Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 35-35)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلنا : إن هذه الآية نزلت تطييباً لخاطر السيدة أسماء بنت عميس زوجة سيدنا جعفر بن أبي طالب ، لما حدَّثَتْ سيدنا رسول الله في أمر الأحكام ، وأنها تنزل وتتوجَّه في الغالب إلى الرجال ، ويبدو أنها حدَّثَتْ رسول الله في أمر النساء ، وأن منهن مثل الرجال مسلمات ومؤمنات … إلخ . ونلحظ أن الآية بدأت بذكر الإسلام ، ثم الإيمان ، فأيّهما يسبق الآخر ؟ ونجد إجابة هذا السؤال في قول الحق سبحانه وتعالى : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ … } [ الحجرات : 14 ] . فالإسلام أنْ تؤدي أعمال الإسلام بصرف النظر ، أكان أداؤك لها عن إيمان أو عن غير إيمان ؟ لأن الإسلام تلقِّي حكم ، أما الإيمان فأنْ تؤمن بمَنْ حكم ، وتُصدِّق مَنْ بلَّغك هذا الحكم ، وعليه فالإيمان سابق للإسلام . لذلك جاءت هذه الآية لتفضح هؤلاء الأعراب الذين تستروا وراء الأعمال الظاهرة للإسلام ، وهم غير مؤمنين بها ، وقد يأتي الإيمان بعد الإسلام حين تؤدي أعمال الإسلام فتحلُو لك ، وتجذبك إلى الإيمان والتصديق . لذلك ، فرح هؤلاء الأعراب لقوله تعالى : { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ … } [ الحجرات : 14 ] وقالوا الحمد لله لأن لَمَّا لا تدخل إلا على ما يمكن أنْ يجيء ، كأن تقول : لَمَّا يثمر بستاننا ، وثد أثمرتْ البساتين ، والمعنى : أنه سيثمر فيما بعد . قالوا : لأن هناك كثيراً من الأحكام أنت لا تؤمن بالذي حكم بها إلا إذا أدركتَ حلاوتها ، فالرجل الذي جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام ، وطلب منه أنْ يبيت عنده ، أو : أنْ يضيفه ، فسأله إبراهيم عليه السلام عن دينه فقال : إنه مجوسي ، فردَّ الباب في وجهه ، فعاتبه ربه في ذلك ، وقال له : يا إبراهيم تريده أنْ يغير دينه لضيافة ليلة ، وأنا أَسَعُه طوال عمره وهو كافر بي ؟ فأسرع إبراهيم في إثر الرجل حتى لحق به ودعاه إلى بيته ، فقال الرجل : ألم تنهرني منذ قليل ، فماذا حدث ؟ فقال : لقد عاتبني ربي فيك ، فقال الرجل : نِعْم الربّ ربٌّ يعاتب أحبابه في أعدائه ، أشهد ألاَّ إله إلا الله . وقد اشتملتْ هذه الآية على عشر صفات ، بدأت بالمسلمين والمسلمات ، وانتهت بالذاكرين الله كثيراً والذاكرات ، وكأن الله تعالى أوجد مراد السيدة أسماء بنت عُميس في هذه الصفات العَشْر التي جمعتْ الرجال والنساء ، واشتملت على كل أنواع التكليف ، وهي برقية تدلُّ على أن حكم المرأة التكليفي مطمور في باطن الرجل ، وهذه هي الأصول . ومعنى { وَٱلْقَانِتِينَ … } [ الأحزاب : 35 ] المداومون على عبادة الله وطاعته في خشوع وتضرُّع كما نفهم من قوله تعالى { وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَٱلْمُتَصَدِّقَاتِ … } [ الأحزاب : 35 ] أن للمرأة ذمتها المالية المستقلة وحرية التصرُّف في مالها بغير إذن زوجها إذا كانت تملك إرثاً أو هبة من زوجها أو من غيره ، فلا ولايةَ عليها من أحد . وسبق أن أوضحنا هذه المسألة في كلامنا عن الزكاة ، وهذه من مَيْزات المرأة في الإسلام ، حيث كانت قبل الإسلام ، وحتى في الحضارات الحديثة تابعة لأبيها أو لزوجها ، والصدقة تشمل الزكاة لأن الله قال فيها : { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا … } [ التوبة : 60 ] . فالصدقة هي العنوان الأعم ، ومعناها أنك صدَّقْتَ الحق سبحانه حين استأمنك على خير ، فاستنبط بمجهودك وسعيك في أرض الله التي خلقها ، فكأنك تُحقِّق ما كان من سيدنا أبي بكر حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا صنع بماله الذي كسبه في الغنيمة ؟ قال تصدَّقْتُ به كله ، فقال له : " وماذا أبقيتَ لأهلك ؟ " قال : أبقيت لهم الله ورسوله . فلما سأل عمر - رضي الله عنه - قال : تصدَّقْتُ بنصفه ، ولله عندي نصفه . فكلٌّ منهما تصرَّف في ماله تصرُّفاً منطقياً يناسبه . وإنْ كانت الزكاة يُراد بها نماء المال وطهارته ، فالصدقة عطاء لا يُرَاد به إلا وجه الله وثوابه في الآخرة ، فكأن المتصدِّق يريد أنْ يبرَّ ، وأنْ يعترف لله المعطي بالفضل لأن الله مكَّنه من مال لم يُمكِّن منه الضعيف ، ولا غير القادر . ثم ذكر الحق سبحانه تكليف الصوم { وٱلصَّائِمِينَ وٱلصَّائِمَاتِ … } [ الأحزاب : 35 ] والصوم أخذ حُكْماً فريداً من بين أحكام التكاليف كلها ، والحق سبحانه جعل لكل تكليف من التكاليف كادر خاص في الجزاء إلا الصوم ، فليس له كادر محدد ، لذلك قال عنه الحق سبحانه : " إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به " يعني : قرار عالٍ فوق الجميع ، فلماذا أخذ الصوم هذه المنزلة ؟ قالوا : لأن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم يعبد بها بشرٌ بشراً أبداً ، فمن الممكن مثلاً في شهادة أنْ لا إله إلا الله أنْ يأتي مَنْ يمدح آخر ، فيقول له : ليس في الكون إلا أنت ، أنت النافع وأنت الضار ، وهناك من قال عن نفسه : أنا الزعيم الأوحيد ، كذلك في الصلاة نرى مَنْ يخضع ويسجد لغير الله كما نخضع ونسجد نحن في الصلاة ، وكذلك في الزكاة نتقرب إلى العظيم أو الكبير بالهدايا له أو لمن حوله . لكن ، هل قال بشر لبشر : أنا أصوم شهراً ، أو يوماً تقرُّباً إليك ؟ لا … لأن الصيام للغير المماثل تذنيب للمصوم له لا للصائم لأنه سيُضطرّ لأنْ يظل طوال اليوم يراقبك ، أكلتَ أم لم تأكل ؟ ولأن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم يتقرب بها بشر لبشر قال الله عنها في الحديث القدسي : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به " يعني : جزاؤه خارج المقرر كما قلنا . ومن عظمة تكليف الصوم أيضاً أن الله تعالى أحلَّ لنا أشياء ، وحرَّم علينا أشياء أخرى تحريماً أبدياً ، فالذي تحمَّل التكليف أَلِفَ الحلال ولم يألف ما حُرِّم عليه ، ورسختْ هذه العقيدة في نفسه ، حتى أن الحرام لا يخطر بباله أبداً ، فلم يأْتِ على باله مرة مثلاً أنْ يشرب الخمر ، أو يأكل الميتة ، فهذه مسألة منتهية بالنسبة له ، فأراد الله تعالى أنْ يديم لذَّة التكليف على البشر ، ففرضَ الصومَ الذي يُحرِّم عليك اليوم ما كان مُحلَّلاً لك بالأمس ومألوفاً حتى صار عادة . إذن : هناك فَرْق بين دوام العادة ولذة العبادة ، وتأمل مثلاً يوم الفطر ، والفطر عادة لك في غير هذا اليوم ، وأنت حر تفطر أو لا تفطر ، فإذا ما جاء يوم عيد الفطر أخرجك ربك من العادة إلى العبادة ، وجعله تكليفاً أنْ تفطر قبل الخروج للصلاة . ثم يقول تعالى : { وَٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَافِـظَاتِ … } [ الأحزاب : 35 ] جاءتْ مسألة حِفْظ الفروج بعد ذكر الصيام لأن الصيام امتناعٌ عن شهوتَيْ البطن والفرج ، شهوة البطن جعلها الله تعالى لحفظ الحياة بالطعام والشراب ، وشهوة الفرج جعلها الله تعالى لحفظ النوع بالنكاح والتناسل . قُلْنا : إن الله تعالى أرضى السيدة أسماء رضي الله عنها الممثِّلة لجنس النساء ، فذكر أنواع التكاليف مرة للمذكَّر ، ومرة للمؤنث ، لكنه راعى في ذلك سَتْر المرأة ، وهنا أيضاً يُراعي هذه المسألة ، فيقول : { وَٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَافِـظَاتِ … } [ الأحزاب : 35 ] حينما تكلم عن المذكَّر قال { وَٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ … } [ الأحزاب : 35 ] ولم يقُلْ : والحافظات فروجهن لأن أمر النساء ينبغي أنْ يُسْتر وأنْ يُصَان . ثم يقول سبحانه { وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ … } [ الأحزاب : 35 ] ويعود إلى مسألة السَّتْر مرة أخرى في قوله : { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [ الأحزاب : 35 ] فقال لهم على سبيل التغليب ، وسَتْر المرأة في الرجل ، وهذه مسألة مقصودة يُراد بها شرف للمرأة ، وصيانة لها ، لا إهمالها كما يدَّعي البعض ، ومن هذه الصيانة ما نقوله نحن عن المرأة : معي أهلي أو الأولاد أو الجماعة ، ونقصد بذلك سَتْرها وصيانتها لا إهمالها ، أو التقليل من شأنها . فكأن الحق سبحانه حينما أرضى السيدة أسماء نيابةً عن المرأة المسلمة ، فذكر ما ذكر من جمع المؤنث الذي يقابل جمع المذكر ، أراد أنْ يبني حول المرأة سياجاً من الستر في كل شيء حتى في التكاليف . ونلحظ على سياق الآية هنا أيضاً أنه قدَّم المغفرة على الأجر لأن القاعدة كما قُلْنا : إن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة ، والحق سبحانه يُعد لعباده الأجر على الحسنة التي فعلوها ، مع أنه سبحانه لا ينتفع منها بشيء إنما يعود نَفْعها على المكلَّف نفسه ، فهو يستفيد بالطاعة وينال عليها الأجر في الآخرة . أما الحق سبحانه فغنيٌّ عنَّا ، وعن طاعتنا ، واقرأ الحديث القدسي : " يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً ، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً " . إذن : نحن المستفيدون من التكاليف ، ففيها صلاحُنَا في الدنيا ، ثم نأخذ عليها الأجر يوم القيامة . لذلك نجد الكثير من الرسل يقولون لأقوامهم : { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ … } [ الشعراء : 109 ] كأنه يقول : الذي أؤديه لكم من تبليغ دعوة الله في عرف الاقتصاد والتبادل يقتضي أنْ آخذَ عليه أجراً لأنني أؤدي لكم خدمة ، لكن ماذا سآخذ منكم أيها العرايا وأجري عالٍ لا يقدر عليه المكلَّف { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ … } [ يونس : 72 ] فهو وحده القادر على أنْ يجازيني بما أستحق . ووَصْف الأجر بأنه عظيم يدلُّ على كِبَر في الحجم ، ونَفَاسة في الصفات ، وامتداد في الزمن ، وهذه هي عناصر العظمة في الشيء ، وأيُّ أجر أعظم من أجر الله لعباده في الآخرة ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى … } .