Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 53-53)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحق - سبحانه وتعالى - وزَّع الأمر بين رسول الله وبين أمته ، فكما قال للرسول في أول السورة { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ … } [ الأحزاب : 1 ] أمر أمته بذكْره وطاعته ، وكما تكلَّم عن أمر يتعلَّق برسول الله تكلَّم كذلك عن أمر يتعلق بأمته في قوله { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ … } [ الأحزاب : 49 ] . بعد ذلك قال لرسول الله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } [ الأحزاب : 45 ] ليُبيِّن عموم نَفْعه لأمته ، فجازاه عن الأمة بأن يُصلُّوا عليه ، وأنْ يتأدبوا حين دخولهم بيته صلى الله عليه وسلم ، فقال هنا : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ … } [ الأحزاب : 53 ] لأن التكليف لا بُدَّ أن يكون لمن آمن بالله . وقلنا : إن الحق سبحانه رب وإله ، ومعنى رب أنه سبحانه خلق وربَّى وأنعم وتفضَّل ، والخَلْق والتربية والإنعام والتفضُّل ليس خاصاً بالمؤمنين ، بل لكل مَن استدعاه الله للوجود من مؤمنين وكافرين . فالشمس تشرق على الجميع ، والمطر يروي أرض المؤمن والكافر ، والأرض تستجيب للكل ، فالذي يُحسِن أَخْذ أسباب الله من عطاء الربوبية يأخذ النتيجة ، وينال نصيبه موقَوتاً بمدى الربوبية في الدنيا { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] والله لا يضيع أجر مَنْ أحسن عملاً . فالمؤمن الذي لا يأخذ يد الله الممدودة له بالأسباب ويهملها يعيش مُتخلِّفاً عالةً على غيره ، يعيش شحاذاً يستجدي قُوتَه حتى من الكافر ، فإذا ما خَلَتْ الساحة للكافر ، وأخذ هو بالأسباب ، وأعطاها حقوقها أخذ هو عطاء الرب ، وكان أَوْلَى بالمؤمن ألاَّ يترك عطاء ربه ، يأخذه مَنْ لا يؤمن بالله ، ثم يتخلف هو عن رَكْب الحضارة ، وإنْ كانت الحضارة التي وصل إليها الكفار اليوم حضارة في الماديات فحسب . أما القيم والأخلاقيات فقد انحدرتْ في هذه المجتمعات ، بدليل أنك حين تذهب إلى هذه البلاد وتنزل مثلاً في فندق - كما نزلنا - تجد مكتوباً على باب الحجرة : إذا دخل عليك اللصوص فلا تقاوم ، فإن حياتك أثمن مما معك ، إذا خرجتَ إلى الشارع فلا تحمل من المال إلا بقدر ضرورياتك . إذن : ارتقوا في شيء ، وانحدروا في أشياء . وإذا كان مظهر ارتقائهم في الناحية الاقتصادية ، فانظر إلى أعلى دَخْلٍ للفرد في العالم تجده في السويد ، ومع ذلك تكثر عندهم الأمراض النفسية والعصبية والانتحار والجنون والشذوذ وغيرها من الأمراض الاجتماعية . لقد تحضَّرتْ هذه البلاد حضارة مادية لأنهم أخذوا بأسبابها ، فأتقن كُلٌّ عمله ، وأعطى وقت العمل للعمل ، فما بين الثامنة إلى الثانية عشرة لا تجد إنساناً في الشارع ، ولا تجد أحداً يجلس على القهوة مثلاً أو يضيع وقت العمل ، وفي وقت الراحة يذهب الجميع إلى المطعم ليأكل السندوتش الجاهز ، ثم يعود إلى عمله . هكذا يعيش المجتمع المادي ، فالذي لا يعمل فيه يموت من الجوع ، والحمد لله أن شبابنا تنبهوا إلى أهمية العمل وتخلَّوْا عن الطفولة التي كانوا يعيشون فيها حتى الثلاثين ، وهم عَالَة على الأبوين . والحق سبحانه هنا يُعلِّمنا الأدب مع رسول الله ، ويجعله لنا قدوة ، فهو صلى الله عليه وسلم عاش عيشة الكفاف مطعماً وملبساً ومسكناً ، فليس عنده إلا عدة حجرات ، لكل زوجة من زوجاته حجرة واحدة ، فليس لديه حجرة صالون أو استقبال ، فلا بُدَّ أن تتعلم الأمة آداب الدخول وآداب الزيارة في مثل هذه الحالة ، وخاصة مع رسول الله في بيوته . فقال سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ … } [ الأحزاب : 53 ] كلمة بيوت جمع بيت ، وهو ما أُعِدَّ للبيتوتة أي : للمبيت فيه ، والمبيت في الأغلب الأعَمِّ لليل ، فهو محل السكون والبيات ، أما النهار فهو محلُّ الحركة ، ولا بد للإنسان بعد التعب والجهد أن يأوي بالليل إلى مكان يستريح فيه ويفيء إليه لذلك سُمِّي البيت سكناً ، كذلك سُمِّيت الزوجة سكناً للسبب نفسه . فالبيت مسكن لإيواء القالب وراحته ، والمرأة سَكَن لإيواء القلب وراحة النفس ، فكلاهما ينبغي أن يكون مصدراً للراحة . والبيت يُجمع على بيوت إنْ أردنا المسكن ، ويجمع على أبيات إنْ أردنا البيت الشعري ، وسُمِّي الشعر بيتاً عند العرب وهم أمة فصاحة وبيان لأنه تأوي إليه المعاني ، كما نأوي نحن إلى بيوتنا ونسكن فيها ، كذلك المعاني تسكن بيت الشعر ، فيصير البيت نفسه حكمة . لذلك يقول أحمد شوقي رحمه الله : لا يزال الشعر عاقلاً - يعني : لا زينة له من قولهم المرأة العاقل أي : التي لا زينة لها - ما لم تُزيِّنه الحكمة ، فهو بدونها هراء لا فائدة منه . ولا تزال الحكمة شاردة حتى يؤويها بيت من الشعر يُحفظ ويُتداول على مَرِّ العصور ، كما نستشهد نحن الآن بأبيات المتنبي والمعري وشوقي … إلخ . والبيتوتة في كل شيء بحسبها ، فالذين يعملون بالنهار بيتوتهم بالليل ، والذين يعملون بالليل بيتوتهم بالنهار ، وإنْ كان الأصل في البيات أن يكون ليلاً ، وإياك أنْ تشغل إنساناً وقت بيتوته سواء أكانت بالليل أو بالنهار ، فوقت العمل للعمل ، ووقت السكن للسكن . لذلك فإن أهل الحكمة عندنا في الفلاحين يقولون : مَنْ يحرس يعني : بالليل لا يحرث يعني : بالنهار لأن الإنسان إنِ انشغل وقت راحته لا يجيد عمله ولا يتقنه . بصرف النظر ، أكان وقت الراحة في الليل أو في النهار ، فأنت مثلاً حين تتأمل البلاد التي تشرق فيها الشمس ثلاثة أشهر أو ستة أشهر ، وتغيب أيضاً ثلاثة أشهر أو ستة أشهر ، هل نتصور أن يعمل أهل هذه البلاد طوال الثلاثة أشهر ، وينامون ثلاثة أشهر ؟ لا إنما يُقسِّمون هذه الفترة في ليل أو نهار إلى فترات : فترة للعمل ، وفترة للراحة . لذلك تجد من عظمة القرآن أنْ يحتاط لمثل هذه الأمور ، فيقول سبحانه : { مِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ … } [ الروم : 23 ] فالنوم يكون بالليل ، ويكون أيضاً بالنهار لمن تستدعي طبيعة عمله أن يعمل بالليل . والبيت يكون على قدر إمكانات صاحبه ، المهم أنْ يكون له مكان يأوي إليه ويستريح فيه ، مهما قَلَّ ، حتى لو كان مكاناً ضيِّقاً على قَدْر ما يسع الإنسان أنْ يضع جنبه على الأرض ، فإنْ كان فيه مُتَّسع فبها ونِعْمت ، وعلى طارق البيت أنْ يراعي مدى البيتوتة لمن يطرق عليه . وكما يتفاوت الناس في البيوت ، كذلك يتفاوتون في ترف الحياة وأسباب الراحة في البيت على حسب الإمكانات ، وما دامت الراحة على قدر الإمكانات ، فينبغي أنْ يتحلَّى كلٌّ بالرضا ، وأنْ يربط بين عمله ودَخْله وبين ترف حياته ، فقبل أنْ تفرض لنفسك حياة مترفة ، افرض لها أولاً عملاً مترفاً بنفس المستوى ، بحيث توفر منه إمكانات هذا الترف . وكما يقول المثل على قدر لحافك مِدّ رجليك فإذا كانت إمكاناتك لا تفر لك إلا الكفاف ، فلتكُنْ راضياً به ، وإنْ تمردَّتَ وطلبْتَ المزيد فلتتمرد أولاً على نفسك ، ولتعمل العمل الذي يوفر لك ما تتطلع إليه . وآفة الناس في اقتصادهم أنْ يحددوا مستوى الحياة أولاً ، ثم يرغمون دخولهم وإمكاناتهم على هذا المستوى ، فيحدث العجز ، ولا تفي الإمكانات بالمتطلبات ، إنما الواجب أنْ أُحدِّد مستوى حياتي على ضوء دَخْلي وإمكاناتي ، وبذلك يعيش الإنسان سعيداً مرتاحاً لا يرهقه شيء ، ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن الدخول والإمكانات أنْ نراعي الحلال في الكسب وفي الإنفاق . وإذا كانت البيوت وأسباب الراحة فيها بحَسْب إمكانات أصحابها ، فينبغي أنْ تكون أحوالهم النفسية أيضاً على قدر إمكاناتهم حتى لا يمتلىء قلب الفقير حِقْداً على صاحب النعمة . إذن : لا بُدَّ لنا أن نتحلَّى بالرضا ، وأنْ نقنع بما في أيدينا ، ومَنْ يدريك لعل صاحب النعمة هذا ورثها ، وإنْ كان لم يتعب هو فيها فقد تعب أباؤه وأجداده ، وسبق أن قلنا : إن الذي يعرق عشر سنين من حياته يرتاح بقية عمره ، والذي يعرق عشرين سنة يُريح أولاده ، والذي يعرق ثلاثين يُريح أحفاده ، ومَنْ ذا الذي عرق وكدَّ ولم يجد ثمرة عرقه ؟ فمَنْ أراد أنْ يعيش محترماً مكرماً حال شيخوخته فليعمل في شبابه وحال قدرته ، وليعرق قبل أنْ يأتيه يوم لا يجد فيه هذه القدرة لذلك يراعي سيدنا رسول الله هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم : " أعْطوا الأجير حقه قبل أنْ يجفَّ عرقه " . أما الذين يتسكعون في الشوارع أو على القهاوي فليسوا أهلاً لهذه الحياة الكمرية حال شيخوختهم ، كذلك العامل الذي لا يعطي للعمل حقه ، أو لا يتقنه ، أو يجلس يراقب صاحب العمل يتحيَّن الفرصة لإضاعة الوقت . ومعلوم أن القرش إذا اكتسبه صاحبه دون وجه حق كان وبالاً عليه وفساداً لحاله لأنه لم يعرق به . واقرأ إنْ شِئْتَ قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أصاب مالاً من مهاوش ، أذهبه الله في نهابر " والمهاوش هي الطرق غير المشروعة لجمع المال ، وهو نفس المعنى الذي نقصده حين نقول مثلاً : فلان جمع هذا المال من الهَبْش أو النتش ، والنهابر هي الأبواب التي تُفتح لصرف هذا المال فيما لا فائدة منه . وكثيراً ما نرى بعض الناس دخولهم ورواتبهم كبيرة ، ومع ذلك يعيشون عيشة الفقراء ، لا ترى عليهم ولا على أولادهم أثراً لهذه النعمة . والناس يختلفون في نظرتهم إلى النعمة في أيدي الآخرين فقويُّ الإيمان ساعة يرى النعمة في يد غيره لا يحسده عليها ، إنما يرى أنها فَضْل الله على عباده ، وتراه يدعو لصاحب النعمة بالبركة ، ويقول : والله إنه يستحق هذه النعمة وأكثر منها لأنه جَدَّ واجتهد . المؤمن يقول : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ، اللهم بارك له وأعطني من نعمك ، المؤمن يرى في نعمة الدنيا نموذجاً مُصغَّراً لنعمة الآخرة ، فيقول : هذا ما أعدَّه البشر لأنفسهم ، فكيف بما أعدَّه الله لخَلْقه ؟ عندها يتراءى له نعيم الجنة ، فيُقبل عليها بقلب يملؤه الإيمان واليقين ، وهذه النظرة للنعمة عند الآخرين تسمى غِبْطة . أما غير المؤمن - والعياذ بالله - فيحقد على صاحب النعمة ، ويراه غير أَهْل لها ، ويتمنى زوالها من عنده ، ويحسده عليها ، وهذا كله دليل على ضَعْف الإيمان والاعتراض على أقدار الله في خَلْقه . ونُسمِّي المساجد بيوت الله ، وسُمِّي المسجد بيت الله لأنه جُعِل خصيصاً لكي نقابل فيه الله حينما نسمع نداء الصلاة لذلك حذرنا رسول الله أنْ نُدخِل الدنيا معنا بيوت الله ، فحذَّر أنْ تُعقد الصفقات في المساجد ، أو تُنشَد فيها الضالة ، ولا أدلَّ على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم لمن عقد صفقة تجارية في بيت الله : " لا بارك اللهُ لك في صفقتك " وقال لمن نشد ضالته في المسجد : " لا ردَّ اللهُ عليك ضالَّتك " . لأن الإنسان يعيش طوال وقته للدنيا ، فلا يجوز أن يأخذها معه حتى في وقت الصلاة ، فوقت الصلاة للقاء الله ، وهذا الوقت لا يعطل حركة حياتك ، إنما يعطيك شحنة إيمانية تُقوِّيك على متابعة حركة حياتك ، وسبق أن قلنا : إن هذه الشحنة أشبه بشحنة البطارية ، فهل يقال لمن أخذ البطارية ليشحنها أنه عطَّل البطارية ؟ كذلك أنت صَنْعة الله وخِلْقته ، وما بالك بصنعة تُعرض على صانعها كل يوم خمس مرات ، أيصيبها عطب بعد ذلك ؟ وكذلك أنت حين تعرض نفسك على ربك ، تأخذ من هذا اللقاء شحنة إيمان ويقين ، وتتخلَّص من همومك ومشاكلك . لذلك كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما حَزَبَه أمر فزع إلى الصلاة ، ففي الصلاة ترمي بنفسك وترمي بهمومك ومشاكلك في أحضان ربك لأنه سبحانه أعطى الكون أسباباً ، فإذا عزَّتْ عليك الأسباب ولم تُفِدْكَ بشيء فاترُكْ الأسباب ، والجأ إلى المسبِّب سبحانه . وقلنا : إن المسجد بيت الله باختيار الخَلْق ، أما بيت الله الحرام فهو بيت الله باختيار الله لذلك جعله الله قِبْلة كل البيوت ، فإذا ما زُرْته ولو مرة واحدة أصلح حياتك كلها . نعود إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أنْ يتحلى به المؤمنون من أدب في دخولها ، وما يجب أنْ يُراعَي في دخول هذه البيوت بالذات لأن لها طبيعة خاصة تناسب مهمة صاحبها صلى الله عليه وسلم . { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ … } [ الأحزاب : 53 ] يعني : لا تتهجَّموا عليها لأنها ضيِّقة وليستْ فيها سعة للاستقبال في كل الأوقات ، والإذن هنا مُقيَّد بالطعام { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ … } [ الأحزاب : 53 ] . وحتى إذا دُعِيتَ إلى طعام رسول الله لا تذهبْ إليه قبل وقته ، فإذا كان الغداء مثلاً الساعة الثانية ، فلا تذهب أنت الساعة العاشرة لأنه لا يليق أن تشغل رسول الله وله في بيته مهمات يجب ألاّ ينشغلَ عنها ، مهام مع ربه ، ومهام مع أهل بيته ، وهذا معنى : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ … } [ الأحزاب : 53 ] أي : نضج الطعام واستوائه وإعداده ، والفعل إِنَي على وزن رضا ، وفي لغة : أني أنيا مثل : رمي رمياً . وهنا تحذير للمؤمنين إذا دُعُوا إلى طعام رسول الله أنْ يدخلوا بيوته ينتظرون نُضْج الطعام ، إنما عليهم ألاَّ يدخلوا إلا بعد نُضْج الطعام وإعداده ، بحيث يقول لهم تفضلوا الطعام { وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ … } [ الأحزاب : 53 ] فالطعام جاهز ومُعَدٌّ { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ … } [ الأحزاب : 53 ] فكما نهاهم في أوَّليّة الطعام عن انتظار نُضْجه ، كذلك نهاهم في آخريته عن عدم الجلوس بعده ، إنما ينبغي عليهم إذا أكلوا أنْ ينتشروا . والانتشار : أنْ يأخذ الشيء حيِّزاً أوسع من حجمه ، والانتشار يُعينك على تحقيق الغاية ، ألسْنَا ننشر الملابس بعد غَسلْها ؟ لماذا ؟ لأن نَشْر الغسيل يساعد على جفافه ، ولو تركْتَه في حيِّزه الضيق لاحتاج أسبوعاً لكي يجفَّ ، إذن : في الانتشار فائدة . وسبق أنْ أوضحنا هذه الظاهرة بكوب الماء إذا تركْتَه مثلاً وسافرتَ لمدة شهر ، فإنك ستعُود فتجده كما هو لم ينقص إلا القليل ، لكن إنْ سكبْتَه في أرض الحجرة فسوف يجفّ قبل أنْ تخرج منها . فقوله تعالى هنا { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ … } [ الأحزاب : 53 ] أي تفرَّقوا لأن المكان الذي أنتم فيه في بيت النبي ضيِّق ، إذن : ليذهب كُلٌّ إلى عمله ، وماذا يُراد من المؤمن بعد أنْ تناول طعامه ؟ أنْ يسعى في مناكب الأرض ، لا أنْ يجلس خاملاً عَالةً على غيره ، وتأمل أيضاً قول الله تعالى في سورة الجمعة : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ … } [ الجمعة : 10 ] . إذن : أمر الحق سبحانه عباده المؤمنين بالانتشار لأن له هدفاً وغايةً ، فالهدف السعي وطلب الرزق ، وماذا بعد أنْ تناولتهم طعامكم ؟ أيليق بكم أنْ تقعدوا مثل تنابلة السلطان في بيت رسول الله ، وأنتم تعلمون أنه يعيش عَيِشَة الكفاف في كل شئون حياته ؟ ومن معاني الانتشار : السياحة ، وهي مأخوذة من سَاح الماء إذا فَاض ، وأخذ حيِّزاً أكبر ، والانتشار أو السياحة ينبغي أنْ تكون مُنظمة كما تنتشر نقطة الماء على القماش ، فتحدث فيه دائرة منتظمة . كذلك في انتشاركم في الأرض للسعي في طلب الرزق يجب أنْ يكون بنظام معين ، بحيث لا يحدث تكدُّس في مكان أو زحام ، في حين يخلو مكان آخر لا يجد مَنْ يعمره ، ويستنبط خيراته . والسياحة في الأرض أو الانتشار فيها ، الله تعالى يريده مِنَّا لغايتين : الأولى : الضرب في الأرض وابتغاء رزق الله وفضله ، كما قال الحق سبحانه وتعالى : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ … } [ المزمل : 20 ] . والضرب في الأرض ليس مجرد الانتشار فيها ، إنما المراد العمل والكفاح واستخراج خيراتها لأن الخالق سبحانه نثر القوت في أنحاء الأرض بالتساوي ، ونثر فيها الخيرات لذلك كل يوم تعطينا الأرض جديداً من نِعَم الله ، كنا لا نعرف من خيرات الأرض إلا الزراعة ، فلما تقدَّمَتْ العلوم والاكتشافات وتطوَّرت أدواته عرفنا المعادن والبترول والكنوز المطمورة في أرض الله ، وكل أثر كنزيٍّ في الأرض لا نستخرجه ولا نعرفه إلا بالضرب في الأرض ، وسبق أن قلنا : الضرب إيقاع شيء بقوة . كنا نتعجَّب من الناس الذين يسكنون البوادي والصحراء ونشفق عليهم ، كيف يعيشون في هذا الجَدْب والقَحْط ؟ ولماذا لا يتركون هذا المكان إلى غيره ؟ والآن وبعد الاكتشافات البترولية صاروا هم أغنى الناس وتأتيهم كل خيرات الدنيا تحت أقدامهم . لماذا ؟ لأنهم تمسَّكوا بأرضهم وبلادهم وصبروا عليها ، حتى آن الأوان لجني خيراتها ، ولو أنهم يئسوا منها ما نالوا كل هذا الخير . وسبق أنْ أوضحنا أن خيرات الأرض متساوية ، وشبهناها بقطاع طولي في البطيخة مثلاً ، وإنْ تعددت ألوان هذه الخيرات واختلفت من مكان لآخر . والأخرى : أن تكون السياحة للاعتبار والتأمل في آيات الله في كونه ، فبالتنقل والسير في الأرض أرى آيات ليست موجودة في بيئتي ، وفي ذلك يقول تعالى : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ العنكبوت : 20 ] ويقول سبحانه في موضع آخر : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ … } [ الأنعام : 11 ] . والمعنى أن السَّيْر في الأرض لابتغاء الرزق ينبغي أنْ يصاحبه نظر وتأمُّل لآيات الله . ثم يقول سبحانه : { وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ . . } [ الأحزاب : 53 ] أي : لا ينبغي أنْ تجلسوا بعد الطعام للحديث ، وتجعلوها سهراية في بيت رسول الله ، وهذا النهي كان له سبب وحادثة وقعتْ ، فنزلت هذه الآية . سيدنا رسول الله لم يُولِم وليمة في عُرْس من أعراسه إلا لزينب بنت جحش ، فذبح صلى الله عليه وسلم شاة ، وأعدَّ لهم الحَيْس ، وهو التمر المخلوط بالزبد والسمن ، ثم يوضع عليه اللبن الحامض أو الرايب . فلما أكل الناس جلسوا يتحدثون ، انتظر رسول الله أنْ يقوموا وينصرفوا ، فلم يَقُمْ منهم أحد ، وحياؤه صلى الله عليه وسلم يمنعه أنْ يقول لهم : قوموا ، فأراد صلى الله عليه وسلم أنْ يُظهِر لهم أنه يريد أنْ يقوم ، وقام فعلاً وخرج ، فلم يقُم منهم أحد ووجَد صلى الله عليه وسلم آخرين جالسين بالخارج ، فعاد إلى مجلسه ، فشعر القوم بما يريده رسول الله فانصرفوا . يقول سيدنا أنس : فجئتُ فأخبرتُ رسول الله أنهم انطلقوا ، فجاء صلى الله عليه وسلم ودخل ، فذهبت لأدخل وراءه ، فألقى الحجاب بيني وبينه - يعني : لا أحد يدخل حتى أنت . ومعنى : { إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ … } [ الأحزاب : 53 ] لأنه صلى الله عليه وسلم يريد أنْ تنصرفوا ، لكن يمنعه حياؤه ، وهذا لأن المكان ضيِّق ، ورسول الله في يوم عُرْس ، وليس من المناسب الجلوس عنده . { وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ … } [ الأحزاب : 53 ] لذلك قالوا : حَسْب الثقلاء أن الله لم يحتملهم . هكذا حدثتنا الآية في صدرها عن : آداب الدخول ، وآداب الاستئذان ، وآداب الأكل ، وآداب الجلوس عند رسول الله . ثم تحدَّثنا بعد ذلك عن الآداب التي يجب أنْ يتحلَّى بها المؤمنون في علاقتهم بزوجاته صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ … } [ الأحزاب : 53 ] . المتاع : أواني البيت التي لا تتيسَّر للجميع ، فعادة ما يكون في الشارع أو الحارة بيت أو بيتان مَسْتوران ، عندهم مثل هذه الأشياء : ماجور العجين ، أو المنخل ، أو الغربال ، أو الهون … إلخ . ومثل هذه الأشياء عادة لا تتوفر للفقير ، فيذهب إلى جاره فيستعيرها منه ، وهذا ما قال الله فيه : { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ * فَذَلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ } [ الماعون : 1 - 7 ] . فالمتاع هو الماعون ، وهو أدوات البيت التي يستعيرها منك جارك غير القادر على توفيرها في بيته . إذن : الحق سبحانه في حين جعل للمؤمنين أدباً خاصاً مع رسول الله في الدخول عليه أو الأكل في بيته والجلوس عنده ، لم يمنع الانتفاع بما عنده صلى الله عليه وسلم من متاع البيت ، ومتاع البيت يُطلَب بأنْ تطرق الباب على أهله تقول : أعطونا كذا وكذا ، وعادة ما تُسْأل المرأة لأنها ربةُ البيت والمسئولة عن هذا المتاع ، فإذا طلبتُم شيئاً من زوجات النبي فاطلبوه من وراء حجاب { ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ . . } [ الأحزاب : 53 ] . سبق أنْ قُلْنا : إن المشاعر والإدراكات والمواجيد والعقائد التي تستقرُّ في النفس ، هذه المظاهر الشعورية تتكون على مراحل ثلاث : آلة تدرك ، ووجدان يستقبل ، إما بالمحبة ، وأما بالكراهية ، ثم نفس تنزع ، ومثَّلْنا لذلك بالوردة تراها في البستان جميلة نضرة ، وتشُمُّ رائحتها زكية عطرة ، فهذا إدراك بحاسة البصر وحاسة الشم ، نتج عنه إعجاب ومواجيد ، يترتب عليها أنْ تمدَّ يدك لتقطفها ، وهذا هو النزوع . والشرع لا يتدخل ، لا في الإدراك ، ولا في الوجدان ، إنما يتدخل في النزوع ، فَلَك أنْ ترى جمال الودرة كما تشاء ، ولك أنْ تشمَّ عبيرها ، لكن إن امتدَّتْ يدُكَ إليها قُلْنا لك : قف : أَهِي حَقٌّ لك ؟ إنْ كانت حقك فَخُذْهَا ، وإلا فهي مُحرَّمة عليك لأنها ليَستْ مِلْكك ، وليس في هذا حَجْراً على حريتك لأن الذي قيَّد حريتك في الاعتداء على مال الغير قيَّد حرية الآخرين في الاعتداء عليك ، فأعطاك قبل أنْ يأخذ منك إذن : فالشرع في صالحك أنت . نقول : الشرع لا يتدخل إلا عند مرحلة النزوع ، إلا في علاقة الرجل بالمرأة والنظر إلى جمالها ، فإنه يتدخل فيها من بدايتها ، فيحظر عليك مجرد الإدراك ، لأنك حين ترى جمال المرأة ، وربما كانت أجمل من امرأتك أو لم يسبق لك الزواج ، فإنك تُعجب بها . وهذا الإعجاب لا بُدَّ أنْ يدعوك إلى النزوع ، فكيف تنزع في هذه الحالة ؟ والنزوع في هذه المسألة له شروط : أولها أنْ تأتيه من باب الحلال ، فإنْ لم تكُنْ قادراً على باب الحلال ، فإما أنْ تعفَّ نفسك ، وإما أنْ تعربد في أعراض الآخرين ، لذلك تدخَّل الشرع في هذه المسألة من أولها ، ولم يتركك حتى تقع في المحظور وتنزع فيما لا يحلُّ لك لأن المرأة الجميلة لا شكَّ تهيج في الرجل معاني خاصة . وفي ذلك يقول الشاعر : @ سُبْحانَ مَنْ خَلَق الجَماَ لَ والانْهِزَام لِسَطْوتِهِ وَلَذَاكَ يأمْرنَا بغَضِّ الطَّرْف عنه لَرحمتِهِ من شاء يطْلبه فلا إلاّ بطُهْر شريعتِه وبذَا يدُوم له التمتُّع هَاهُنَا وبجنَّتِهِ @@ أما الذي يدَّعي أن نظره إلى جمال المرأة لا يترك فيه هذا الأثر فهو مخالف للطبيعة ، حتى وإنْ كان متزوجاً ، وإياك أنْ تظن أن امرأة تُغني بجمالها عن جمال في سواها لذلك يقولون : النساء كالخمر ، كل مليحة بمذاق ، فمهما كانت زوجتك جميلة ، وفيها كل المواصفات التي تعجبك فسوف تجد في غيرها الجديد مما ليس فيها . إذن : من رحمة الله بك أنْ لا تدخل في هذه المسألة من أول مراحلها ، فحرَّم مجرد النظر . وإذا كان هذا في المعنى العام للناس ، فكيف يكون مع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال تعالى مخاطباً المؤمنين { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ . . } [ الأحزاب : 53 ] أي بالنظر إلى زوجاته لأن النظر إدراك يتبعه أنْ تجد في نفسك شيئاً ، صحيح أنت لا تستطيع أنْ تُقدِم لأنهن أمهات المؤمنين ، إنما سينشغل قلبك ، ومجرد خواطر القلب هنا إيذاء لسيدنا رسول الله ، بدليل أنه قال بعدها : { وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ … } [ الأحزاب : 53 ] . ورُوِي أن رجلاً رأى السيدة عائشة قبل الحجاب فانبهر بها ، فقال : والله إنْ مات رسول الله لأتزوجنَّ هذه الحميراء ، وإنْ كان كفَّر عن هذه القَوْلة وحَجَّ ماشياً ، وأعتق الرقاب ، ليغفر الله له هذه الجرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فمعنى { ذٰلِكُمْ … } [ الأحزاب : 53 ] أي : أمرنا بأنْ تسألوهنَّ من وراء حجاب ، وهذا الأمر احتياط للطرفين { أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ … } [ الأحزاب : 53 ] لقلوبكم أولاً ، ولقلوبهن ثانياً . وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ … } [ الأحزاب : 53 ] أي : لا ينبغي ولا يكون ، وهذا يعني أنَّ شيئاً لم يحدث ، بل مجرد الخاطر يُعَدُّ إيذاءً لأنه في حق مَنْ ؟ في حق رسول الله . وقوله : { وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً … } [ الأحزاب : 53 ] هذا تكريم لرسول الله ولأزواجه ليس في مدة حياته فحَسْب ، إنما حتى بعد مماته لأنهُنَّ أمهات للمؤمنين ، وليس لأحد أنْ يتزوج منهن بعد رسول الله . ومعلوم أن للزوجة بالنسبة لزوجها خصوصية ، فعادةً في طبيعة التكوين الإنساني ترى الرجل عنده ألوان من الخير ، فإنْ كان صاحب أريحية لا يمنعك شيئاً تتطلبه أو تستعيره منه ، يعطيك من ماله ، من متاع بيته ، يعيرك سيارته … إلخ . إلا ما يتعلق بالمرأة ، فإنه يغار حتى من مجرد أنْ تنظر إليها ، ليس ذلك وهي في حوزته ومِلْكه ، إنما حتى لو كان كارهاً لها ، حتى لو طلقها يغار عليها أن تتزوج بآخر . إذن المرأة هي المتاع الوحيد الذي يحتل هذه المنزلة ، وينال هذا الحفظ وهذه الرعاية ، لماذا ؟ لأنها وعاء النَّسْل ، وكأن الله تعالى يريد للأمة كثرة النسل شريطة أنْ يكون من طُهْر وعِفَّة ونقاء ، فوضع في قلب الرجل حُبَّها والغيرة عليها . لذلك ، تأمل هذا الوصف الذي وصف الله به الأنصار لما استقبلوا المهاجرين ، وأفسحوا لهم في أملاكهم وفي بيوتهم ، فوصفهم الله وصفاً أرقى ما يُوصف به مكان في مكين . فقال سبحانه : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ … } [ الحشر : 9 ] فكأنهم يسكنون في الإيمان { مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ … } [ الحشر : 9 ] . وما استحق الأنصارُ هذا الوصفَ من الحق سبحانه إلا لإيثارهم إخوانهم المهاجرين وبَذْل شيء لم يبذله أحد قبلهم ، حيث كان الواحد منهم يعرض على أخيه المهاجر أنْ يُطلِّق له إحدى زوجاته ليتزوجها ، وهذه هي المسألة التي تثبت أن إيمانَ هؤلاء طغى على كل ما عداه ، وصار أحبَّ شيء إليهم حتى من المرأة ، ومن الغيرة عليها . وقوله تعالى : { إِنَّ ذٰلِكُمْ … } [ الأحزاب : 53 ] أي : ما سبق أنْ ذُكِر من سؤال أمهات المؤمنين من وراء حجاب ، وألاَّ تؤذوا رسول الله ، أو تنكحوا أزواجه من بعده ، كل هذا { كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } [ الأحزاب : 53 ] وكيف يُؤْذَي رسولُ الله ، وهو ما جاء إلا ليحمينا من الإيذاء في الدنيا في الآخرة . ثم يقول الحق سبحانه : { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ … } .