Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 54-54)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فكأن في الآية إشارة تحذير : إياكم أنْ تسرقكم خواطركم في هذه المسألة لأن ربكم لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزُبُ عن علمه شيء ، وإنْ كانت الخواطر والهواجس لا يُحاسب عليها المرء ، إلا أنها محظورة منهي عنها ، إنْ كانت في حَقِّ رسول الله . لقد ورد في الحديث الشريف : " مَنْ هَمَّ بسيئة فلم يعملها كُتبت له حسنة " هذا في الأمور العامة ، أما إنْ تعلَّق الأمر برسول الله فلا لأن مراد الحق سبحانه أنْ يُوفِّر طاقة رسول الله للمهمة التي أُرسِل بها ، وألاَّ يشغله عنها شاغل ، وأيُّ مهمة أعظم من مهمة هداية العالم كله ، ليس في زمنه صلى الله عليه وسلم ، وإنما منذ بعثته وحتى قيام الساعة . وقوله تعالى : { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً … } [ الأحزاب : 54 ] أي : أيّ شيء مهما كان { أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ الأحزاب : 54 ] وعليم صيغة مبالغة في العلم لأن عِلْم الله تعالى عِلْم أزليٌّ ليس مُتجدِّداً بتجدُّد الحدث ، فالله يعلم قبل الفعل وأثناء الفعل وبعده . لذلك قلنا : إن الزمن عندنا نحن ماض وحاضر ومستقبل ، أما بالنسبة للحق سبحانه فليس هناك ماض ولا حاضر ولا مستقبل لذلك يتكلم سبحانه عن المستقبل وكأنه ماض . واقرأ مثلاً : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ … } [ النحل : 1 ] وأتى فعل ماض ومع ذلك قال بعده { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ … } [ النحل : 1 ] والاستعجال لا يكون إلا لشيء لم يَأْتِ وقته ، فكأن أتى معناها بالنسبة لكم سيأتي ، أما بالنسبة للحق سبحانه فإنه أتى بالفعل لأن الزمن كله في علم الله سواء . ومعنى : { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ الأحزاب : 54 ] أي : كان وما يزال عليماً لأنه سبحانه ما دام كان عليماً ، وهو سبحانه لا تتأتى فيه الأغيار ، فهو سبحانه عليم فيما مضى ولا يزال لأنه لا يتغير ، فكان هنا لا تعني أن علمه تعالى نتيجة لحدثكم الذي أحدثتموه ، إنما هو سبحانه عالم قبل أنْ يحدث منكم . وهذه الآية من الآيات التي وقف عندها المستشرقون ليستدركوا كما يظنون على كلام الله لأنهم دائماً يتهموننا أننا ننظر إلى القرآن بقداسة ، وأنه كلام الله فلا نُعمل فيه عقولنا ، وأنهم حين يُدقِّقون في القرآن ويتجرَّأون على البحث فيه يجدون فيه مآخذ - على حَدِّ زعمهم . ووَجْه اعتراضهم في قوله تعالى : { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ الأحزاب : 54 ] ومثله : { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [ النور : 29 ] . يقولون : إذا كان الله يمتنُّ بعلم ما نُخفي ، فما الميزة وما العظمة في علم ما نبدي ؟ نقول : إياك حين تقرأ كلام الله أنْ تُحكِّم فيه عقلك قبل أنْ تؤمن أنه صادر من الله تعالى ، وأن هذا كلامه سبحانه ، وعندها أَدِرْ المسألة في عقلك وابحثها حتى تصل إلى الحكمة ووجه الإعجاز فيها . فقوله تعالى { إِن تُبْدُواْ … } [ الأحزاب : 54 ] الله لا يخاطب فرداً ، إنما يخاطب جمهرة الناس ، والإبداء من الجمهرة لا يمكن لك أن تحدد مصدر الفعل فيه ، بحيث تردُّ كلَّ صوت ، وكلَّ حركة إلى صاحبها . وسبق أنْ مثَّلنا لذلك بالمظاهرة مثلاً التي تختلط فيها الأصوات وتعلوا الهتافات ، وسمعنا مثلاً مَنْ ينادي بسقوط فلان ، أنستطيع في هذه الحالة أنْ نحدد صاحب هذا الهتاف ؟ لا لا نستطيع بسبب اختلاط وتداخل الأصوات ، مع أنه جَهْر أعلنه صاحبه بأعلى صوته وأبداه على الملأ ، ومع ذلك لا تستطيع أنت تحديده . أما الحق سبحانه ، فيعلم الصوت ، ويعلم صاحبه ، ويعلم أثره ونتيجته ، ويريد كل كلمة ، بل وكل نَفَس إلى صاحبه ، فالذين يحاولون التستُّر والاستخفاء في جمهرة الناس عليهم أنْ يحذروا إنْ شوَّشوا على الخَلْق ، واستْخفوا منهم ، فلن يستخفوا من الله ، فالله لا تشتبه عليه اللغات ، ولا تختلط عليه الأصوات . ثم يقول الحق سبحانه : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِيۤ آبَآئِهِنَّ … } .