Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 45-46)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الشاهد : هو الذي يؤيد ويُثبِّت الحق لصاحبه لذلك يطلب القاضي شهادة الشهود ليأتي حكمه في القضية عن تحقيق وبيِّنة ودليل لذلك يقولون إن القاضي لا يحكم بعلمه ، إنما بالبينة حتى إنْ علم شيئاً في حياته العامة ، ثم جاء أمامه في القضاء يتركه ويتنحَّى عنه لقاضٍ آخر يحكم فيه حتى لا يبني حكمه على علمه هو . وحين تتأمل هذه المسألة تجد أن الله تعالى يريد أنْ يُوزِّع مسئولية الحكم على عدة جهات ، حتى إذا ما صدر الحكم يصدر بعد تدقيق وتمحيص وتصفية لضمان الحق . فنرى مثلاً إذا حدثتْ حادثة نذهب إلى القسم لعمل محضر بالحادث ، المحضر يحيله ضابط الشرطة إلى النيابة ، فتحيله النيابة للقاضي ليحكم فيه ، ثم يُعَاد مرة أخرى للسلطة التنفيذية ليُنفَّذ ، كل هذه الدورة يُراد بها تحري الحق ووضعه في نصابه . فما بالك إذا كان الحق سبحانه هو الذي يشهد ، وهو الذي يحكم ، وهو الذي يُنفِّذ الحكم ؟ لا شكَّ أن العدالة هنا ستكون عدالة مطلقة . فإنْ قلتَ : إذن عَلاَم يشهد رسول الله ؟ قالوا : يشهد رسول الله أنه بلَّغ أمته ، كما يشهد الرسل جميعاً أنهم بلَّغوا أممهم كما قال سبحانه : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] . إذن : كل رسول شهيد على أمته ، وأنت شهيد على هذه الأمة أنك قد بلَّغتها ، لكن ميْزتُك على مَنْ سبقك من إخوانك الرسل أن تكون خاتمهم ، فلا نبيَّ بعدك ولذلك سأجعل من أمتك من يخلف الأنبياء الذين يأتون بعد الرسل في مهمتهم . لذلك جاء في الحديث الشريف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " . إذن : ضمن الحق سبحانه في أمة محمد أنْ يوجد فيهم مَنْ يقوم بمهمة الأنبياء في البلاغ ، وهذا معنى { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ … } [ البقرة : 143 ] . وكلمة الناس هنا عامة ، تشمل آدم عليه السلام وذريته إلى قيام الساعة ، فإنْ قلتَ كيف ؟ نقول : يشهدون على الناس بشهادة القرآن أن الرسل قد بلَّغَتْ أممها ، هذا بالنسبة لمن مضى منهم ، أما مَنْ سيأتي فأنتم مطالبون بأن تشهدوا عليهم أنكم قد بلَّغتموهم ، كما يشهد عليكم رسول الله أنه قد بلَّغكم . إذن : فأمة محمد أخذت حظاً من النبوة ، وهو أنها ستُسْتدعى وتشهد على الناس . لذلك يُعِدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته لهذه المهمة ، فيقول : " نضَّر اللهُ امرءاً ، سمع مقالتي فوعاها ، ثم أدَّاها إلى مَنْ يسمعها ، فرُبَّ مُبلَّغٍ أوعى من سامع " . واقرأ أيضاً في ذلك قول الله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً … } [ البقرة : 143 ] لماذا ؟ { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً … } [ البقرة : 143 ] فهذه الأمة في الوسط ، بحيث لا إفراط ولا تفريط ، وما أشبهها بالميزان الذي لا تميل كفة عن الأخرى إلا بما يُوضعَ فيها ، فهي كالميزان العادل الذي لا يميل هنا أو هناك . وقوله سبحانه { وَمُبَشِّراً … } [ الأحزاب : 45 ] لمن استجاب لك بثواب الله ، والبشارة هي الإخبار بالخير قبل أوانه { وَنَذِيراً } [ الأحزاب : 45 ] أي : منذراً لمن لم يُصدقك بعقاب الله ، والإنذار هو التخويف بشرٍّ لم يأْت أوانه { وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ … } [ الأحزاب : 46 ] أي : بأمر منه ، لا تطَوُّعاً من عندك ، فقد يأتي زعيم من الزعماء أو مصلح من المصلحين بمنهج أو بأفكار من عنده ويبثُّها في مجتمعه . فقوله تعالى : { بِإِذْنِهِ … } [ الأحزاب : 46 ] يبين الفرق بين الرسول والمصلح من البشر ، فهذا الذي جاء به محمد من عند الله ، وما بلَّغكم به إلا بأمر الله . ويُشترط فيمَنْ يدعو إلى منهج الخير ثلاثة شروط : الأول : ألاَّ ينتفع بشيء مما يدعو إليه ، وهذا لا يوجد في بشر أبداً ، وقد رأينا : حينما قنَّنَ الرأسماليون غَبَنُوا العمال ، وحينما قنَّنَ الاشتراكيون غبنوا الرأسماليين … وهكذا . وذلك لأن البشر لهم أهواء مختلفة متعددة ، وكلٌّ يريد أنْ يُقنِّن على هواه ، وبما يخدم مصالحه ، يريد أنْ يُسخِّر غيره لخدمة هواه ، وبعد فترة قد تطول تفضحهم التجارب ، ويفضحهم الواقع ، وتُظهِر لهم أنفسهم مساوىء ما قنَّنُوا حتى يثوروا هم على قوانينهم ، وينتفضوا على أنفسهم ، ويعودوا إلى تعديل هذه القوانين . الشرط الثاني : أن يكون على علم بالأحداث المحتملة بعد أنْ يُقنِّن ، وألاَّ تغيب عنه جزئية من جزئيات الموضوع ، فيحتاج إلى تعديل القانون أو الاستدراك عليه . ثالثاً : يُشترط فيمَنْ يُقنِّن أن يكون حكيماً فيما يُقنِّن ، بحيث يضع الأمر في موضعه ، فلا ينصف جماعة على حساب أخرى ، وأن يكون الجميع أمامه سواء . وحين تتأمل هذه الشروط الثلاثة تجدها لا تتوفر إلا في الحق سبحانه وتعالى ، إذن : ينبغي ألاَّ ييُقنِّن للبشر إلا ربُّ البشر ، وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بمثال من المحسوسات ، فالناس في الظلمة يحتاجون لبعض النور ليهتدوا به إلى قضاء مصالحهم في الليل ، فينير كلٌّ منا ليله بما يناسبه من وسائل الإضاءة ، فواحد يشعل شمعة ، وآخر لمبة نمرة خمسة وآخر لمبة نمرة عشرة ، وبعد ما استخدمنا الكهرباء رأينا اللمبة العادية والفوروسنت والنيون والكرستال … إلخ . إذن : أنتم تنيرون ظلمتكم على قدر إمكاناتكم ، فإذا ما أشرقتْ شمس الصباح ، أَتُبْقون على هذه الأنوار ؟ لا بل يطفىء الجميع أنواره لأن نور الشمس يأتي على قدر إمكانات خالقها عز وجل ، لذلك نقول : أطفئوا مصابيحكم ، فقد طلعت شمس الله ، فإذا كان ذلك في النور الحسيِّ فهو أيضاً ومن باب أَوْلَى في النور المعنوي ، فإذا جاءك نور التشريع ونور المنهج من الله ، فأطفىء ما عداه من تشريعات ومناهج . وقوله تعالى : { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [ الأحزاب : 46 ] شبّه الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالسراج ، ولا تستقلّ هذا الوصف في حقِّ رسول الله ، فليس معنى السراج أنه كالسراج الذي يضيء لك الحجرة مثلاً ، إنما هو كالسراج الذي قال له عنه : { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } [ النبأ : 13 ] والمراد : الشمس . فإذا قُلْتَ : فلماذا لم يُوصَف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شمس ، وقد قال تعالى عنها : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً … } [ يونس : 5 ] . والشمس أقوى من السراج ؟ قالوا : الكلام هنا كلام ربٍّ والأسلوب دقيق معجز ، صحيح أن الشمس تنير الدنيا كلها ، إنما أمة محمد مُكلَّفة أن تقوم بدعوته من بعده ، فكأن رسول الله سراج ، والسراج تأخذ منه النور دون أنْ ينقص نورُه ، لكن لا تستطيع أنْ تأخذ من الشمس . وحين سطعتْ أنوار الهداية على لسان رسول الله محمد لم يَعُدْ للشرائع الأولى أنْ تتدخل على حدِّ قول المادح : @ كَأنَّكَ شَمْسٌ والملُوكُ كَواكِبُ إذَا طلعَتْ لم يَبْدُ مِنْهُنَّ كوكَبُ @@ ثم يقول الحق سبحانه : { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ … } .