Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 36-36)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
جمعتْ هذه الآية أيضاً بين المذكر والمؤنث في { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ … } [ الأحزاب : 36 ] فهي امتداد للآية السابقة ، فهي تخدم ما قبلها ، وتخدم أيضاً ما بعدها ، وما به أصل السبب لأنها نزلتْ في عبد الله بن جحش وأخته زينب ، حين رفضا زواج زينب من زيد بن حارثة ، فالمؤمن عبد الله بن جحش ، والمؤمنة أخته زينب من حيث هما سبب لنزول الآية ، وإلا فهي لجميع المؤمنين وجميع المؤمنات . وسبق أنْ ذكرنا قصة زيد بن حارثة ، وملخصها أنه سُرِق من أهله ، وبِيع في سوق العبيد على أنه عبد ، فاشتراه حكيم بن حزام ، ثم وهبه للسيدة خديجة أم المؤمنين ، فوهبته خديجة رضي الله عنها لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصار مَوْلىً لرسول الله . وبينما هو ذات يوم بالسوق ، إذ رآه جماعة من قومه فعرفوه ، وأخبروا أباه أنه بالمدينة ، فجاءه أبوه وأعمامه ، وحكَوْا لرسول الله قصته ، وطلبوا عودته معهم ، فقال رسول الله : خيِّروه ، فإن اختاركم فهنيئاً لكم ، وإنِ اختارني ، فَمَا كان لي أنْ أُسْلِمه ، فردَّ زيد وقال : والله ما كنت لأختار على رسول الله أحداً . فأراد سيدنا رسول الله أنْ يكافىء زيداً على هذا التصرف ، فنسبه إليه على عادة العرب في هذا الوقت ، فسمَّاه زيد بن محمد . فلما أراد الحق سبحانه أن ينهي هذه العادة ، ومثلها عادة الظهار ، نزل قوله سبحانه : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ … } [ الأحزاب : 4 ] . فكما أن الرجل لا يكون له إلا قلب واحد ، كذلك لا يكون له إلا أب واحد ، وشاء الله أنْ يبدأ بمُتَبنَّى رسول الله ليكون نموذجاً تطبيقياً عملياً أمام الناس ، وكانت هذه الظاهرة يترتب عليها أنْ يرث المتبنَّى من المتبنِّي بعد موته ، وأنْ تُحرم زوجة المتبنَّى أنْ يتزوجها المتبنِّي . صحيح أن القضاء على هذه العادة قضاءٌ على نظام اجتماعي فاسد موجود في الجزيرة العربية ، لكنه في الوقت نفسه دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنَّى كما يتبنَّى العرب ، وأن الله تعالى أبطل من رسول الله هذا التصرّف وهذا سيفتح الباب أمام معاندي رسول الله أنْ يَشْمتوا فيه ، وأن تتناوله ألسنتهم لذلك عالج الحق سبحانه هذه القضية علاج ربٍّ بإنفاذ الأمر في نُصْرة حبيب له ، فلم يُشوِّه عمل الرسول ، إنما جعل فِعْله عَدْلاً ، وحكمه سبحانه أعدل ، فقال : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ … } [ الأحزاب : 5 ] . والمعنى : إنْ كُنتم جعلتم من العدل والمحبة أنْ تكفلوا هؤلاء الأولاد ، وأنْ تنسبوهم إليكم ، فهذا عَدْل بشريٌّ ، لكن حكم الله أعدل وأقْسَط ، وشرفٌ لرسول الله أنْ يردَّ اللهُ حكمه إلى حكم ربه ، وشرفٌ لرسول الله أن يكون له الأصل في المسألة ، وأنه يحكُم ، فيردّ الله حكمه إلى حكمه ، فهذا تكريم لرسول الله . فقوله تعالى { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ … } [ الأحزاب : 5 ] يعني : أن فِعْل محمد كان قسْطاً وعَدْلاً بقانون البشر ، وقد جاء محمد ليُغيِّر قوانين البشر بقوانين ربِّ البشر ، وبهذا خرج سيدنا رسول الله من هذا المأزق . أما زيد فقد عوَّضه الله عما لحقه من ضرر بسبب انتهاء نسبه إلى رسول الله ، فصار زيد بن حارثة بعد أنْ كان زيد بن محمد ، عوَّضه الله وأنصفه بأنْ جعله العَلَم الوحيد من صحابة رسول الله الذي ذُكر اسمه في القرآن الكريم بنصِّه وفصِّه ، فقال سبحانه : { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا … } [ الأحزاب : 37 ] فَخُلَد زيد في كتاب يُتْلى ، ويُتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة . وعلاقة زيد بن حارثة بما نحن بصدده من قوله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ … } [ الأحزاب : 36 ] أنه تزوج من السيدة زينب بنت جحش ، زوَّجه إياها رسول الله ، وقد نزلتْ هذه الآية في زينب ، وفي أخيها عبد الله . ومعنى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ … } [ الأحزاب : 36 ] معنى ما كان أي : أنه شيء بعيد ، لا يمكن أنْ يَرِد على العقل ، أي : أنه أمر مُسْتبعد غير مُتصوَّر ، وكان المنفية تدل على جَحْد هذه المسألة ، فالمؤمن والمؤمنة ، ما دام أن الإيمان باشر قلبيهما لا يمكن أنْ يتركا أمر الله وحكمه ، أو أمر رسوله إلى اختيارهما . { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ … } [ الأحزاب : 36 ] وإلا فلا إيمانَ لا بالله ، ولا برسول الله . فإنْ قُلْتَ : كيف وقد أثبتَ الله الاختيار ؟ نقول : هناك فرق بين اختيارٍ داخلٍ في التكليف ، إنْ شئْتَ فعلْته أو لم تفعله ، وشيء في إيجاد التكليف بداية ، فليس للعباد دخْل في إيجاد الشيء المكلَّف به ، إنما إذا كلَّفتهم أنا ، فأنا صاحب التكليف ، وكونهم يطيعونه أو لا يطيعونه ، فهذا أمر آخر ، ليس للعباد أن يقترحوا التكليف على هواهم لأن التكليف لي ، ولهم الاختيار في طاعته وفي قبوله ، وما دام قد ثبت أنهم آمنوا بالله وآمنوا برسول الله فكان من الواجب عليهم أنْ يرتضوا الأمر ، وألاَّ يُعرِضوا عنه إلى غيره . وقصة طلاق زيد وزينب ، ثم زواج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قصة خاضَ فيها المستشرقون والمغرضون كثيراً ، وتجرأوا على سيدنا رسول الله بكلام لا ينبغي في حقه صلى الله عليه وسلم ، ومن قولهم أن محمداً أحبَّ زينب وأرادها لنفسه ، فأمرها أن تشاغب زيداً حتى يطلقها فيتزوجها . ونقول لهؤلاء الأغبياء : أولاً زينب بنت جحش الأسدية هي بنت عمة رسول الله ، وكان صلى الله عليه وسلم مُكلَّفاً بإدارة أموالها ورعاية شئونها ، وقد نشأتْ تحت عينه ، ولو أرادها لنفسه لتزوَّجها بداية ، وهذا بنصِّ القرآن : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ … } [ الأحزاب : 37 ] . فإن أردتَ أن تعرف ما أخفاه رسول الله فخُذْه مما أبداه الله ، والذي أبداه الله قوله تعالى : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ … } [ الأحزاب : 37 ] وهذا يهدم كلَّ ادعاءاتكم على رسول الله . أما قولهم بانشغال قلب رسول الله بزينب ، فنقول : ولماذا تجعلون انشغالَ قلب محمد انشغالاً جنسياً ؟ ولو تتبِعتُم القصة من أولها لظهر لكم غير ذلك ، فحينما أرسل رسول الله مَنْ يخطب زينب ظنَّ أخوها عبد الله وأختها حَمْنة أنه جاء ليخطبها لرسول الله ، فلما علموا أنه يخطبها لمولاه زيد غضبوا جميعاً ، فكيف تتزوج السيدة القرشية وبنت عمة رسول الله من عبد ، لكن لما علموا أن الأمر من الله أذعنُوا له ووافقوا . ثم بعد أنْ تزوجتْ زينب من زيد تعالتْ عليه ، بل وشعر أنها تحتقره لهذا الفارق بينهما ، فكان زيد يشتكي لرسول الله سوءَ معاملة زوجته له ، وأنها كما نقول منكدة عليه عيشته ، وأنها تعيش معه في بيت الزوجية بالقالب لا بالقلب ، لكن حبه لرسول الله كان يمنعه من طلاقها ، وهو أيضاً لا يريد أن يخسر هذا الشرف الذي ناله بالزواج من ابنة عمة رسول الله . وكان سيدنا رسول الله في كل مرة يشتكي فيها زيدٌ من زينب يقول له { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ … } [ الأحزاب : 37 ] ولو أرادها الرسول لنفسه لقال له طلِّقها ، ولوجد الفرصة أمامه سانحة . ويجب أن نبحث هنا علاقة المرأة بالرجل ، فالخالق سبحانه خلق الرجل للمرأة ، والمرأة للرجل لذلك نجد المرأة العربية أم إياس ، وهي تُوصي ابنتها لما خطبها الحارث ، تقول : " أيْ بُنية ، إنك لو تُركْتِ بلا نصيحة لكنت أغنى الناس عنها ، ولو أن امرأة استغنتْ عن الزوج لِغِنى أبويها وشَدَّة حاجتهما إليها لكنتِ أغنى الناس ، ولكن الرجال للنساء خُلِقْن ، ولهُنّ خُلِق الرجال ، وأن النصيحة لو تركتْ لفضل أدبٍ لتركت لذلك منك ، ولكنها تذكرةٌ للغافل ومعونة للعاقل " . وقلنا : إن الإنسان يستطيع أنْ يعيش أفضل ما يكون من مأكل ومَشْرب وملبس ومسكن ، لكنه مع ذلك لا يستغني بحال عن الزوجة والمرأة كذلك لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرتُ الزوجة أن تسجد لزوجها " . لماذا ؟ لأن الزوج يعطيها ما يعطيه الأب والأم والإخوة ، ويزيد على ذلك مما يقدرون ولا يستطيعون . الشاهد أن المرأة للرجل ، والرجل للمرأة ، مهما وضعوا من أسوار من عِزٍّ أو من جبروت ، أو غيره . إن المسألة بالنسبة لزيد كانت صعبة لأن الله تعالى جعل للزواج ثلاث مراحل ، وردتْ في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً … } [ الروم : 21 ] . فالأولى أنْ يسكن الزوج إلى زوجته ، وأنْ يطمئن إليها ، ويرتاح بجوارها حين تمسح عنه عرقه ، وتحتويه بعد تعب اليوم ومشاق الحياة ، فإن امتنع السَّكَن بسبب مُنغِّصات الحياة ، فليكُنْ بينهما مودة تجمعهما ، ولِمَ لا ، وأنت حين تصاحب صديقاً مثلاً مدة طويلة تجد له مودة في قلبك ، وتجد أن لهذه المودة ثمناً ، فتتحمله إنْ أخطأ ، وتسامحه إنْ أساء ، فما بالك بالزوجة ، أليست أحق بهذه المودة ؟ فإذا ما فُقِدَت المودة أيضاً ، فليبْقَ بين الزوجين التراحم ، فليرحم كل منهما الآخر إنْ أصابه الكِبَر أو المرض ، أو غير ذلك . وقد وصل زيد مع زينب إلى مرحلة فقد فيها السَّكَن والمودة والرحمة بسبب ما بينهما من فارق . أمر آخر ، إنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فكَّر في أمر زينب ، فلماذا تعدلون به إلى التفكير في الغريزة ؟ ولماذا لا تعدلون به إلى مرتبة الإنصاف ، وهو الذي أرغم زينب على الزواج من زيد ، وهي الشريفة القرشية ، وهو العبد المملوك ، فلما وضعها في هذا المأزق أراد أنْ يُطيِّب خاطرها ، ويصلح ما كان منه بأنْ يضمها إليه ، فتصير إحدى أمهات المؤمنين . ثم مَنِ الذي منع رسولاً قال الله عنه أنه بشر من أن تكون له هذه الرغبة ، وكل الرسل السابقين كان لهم هذه - هذا على فرض رغبة رسول الله في زينب - لكن الناس لم يُحسِنُوا الظن . والذي يدلُّنا على أن هذه المسألة كانت ترتيباً ربانياً صِرْفاً ما نجده من الرياضية الإيمانية بين كل من سيدنا رسول الله ، ومولاه زيد ، وابنة عمته زينب ، فقد جمعهم الثلاثة رياضة إيمانية كما نقول نحن الآن : فلان عنده روح رياضية . يعني : يتقبل الهزيمة بروح عالية بدون عداوات أو أحقاد ، فلقد انصاع الجميع لأمر الله بهذه الروح الإيمانية . أما الذين يأخذون من قوله تعالى في حق رسوله { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ … } [ الأحزاب : 37 ] يأخذونها سُبَّة في حقِّ الرسول ، فعليهم أنْ يعلموا أنَّ الخشية نوعان : خشية من شيء تخاف أنْ يضرك ، وخشية استحياء ، فالخشية في { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ … } [ الأحزاب : 37 ] خشية استحياء ، ويكفي أن الحق سبحانه قال في حق رسوله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ … } [ الأحزاب : 53 ] . فالخشية هنا تعني خَوْف رسول الله من ألسنة الكفار التي ستخوض في حقه ، والتي ستقول إن محمداً تزوَّج من امرأة مُتبنَّاه ، لكن غاب عن هؤلاء أن الله تعالى ألغى مسألة التبني ، فليس لهم حجة ، وطبيعي أن يخاف رسول الله من ألسنة الكفار لأنه جاء لنقض عادات وتقاليد جاهلية ، وكان هو صلى الله عليه وسلم أول مَنْ تحمَّل تبعة هذا التغيير لأنه جاء على يديه وفي شخصه صلى الله عليه وسلم . وسيدنا رسول الله حين يستحي من زواجه من زينب أو من كلام الناس ، فإنما يريد أنْ يبرىء عِرْضه وساحته ، مما يشين ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يدفع الشبهة عن نفسه دائماً ، لذلك " لما رآه بعض أصحابه مع امرأة ، فمالوا عنه صلى الله عليه وسلم خشيةَ أنْ يتسببوا له في حرج ، فناداهما رسول الله : " على رِسْلكما إنها صفية " فقالوا : نحن لا نشك فيك يا رسول الله ، فقال : " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم " . فرسول الله يريد أن ينفض عن نفسه أيَّ شبهة ، يريد ألا يجعل لأحد جميلاً عليه ، بأنه ستر على رسول الله . ولا أدلَّ على حيائه صلى الله عليه وسلم من قصته مع عبد الله بن سعد بن أبي السرح ، فلما دخل صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً ومنتصراً كان قد أهدر دم عبد الله بن سعد بن أبي السرح لأنه نال كثيراً من رسول الله ، فجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه يستأمن لعبد الله من رسول الله - يعني : يطلب له الأمان - فما ردَّ عليه رسول الله ، وكان ينتظر أن يقوم رجل من القوم فيقتل عبد الله ، لكن عثمان أعادها مراراً على رسول الله حتى أنه استحى من عثمان فأمِّن عبد الله ، فلما أمَّنه أخذه عثمان وانصرف من مجلس رسول الله . فقال رسول الله لصحابته : " ألم يكن فيكم رجل رشيد يقوم إليه فيقتله ؟ " يعني : قبل أن يُكلِّمه عثمان فيكون قد سبق السيف العذل كما يقولون ، فقام عبد الله بن بشر وقال : يا رسول الله ، لقد كانت عيني في عينك ، أنتظر إشارة منك لأقتله ، لكنك لم تفعل ، فقال سيدنا رسول الله - انظر إلى العظمة " ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين " . أذكر أنه كان لنا أستاذ ، هو سيدنا الشيخ موسى شريف رحمه الله ورضي الله عنه ، وكان رجلاً له مدد من الله ، وقد فسر لنا هذه الآية ، وكنا نذاكر دروسنا قبل أن نحضر درسه ، وكان يصطفيني من بين إخواني الموجودين أمثال الشيخ حسن جاد ، والدكتور خفاجة وأبي العينين وغيرهم ، ليسألني عن مذاكرتنا وما وقف أمامنا من قضايا ، فناداني وكان قد علم من أبي اسم أمي ، فناداني بها فتقدَّمت إليه ، فضربني على قفاي ضربة انحلَّتْ معها القضية التي كانت تقف أمامنا ، تماماً كما تضرب الذي يعاني من الزغطة ضربة على ظهره فتذهب . ولما حدَّثنا الشيخ عن قصة سيدنا عثمان هذه جاء في اليوم التالي وقال : يا أولاد ، رأينا الليلة سيدنا عثمان بحيائه ، فقلت له : كيف تستأمن لرجل قال في رسول الله كذا وكذا ؟ فقال لي : ألاَ تعلم أن الله يحب مَنْ تاب ، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم - ولم يقل : " أنا رأيت رسول الله - ما الذي جعلك تقبل شفاعة عثمان ؟ فقال : ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم بطبيعته كان شديد الحياء . ثم يقول تعالى : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } [ الأحزاب : 36 ] وهنا ثلاثة توكيدات : قد الدالة على التحقيق وبعدها الفعل الماضي ، ثم المفعول المطَلق ضلالاً ، ثم وصف هذا الضلال بأنه مبين . والضلال هو عدم الاهتداء إلى الطريق المؤدِّي إلى الغاية ، لكن قد يضلّ إنسانٌ طريقه ، ثم يأتي مَنْ يفتح عليه ويدلُّه ، أما هذا الذي يعصي الله ورسوله ، فضلاله ضلال مبين لا يجد مَنْ يدلُّه ، ولا مَنْ يهديه أبداً لأن هذا الطريق الذي يسير فيه مُوصِّل إلى الآخرة ، وليس هناك شيء من ذلك . كانت هذه لقطة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عثمان وعباد بن بشر أوضحتْ صفة الحياء في رسول الله ، نعود بعدها إلى ما كنا بصدده من الحديث عن الرياضة الإيمانية التي جمعتْ بين رسول الله وكل من زيد وزينب . وكان سيدنا رسول الله إذا غاب زيد يذهب فيسأل عنه ، فذهب مرة ، فرأى زينب منشغلة في أمور بيتها ، وكانت زينب على حالة طيبة ، فقال صلى الله عليه وسلم : " تبارك الله أحسن الخالقين " كما ترى مثلاً ابنتك في مظهر حسن ، فتقول : ما شاء الله . وكأن رسول الله أراد أنْ يُطيِّب خاطرها ، أو يرفع من روحها نظير ما أجبرها عليه من الزواج بزيد ، ونظير أنها تعيش معه على مضض ، فلما جاء زيد قالت له : لقد جاء رسول الله وسأل عنك وقال لي : تبارك الله أحسن الخالقين ، فقال لها : يا زينب أرى أنْ تكوني لرسول الله لأنك وقعت في قلبه ، وأرى أنْ أُطلِّقك ليتزوجك رسول الله ، فبدا عليها الارتياح ، وتعجبتْ كأنها لم تصدق : إذا طلَّقْتني أتزوج برسول الله ، كان هذا الحوار مجرد كلام . وبالله لو قيل هذا الكلام في غير هذا الموقف ، ولواحد غير زيد لغلى الدم في عروقه ، وفعل ما أفعل ، إنما تأمل الرياضة الإيمانية التي تحلَّى بها زيد . يقول تعالى في هذه المسألة : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ … } .