مما أعطاك يزيدك لأنك مؤتمن على الرزق لذلك يقول أحد الصالحين : اللهم إنك عوّدتني خيراً ، وعوَّدْتُ خلقك خيراً ، فلا تقطع ما عوَّدتني حتى لا أقطع عن الناس ما عوَّدتهم . إذن : فالعطاء استدرار لنعمة الله ، وسبب للمزيد منها . وهَبْ أن لك عدة أولاد ، أعطيتَ لواحد منهم جنيهاً مثلاً ، فذهب واشترى به حلوى ، ثم وزَّعها على إخوته ، ولم يُؤثِر نفسه عليهم ، لا بُدَّ أنك ستأتمنه ، وتعطيه المزيد لأن الخير في يده يفيض على الآخرين . ونتيجة عدم الإيمان { فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } [ الأحزاب : 19 ] أي : أنهم عملوا ، لكن أعمالهم لا رصيدَ لها من إيمان لذلك أحبطها الله أي : جعلها غير ذات جدوى ولا فائدةَ تعود عليهم . وهذه القضية أوضحها القرآن في قوله تعالى : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } [ إبراهيم : 18 ] . وهذا الإحباط أمر يسير على الله تعالى ، لكن أفي حَقِّ الله تعالى نقول : هذا صعب ، وهذا يسير ؟ قالوا : كلُّ أمر الله يسير لأنه تعالى لا يفعل بمعالجة الشيء ، إنما يفعل سبحانه بكُنْ ، وسبق أنْ مثَّلنا لمعالجة الأفعال بمَنْ يريد أنْ ينقل مثلاً عشرة أرادبّ من القمح ، فإنه لا يستطيع إلا أنْ يحملها مُجزَّأة ، فينقل الجُوال من هنا إلى هناك ، ثم الآخر ، إلى أنْ ينتهي من الكمية كلها ، ويأخذ في هذا العمل وقتاً يتناسب مع قوته . فلما تقدَّم العلم ، وتطوَّر الفكر الإنساني رأينا الآلة التي تحمل كل هذه الكمية وتنقلها في حركة واحدة ، وبمجرد الضغط على مجموعة من الأزرار والمفاتيح ، فإذا كان العبد المخلوق لله عز وجل قد استطاع أنْ يصلَ إلى هذا التيسير ، فما بالك بالخالق عز وجل ؟ لذلك يقول تعالى : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] ولا تتعجب من هذه المسألة لأن ربك أعطاك في ذاتك شيئاً منها ، لماذا تستبعد فِعْل الله تعالى بكُنْ ، وأنت ترى جوارحك تنفعل لمجرد إرادتك للفعل ، مجرد رغبتك في القيام ترى نفسك قد قُمْتَ ، دون حتى أن تأمر جوارحك وعضلاتك بالقيام . فإنْ قلتَ : فلماذا لا يأمر الإنسان جوارحه وأعضاءه بما يريد ؟ نقول : لأنك لا تملك أنْ تأمرها ، فهي تنقاد لك ولمرادك بأمر الله ، فالأشياء كلها إنما تأتمر بأمر الخالق سبحانه ، ولا تتخلف عن أمره أبداً ، ألم تقرأ عن السماء { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 2 ] . فالسماء مع عِظَم خَلْقها تسمع وتطيع أمر خالقها أما أنت أيها العبد ، فأيَّ شيء تأمر ، وأنت لا تعرف أصلاً ما تأمره ؟ وهل تعرف أنت العضلات والأعضاء والأعصاب التي تشترك بداخلك لأداء عملية القيام ؟ لذلك ولعدم علمك بما تأمره جعل الله أعضاءك وجوارحك تنفعل لمجرد إرادتك . أما هو سبحانه فيقول كُنْ لأنه خالق كل شيء ، وكل شيء مؤتمر بأمره ، وقال سبحانه كُنْ حتى لا تقولها أنت ، فكأنها سبقتْ منه سبحانه لصالحك أنت ، وأنت تفعل من باطن كُنْ الأولى التي توزَّعَتْ علينا جميعاً .