Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 4-4)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ترتبط هذه الآية بالآيات قبلها ، فقد ذكر الله تعالى معسكرين : معسكراً يحب أنْ يُطاع ، فقال تعالى لرسوله { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ … } [ الأحزاب : 1 ] وقال : { وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ … } [ الأحزاب : 2 ] وبينهما معسكر آخر نُهِي رسول الله عن طاعته { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ … } [ الأحزاب : 1 ] . إذن : نحن هنا أمام معسكرين : واحد يمثل الحق في أجلى معانيه وصوره ، وآخر يمثل الباطل ، وللقلب هنا دَوْر لا يقبل المواربة ، إما أنْ ينحاز ويغلب صاحب الحق ، وإما أنْ يغلب جانب الباطل ، وما دمت أنت أمام أمرين متناقضين لا يمكن أنْ يجتمعا ، فلا بُدَّ أن تُغلِّب الحق لأن الله تعالى : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ … } [ الأحزاب : 4 ] إما الحق وإما الباطل ، ولا يمكن أن تتقي الله وتطيع الكافرين والمنافقين لأن القلب الذي يميل ويغلب قلب واحد . ومعلوم أن القلب هو أهم عضو في الجسم البشري فإذا أصيب الإنسان بمرض مثلاً يصف له الطبيب دواءً ، الدواء يُؤخذ عن طريق الفم ويمرُّ بالجهاز الهضمي ، ويحتاج إلى وقت ليتمثل في الجسم ، فإنْ كانت الحالة أشدَّ يصف حقنة في العضل ، فيصبُّ الدواء في الجسم مباشرة ، فإنْ كان المرض أشد يُعْطَى حقنة في الوريد لماذا ؟ ليصل الدواء المطلوب جاهزاً إلى الدم مباشرة ، ليضخه القلب إلى جميع الأعضاء في أسرع وقت . إذن : فالدم هو الذي يحمل خصائص الشفاء والعافية إلى البدن كله ، والقلب هو الموتور الذي يؤدي هذه المهمة لذلك عليك أنْ تحتفظ به في حالة جيدة ، بأن تملأه بالحق حتى لا يفسده الباطل . وسبق أنْ أوضحنا أن الحيز الواحد لا يمكن أنْ يسع شيئين في وقت واحد فما بالك إنْ كانا متناقضين ؟ وقد مثَّلْنا هذه العملية بالزجاجة الفارغة إنْ أردتَ أن تملأها بالماء لا بُدَّ أنْ يخرج منها الهواء أولاً ليدخل مكانه الماء . كذلك الحال في المعاني ، فلا يجتمع حق وباطل في قلب واحد أبداً ، وليس لك أنْ تجعل قلباً للحق وقلباً للباطل لأن الخالق جعل لك قلباً واحداً ، وجعله محدوداً لا يسع إلا إيمانك بربك ، فلا تزاحمه بشيء آخر . ويُرْوَى أنه كان في العرب رجل اسمه جميل بن أسد الفهري وكان مشهوراً باللسَنِ والذكاء ، فكان يقول : إن لي قلبين ، أعقل بواحد منهما مثل ما يعقل محمد ، فشاء الله أنْ يراه أبو سفيان وهو منهزم بعد بدر ، فيقول له : يا جميل ، ما فعل القوم ؟ قال : منهم مقتول ومنهم هارب ، قال : وما لي أراك هكذا ؟ قال : مالي ؟ قال : نعل في كفِّك ، ونعل في رِجْلك ، قال : والله لقد ظننتهما في رجلي ، فضحك أبو سفيان وقال له : فأين قلباك ؟ وإذا كان القلب هو المضخة التي تضخ الدم إلى كل الجوارح والأعضاء حاملاً معه الغذاء والشفاء والعافية ، كذلك حين تستقر عقائد الخير في القلب ، يحملها الدم كذلك إلى الجوارح والأعضاء ، فتتجه جميعها إلى طاعة الله ، فالرِّجْل تسعى إلى الخير ، والعين لا تنظر إلا إلى الحلال ، والأذن تسمع القول فتتبع أحسنه ، واللسان لا ينطق إلا حقاً . فكل الجوارح إذن لا تنضح إلا الحق الذي تشرَّبته من طاقات الخير في القلب . لذلك يُعلِّمنا سيدنا رسول الله هذا الدرس ، فيقول : " إن في الجسد مضغة ، إذا صَلُحَتْ صَلُحَ الجسد كله ، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " . ثم يأخذ الحق سبحانه من مسألة اجتماع المتناقضين في قلب واحد مقدمة للحديث عن قضايا المتناقضات التي شاعتْ عند العرب ، فيقول سبحانه : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ … } [ الأحزاب : 4 ] . وقد شاع في الجاهلية حين يكره الرجل زوجته ، يقول لها : أنت عليَّ كظهر أمي ، ومعلوم أن ظهر الأم مُحرَّم على الابن حرمة مؤبدة ، لذلك كانوا يعتبرون هذه الكلمة تقع موقع الطلاق ، فلما جاء الإسلام لم يجعلها طلاقاً ، إنما جعل لها كفارة كذب لأن الزوجة ليست أماً لك ، وحدد هذه الكفارة إما : عتق رقبة ، أو إطعام ستين مسكيناً ، أو صيام ستين يوماً . وهذه المسألة تناولتها سورة قد سمع { ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً … } [ المجادلة : 2 ] أي : كذباً لأن الزوجة لا تكون أماً . فالحق سبحانه جاء بمتناقض ، وأدخل فيه متناقضاً آخر ، فكما أن القلب الواحد لا تجتمع فيه طاعة الله وطاعة الكافرين والمنافقين ، فكذلك الزوجة لا تكون أبداً أماً ، فهي إما أم ، وإما زوجة . كذلك وُجد عند العرب تناقض آخر في مسألة التبني ، فكان الرجل يستوسم الولد الصغير ، أو يرى فيه علامات النجابة فيتبناه ، فيصير الولد ابناً له ، يختلط ببيته كولده ، ويرثه كما يرثه ولده ، وله عليه كل حقوق الابن . وهذه متناقضة أيضاً كالسابقة ، فكما أن الرجل لا يكون له قلبان ، وكما أن الزوجة لا تكون أماً بحال ، كذلك المتبنَّى لا يكون ولداً ، فيقول سبحانه : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ … } [ الأحزاب : 4 ] . الدعيُّ : هو الذي تدعى أنه ابنٌ وليس بابن ، وكان هذا شائعاً عند العرب ، وأراد الله سبحانه أنْ يبطل هذه العادة ، ومثلها مسألة الظِّهار ، فألغى القرآن هذه العادات ، وقال : ضعوا كل شيء موضعه ، فجعل للظهار كفارة ، ونهى عن التبني بهذه الصورة . والحق سبحانه ساعةَ يريد أنْ يلغي حكماً يقدم صاحب الدعوى نفسه ليطبق هو أمام الناس لذلك جعل سيدنا رسول الله يبدأ بنفسه ، ويبطل التبني الذي عنده . تعلمون أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج من السيدة خديجة ، وكان لها منزلة عند رسول الله ، وقد اشترى لها حكيم بن حزام عبداً من سوق الرقيق هو زيد بن حارثة ، وكان من بني كلب ، سرقه اللصوص من أهله ، وادعوْا أنه عبد فباعوه ، ثم أهدتْه السيدة خديجة لسيدنا رسول الله ، فصار مولىً لرسول الله ، يخدمه طيلة عدة سنوات ، وما بالكم بمَنْ يكون في خدمة رسول الله ؟ لقد أحبَّ زيدٌ رسول الله ، وعَشِق خدمته ، وقال عن معاملته صلى الله عليه وسلم له : " لقد خدمتُ رسول الله عشر سنين ، فما قال لشيء فعلتُه : لِمَ فعلتَه ، ولا لشيء تركتُه لِمَ تركتَه " . وفي يوم من الأيام ، رآه واحد من بني كَلْب في طرقات مكة ، فأخبر أهله به ، فأسرع أبو زيد إلى مكة يبحث عن ولده ، فدلُّوه عليه ، وأنه عند محمد ، فذهب إلى سيدنا رسول الله ، وأخبره خبر ولده ، وطلب منه أنْ يعود معه إلى بني كلب . ولكن ، ما كان رسول الله ليتخلَّى عن خادمه الذي يحبه كل هذا الحب ، فقال لأبيه : خيِّره ، فإنِ اختاركم فخذوه ، وإن اختارني فأنا له أبٌ ، فلما خيَّروه - قال سيدنا زيد : والله ما كنت لأختار على رسول الله أحداً . عندها أحب رسول الله أن يكافئه على هذا الموقف ، وعلى تمسّكه بخدمته ، فتبنّاه كما تتبنى العرب ، وسمَّوْه بعدها : زيد بن محمد . فلما أراد الحق سبحانه أنْ يبطل التبني بدأ بمتبنَّى رسول الله ، ليكون هو القدوة لغيره في هذه المسألة ، فكيف أبطل الله تعالى هذه البنوة ؟ كان سيدنا رسول الله قد زوَّج زيداً من ابنة عمته زينب بنت جحش ، أخت عبدالله بن جحش ، وقد تعب رسول الله في إقناع عبدالله وزينب بهذه الزيجة التي رفضتها زينب ، تقول : كيف أتزوج زيداً وهو عبد وأنا سيدة قرشية ؟ ثم تزوجته إرضاءً لرسول الله ، وعملاً بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ … } [ الأحزاب : 36 ] . لكنها بعد الزواج تعالتْ عليه ، أنها من السادة ، وهو من العبيد ، فكَرِه زيد ذلك ، ولم يُطِقْ فأحبَّ أنْ يطلقها ، فذهب إلى رسول الله وشكا إليه ما كان من زينب ، وعرض عليه رغبته في طلاقها . فقال له رسول الله : أمسك عليك زوجك ، فعاوده مرة أخرى فقال له : أمسك عليك زوجك فعاوده زيد ، عندها علم رسول الله أن رغبتهما في الطلاق ، وكراهيتهما للحياة الزوجية أمر قدري ، أراده الله لحكمة ، ولأمر تشريعي جديد ، شاء الله أنْ يُوقِع البغض بين زيد وزينب ، فبُغْض زينب لزيد كان تعالياً واستكباراً ، وبُغْض زيد لزينب كان اعتزازاً بالنفس . ولكي يبطل الحق سبحانه تبنَّي رسول الله لزيد قضى بأن يتزوَّج رسول الله من زينب بعد طلاقها من زيد ، ومعلوم أن امرأة الابن تحرم على أبيه ، فزواج سيدنا رسول الله من زينب يعني أن زيداً ليس ابناً لرسول الله ، ويبطل عادة التبني ، والأثر المترتب على هذه العادة . وقد أحسَّ رسول الله بشيء في نفسه ، وتردَّد في هذا الزواج مخافة أنْ يقول الناس ، إن محمداً أوعز إلى زيد أنْ يُطلِّق زينب ليتزوجها هو ، كما يقول بعض المستشرقين الآن ، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يضمر حبَّ زينب في نفسه ، وهذا كلها افتراءات على رسول الله ، فالذي يحب امرأة لا يسعى جاهداً لأنْ تتزوج من غيره ، وحين يريد زوجها أنْ يُطلِّقها لا يقول له : أمسِكْ عليك زوجك . ثم لا ينبغي لأحد أنْ يخوض فيما أخفاه رسول الله في نفسه ، من أنه عاشق أو مُحِبٌّ ، لكن انظر فيما أبداه الله ، فالذي أبداه الله هو الذي يُخفيه رسول الله ، واقرأ : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } [ الأحزاب : 37 ] . إذن : الذي كان يُخفيه رسول الله هو أنه يخاف أنْ تتكلَّم به العرب ، وأنْ تقول فيه مَا لا يليق به في هذه المسألة . ويقول تعالى : { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } [ الأحزاب : 37 ] لماذا ؟ { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ … } [ الأحزاب : 37 ] . وهكذا قرَّر الحق سبحانه مبدأ إبطال التبني في شخص رسول الله . والحق سبحانه حينما يبطل عادة التبني إنما يبطل عادة ذميمة ، تُقوِّض بناء الأسرة ، وتهدم كيانها ، تؤدي إلى اختلاط الأنساب وضياع الحقوق ، فالولد المتبنّي يعيش في الأسرة كابنها ، تعامله الأم على أنه ابنها ، وهو غريب عنها ، كذلك البنت تعامله على أنه أخوها ، وهو ليس كذلك ، وفي هذا من الفساد مَا لا يخفى على أحد . وأيضاً ، فكيف يكون الأب الذي جعله الله سبباً مباشراً لوجودك وتأتي أنت لتردَّ هذه السببية ، وتنقلها إلى غير صاحبها ، وأنت حين تنكر النبوة السَّببية في أبيك فمن السهل عليك - إذن - أنْ تنكر المسبِّب الذي خلق أولاً ، ولِمَ لا وقد تجرأت على إنكار الجميل . وكذلك الذي ينكر البنوة السببية يتجرأ على أنْ ينسب الأشياء إلى غير أهلها ، فينسب العبادة لغير مستحقها ، وينسب الخَلْق لغير الخالق . وإلا ، فلماذا يحثُّنا الحق دائماً على برِّ الوالدين ؟ ولماذا قرن بين عبادته سبحانه وبين الإحسان إلى الوالدين في أكثر من موضع من كتابه العزيز ، فقال سبحانه : { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ النساء : 36 ] وقال : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] . قالوا : لأن الأب هو سبب الوجود المباشر ، فإذا لم تبره ، وأنكرتَ أبوته وتمردْتَ عليها ، فلعلَّك تتمرد أيضاً على سبب الوجود الأصلي ، فالوالدان لهما حق البر والإحسان ، حتى لو كانا كافرين . لذلك ، لما سُئِل صلى الله عليه وسلم : أيسرق المؤمن ؟ قال : نعم ، أيزني المؤمن ، قال : نعم ، أيكذب المؤمن ؟ قال : لا ؟ . فالشرع حين يضع للجريمة حَدّاً وعقوبة ، فهذا إيذان بأنها ستحدث في المجتمع المسلم ، أما الكذب فلم يضع له الشارع حدّاً ، مع أنه أشد من السرقة ، وأعظم من الزنى ، لماذا ؟ قالوا : لأن المؤمن لا يُتصوَّر منه الكذب ، ولا يجترئ هو عليه لأنه إنْ عُرِف عنه الكذب وقال أمامك : أشهد أنْ لا إله إلا الله يمكنك أنْ تقول له : أنت كاذب . ثم يقول الحق سبحانه : { ذَٰلِكُمْ … } [ الأحزاب : 4 ] أي : ما تقدَّم من جَعْل الزوجة أماً ، أو جَعْل الدَّعي ابناً ، فالزوجة لا تكون أبداً أماً لأن الأم هي التي ولدتْ ، كذلك لا يكون للولد إلا أب واحد { ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ … } [ الأحزاب : 4 ] وهل يكون القول إلا بالأفواه ؟ فماذا أضافتْ الأفواه هنا ؟ قالوا : نعم ، القول بالفم ، لكن أصله في الفؤاد ، وما اللسان إلا دليل على ما في الفؤاد ، كما قال الشاعر : @ إنَّ الكَلامَ لَفِي الفُؤاد وَإنَّما جُعِلَ اللسَانُ علَى الفُؤَادِ دَليلاً @@ إذن : لا بدَّ أنْ يكون الكلام نسبة في القلب ، منها تأتي النسبة الكلامية ، فهل ما تقولونه له واقع ، هل الزوجة تكون أماً ؟ وهل الولد الدعيُّ يكون ابناً . فهذا كلام من مجرد الأفواه ، لا رصيد له في القلب ولا في الواقع ، فهو - إذن - باطل ، أما الحق فما يقوله الحق سبحانه { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ } [ الأحزاب : 4 ] والحق هو أن يكون المعتقد في القلب مطابقاً للكائن الواقع . فالإنسان قد يتكلم بكلام استقر في قلبه حتى صار عقيدة عنده ، وهو كلام غير صحيح ، فحين يخبر بهذا الكلام لا يُسمَّى كاذباً لأنه أخبر على وَفْق اعتقاده ، مع أن الخبر كاذب ، فهناك فَرْق بين كذب الخبر ، وكذب المخبر . فالحق سبحانه يعاملنا في الأمر المعتقد في القلب : إنْ كان له واقع ، فهو صِدْق في الخبر ، وصِدْق في المخبر ، وإنْ كان المعتقد لا واقعَ له فهو كذب في الخبر ، وصدق في المخبر . إذن : الأمر المعتقد يكون حقاً ، إنْ كان له واقع ، ويكون كاذباً إنْ لم يكُنْ له واقع ، فإذا لم يكُنْ هناك اعتقاد في القلب أصلاً فهو مجرد كلام بالفم ، وهذا أقل مرتبةً من القول الذي تعتقده وهو غير واقع . فمعنى { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ } [ الأحزاب : 4 ] أي : الواقع الذي يجب أنْ يعتقد ، والإعجاز هنا ليس في أن الله تعالى يقول الحق الواقع بالفعل ، إنما ويخبر بالشيء فيقع في المستقبل على وَفْق ما أخبر سبحانه . واقرأ قوله تعالى : { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] . فالحق سبحانه صادق حين يقول ما كان ، ويصدق حين يقول ما سيكون . والحق سبحانه حين يقول : { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ … } [ الأحزاب : 4 ] كأنه يقول : قارنوا بين قولين : قَوْل بالأفواه ، وقول بالواقع والاعتقاد ، وإذا كان قَوْل الله أقوى من الاعتقاد فقط فهو من باب أَوْلَى أقوى من القول بالأفواه فقط . وقوله تعالى : { وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ } [ الأحزاب : 4 ] يهدي السبيل إلى القول الحق . ثم يقول الحق سبحانه : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ … } .