Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 2-2)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

نلحظ هنا نهياً بين أمرين : الأول { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ … } [ الأحزاب : 1 ] والآخر : { وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ … } [ الأحزاب : 2 ] وبينهما النهي : { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ … } [ الأحزاب : 1 ] ووقوع هذا النهي بين هذين الأمرين ترتيب طبيعي لأنك إذا اتقيتَ الله ستُعلي منهج الحق ، وهذا يؤذي أهل الباطل وأهل الفساد المستفيدين به ، فلا بُدَّ أنْ يأتوا إليك يوسوسون في أُذنك ليصرفوك عن منهج ربك ، وعليك إذن أنْ ترد الأمر إلى ما يوحى إليك وأنْ تتبعه . وقلنا : إن الوحي : إعلام بخفاء ، فإنْ كان علانية فلا يُعَدُّ وحياً ، ولله تعالى في وحيه وسائل كثيرة مع جميع خَلْقه ، فيوحي سبحانه إلى الجماد لأنه قادر على أن يخاطب الجماد ، كما في قوله سبحانه وتعالى عن الأرض : { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [ الزلزلة : 4 - 5 ] . ويوحي إلى النحل : { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [ النحل : 68 ] . ويُوحي إلى غير رسول أو نبي : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي … } [ المائدة : 111 ] . وقال : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ … } [ القصص : 7 ] . هذا هو الوحي في معناه العام ، أما الوحي الخاص فيكون من الله تعالى لرسول مُرْسَل من عنده إلى الخَلْق ، وله طرق متعددة ، فمرةَ يكون بالنفث في الروع ، ومرة يكون بالوحي بكلام لا يُرى قائله ، ولا يُعرف مصدره ، ومرة يكون عن طريق رسول ينزل به من الملائكة . يقول تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً … } [ الشورى : 51 ] . والقرآن الكريم لم يأْتِ بالإلهام ولا بالكلام من وراء الغيب والحُجُب ، إنما جاء عن طريق رسول مَلَك نزل به على رسول الله ، فثبت القرآن من هذا الطريق . ولا بُدَّ في هذه المسألة من التقارب بين الرسول الملَك ، والرسول البشر ، فلكل منهما طبيعته الخاصة ، ولكي يلتقيا لا بُدَّ من أمرين : إما أنْ يرتفع البشر إلى مرتبة الملائكية بحيث يستقبل منها ، أو ينزل الملَك إلى مرتبة البشرية بحيث يستطيع أنْ يُلقنها . لذلك جاء في الحديث أن جبريل عليه السلام نزل إلى مجلس رسول الله في صورة بشرية ليُعلِّم الناس أمور دينهم . وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الوحي تأخذه قشعريرة ، ويتصبب جبينه عرقاً ، حينما يأتيه جبريل بالوحي ، وما ذاك إلا لالتقاء الملكية بالبشرية ، فكان صلى الله عليه وسلم يبلغ به الجهد حتى يقول : زمِّلوني زمِّلوني ، دثِّروني دثِّروني . وإذا جاءه الوحي وهو جالس مع أصحابه وركبته على ركبة أحدهم يشعر لها بثقل كأنها الجبل ، أو يأتيه الوحي وهو على دابة فكانت تئط ، لذلك فتر عن رسول الله الوحي بعد فترة ليستريح من هذا الإجهاد ، وتبقى له حلاوة ما أُوحي إليه ، فيتشوق إليه من جديد . وبعدها خاطبه ربه : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح : 1 - 4 ] . والهدف حينما يكون غالياً ، والغاية سامية يهون في سبيلها كل جهد ، وقد عاد الوحي إلى رسول الله بعد شوق ، وخاطبه ربه بقوله : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [ الضحى : 4 - 5 ] . إذن : ثبت القرآن بالوحي عن طريق الرسول الملَك ، ولم يثبت بالإلهام أو النفث في الرَّوْع ، أو الكلام من وراء حجاب ، يقول تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ … } [ الشورى : 52 ] . والوحي هنا : { وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ … } [ الأحزاب : 2 ] مِنْ مَنْ ؟ { مِن رَبِّكَ … } [ الأحزاب : 2 ] ولم يقل مثلاً رب الخلق ، نعم هو سبحانه رب الخَلْق جميعاً ، لكن محمداً صلى الله عليه وسلم سيد الخلق ، فهو رب الخلق من باب أَوْلَى ، وكلمة ربك تدل على الحب وعلى الاهتمام ، وأنه تعالى لن يخذلك أبداً ، وما اتصاله بك إلا للخير لك ولأمتك . ثم يقول تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ الأحزاب : 2 ] الخبير مَنْ وصل إلى منتهى العلم الدقيق ، ومنه قولنا : اسأل أهل الخبرة . يعني : لا يسأل أهل العلم السطحي ، فالخبير هو الذي لا يغيب عنه شيء . وتلحظ أن الآية السابقة خُتمتْ بقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [ الأحزاب : 1 ] أي : عليماً بما يُشرِّع ، حكيماً يضع الأمر في موضعه ، وقال هنا : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ الأحزاب : 2 ] أي : بما ينتهي إليه أمرك مع التشريع ، استجابةً أو رفضاً ، فربُّك لن يُشرِّع لك ثم يتركك ، إنما يَخْبُر ما تصنع ، ولو حتى نوايا القلوب . فالخبرة تدل على منتهى العلم وعلى العلم الواسع ، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى في قصة لقمان : { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] . فالخبرة تدل على العلم الواسع الذي لا تفوته جزئية مهما صغرت ، واللطف هو التغلغل في الأشياء مهما كانت دقيقة ، وقلنا : إن الشيء كلما لَطُفَ عَنُفَ . فكأن الحق سبحانه يقول لرسوله : اطمئن ، فمهما صُودِمتَ من خصومك ، ومهما تألَّبوا عليك ، فربُّك من ورائك لم يتخلى عنك ، وهؤلاء الخصوم خَلْقي ، وأنا معطيهم الطاقات المفكرة والطاقات العاقلة والطاقات المتآمرة ، وسوف أنصرك عليهم في كل مرحلة من مراحل كيدهم لك . لذلك لم يقووا عليك مناظرة ولا جدلاً ، ولم يقدروا عليك حين بيَّتوا لك ليضربوك ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمك بين القبائل ، وخرجتَ من بينهم سالماً تحثو التراب على رؤوسهم ، حتى لما استعانوا عليك بالسحر وبالجن أخبرتُك بما يدبرون لك ، ولم أُسِلْمْك لكيدهم . ثم يقول الحق سبحانه : { وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ … } .