Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 10-11)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بعد أن فتح الحق سبحانه باب التوبة لعباده ، وأعطاهم الأمل حتى الكافرين منهم ، وبعد أنْ فعلوا برسول الله ما فعلوا ، وسعَوْا في آيات الله معاجزين ما يزال الحق سبحانه رحيماً بهم ، حريصاً عليهم ، فيلفت أنظارهم إلى واسع رحمته . وكأنه سبحانه يقول لهم : لا تستكثروا أفعالكم وذنوبكم أمام رحمة الله ، ولا تصدَّنكم هذه الذنوب عن التوبة والعودة إلى الله ، وإنْ كنتم أذنبتمْ ، فمن الرسل مَنْ حدثت هفوة من بعضهم مع أنهم أنبياء ، فكأن الحق سبحانه مع هذا كله يلتمس لهم عذراً . لذلك ذكر بعدها حكاية سيدنا داود : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً … } [ سبأ : 10 ] وفي موضع آخر بيَّن ما كان من أمر سيدنا داود : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ ص : 24 ] . إذن : لا تخجلوا أنْ تُنيبوا إلى الله لأن سيدكم الذي أعطيته كذا وكذا لمَّا حدثتْ منه هفوة استغفر وخَرَّ راكعاً وأناب ، يريد سبحانه أنْ يُحنِّن قلوبهم ليعودوا إلى أحضان ربهم . كذلك سيدنا سليمان حدثتْ منه هفوة ، فابتلاه الله وعاقبه ، فتاب واستغفر ، واقرأ : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً … } [ ص : 34 ] والجسد يعني : أنه أصبح لا يستطيع الحركة في ذاته { ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ } [ ص : 34 - 35 ] فماذا كان من أمره بعد أن استغفر { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ * وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } [ ص : 36 - 38 ] . لذلك يُقال : إن سيدنا سليمان ركب البساط مرة ، فداخله شيء من الزَّهْو أو الإعجاب ، فمال به البساط ، فقال له : اعتدل يا بساط ، فقال : أُمرنا أنْ نطيعك ما أطعتَ الله . والمعنى : أنك ما سخَّرتنا ، إنما سخَّرنا اللهُ لك . ومعنى الفضل الشيء الزائد ، وقد أعطى الله داود عليه السلام نِعَماً كثيرة لم يُعْطِها لكثير من الأنبياء ، أعطاه الاصطفاءَ وأعطاه المنهج ، وزاده نعمة أخرى خاصة به ، وهي أنه ألان له الحديد ، كما قال سبحانه : { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ * أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ … } [ سبأ : 10 - 11 ] . وكلمة { مِنَّا … } [ سبأ : 10 ] دلتْ على أن النعمة ليست من ذاتك ، إنما من الله ، فتقديم الجار والمجرور هنا أفاد قصْر النعمة على المنعِم سبحانه ، ومثلها الجار والمجرور في قوله تعالى في قصة سيدنا موسى عليه السلام : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي … } [ طه : 39 ] . كأن الحق سبحانه يقول لنبيه موسى عليه السلام : لقد أخذك آل فرعون ، والتقطوك من اليم في وقت كانوا يقتلون فيه الأطفال ، وقد جئتَهم في صورة تدعو إلى الشك ، لكنهم أحبوك ، ورأوا فيك قرَّة عَيْن لهم ، وأنت وقتها أسمر اللون ، كبير الأنف ، جعد الشعر يعني : ليس فيك ما يلفت النظر ، لكن تذكَّر أنِّي ألقيتُ عليك محبة مني أنا ، فأحبوك . والفضل من الله يأتي الناس جميعاً ، لكن الرسل لهم نِعَم متميزة ، وفضل أعظم في صورة معجزات ، ويُبيِّن الحق سبحانه فضله على نبيه داود بقوله : { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [ سبأ : 10 ] . يا جبال نداء ، فالله ينادي الجبال لأنها تسمع وتعي هذا النداء { أَوِّبِي … } [ سبأ : 10 ] يعني : رجِّعي معه ما يقول وما يقرأ من الزبور أو من الذكر ، وهنا دليل على أنه يفهم قول الجبال ، وأنها تفهم قوله ، وتُردِّد خلفه ، إذن : للجبال منطق ولغة أفهمها اللهُ نبيَّه داود . وقد تناولنا مسألة تسبيح الجمادات لمَّا تعرضنا لقوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] ورددنا قول مَنْ قال إنه تسبيح الحال لا تسبيح المقال لأن الله قال { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] وما دام قد حكم سبحانه أننا لا نفقه تسبيحهم ، فهو تسبيح بالقول . والذين قالوا بتسبيح الدلالة استعظموا أنْ يكون للجبل كلام ولغة وتفاهم ، لكل هل للجبل كلام معك أنت ؟ للجبل كلام مع ربه وخالقه الذي قال : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] . إذن : ما دَخْلك أنت في هذه المسألة ؟ ولماذا تنكرها ؟ وتأمل قوله سبحانه : { وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ … } [ الرعد : 13 ] فجمع بين تسبيح الرعد وهو جماد وتسبيح الملائكة ، وهم على أجناس المخلوقات ، وأين وجه الدلالة في تسبيح الملائكة ؟ فلماذا العجب ، وقد ثبت أن لكل شيء لغة تناسبه ، وقد رأينا لغة للهدهد ، ولغة للنمل … إلخ . فعظمة سيدنا داود أنه فهم لغة الجبال ، وسمع تسبيحها ، ووافق تسبيحُها تسبيحَه ، كذلك { وَٱلطَّيْرَ … } [ سبأ : 10 ] يعني : يا طير أوِّب مع داود ، وردِّد معه التسبيح . { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [ سبأ : 10 ] وهذه معجزة أخرى لسيدنا داود ، وإذا قال الله عدة أشياء ، ثم حدث في الواقع أنه صدق في واحدة ، ألاَ أُصدِّقه في الأخرى ؟ فإذا قال سبحانه { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [ سبأ : 10 ] فلا بُدَّ أن نصدِّق بذلك ، وأن نعتقد أن الحديد صار في يد سيدنا داود مثل طين الصلصال الذي يشكِّله الأطفال كيفما أرادوا ، لأن البعض يرى أن { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [ سبأ : 10 ] يعني : علَّمه الله أن النار تذيب الحديد ، ولو أن الأمر كذلك فليس فيه معجزة ، ولا ميزة على غيره من الناس . وللحديد ميزات عدة ، وأنواع مختلفة ، وتتوقف مدى أهميته على مدى صلابته ، ولأهميته أنزله الله من عَلٍ كما أنزل الكتب لذلك تكلم سبحانه في سورة الحديد عن الرسل مثل موسى وعيسى - عليهما السلام - وتكلم عن إنزال الكتب ، وقال عن الحديد : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ … } [ الحديد : 25 ] . ومعلوم أن الإنزال يأتي من جهة العلو ، فالحق سبحانه أنزل الكتب ينطق بها الرسل لهداية المهتدى الذي يسمع ، وأنزل الحديد لردع العاصي وزَجْره ، ففي الحديد بأس شديد في وقت الحرب ، ومنافع للناس في وقت السلم . لذلك قال تعالى بعدها : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحديد : 25 ] ينصره في أيِّ شيء ؟ ينصره في الحديد ، وفي استخدامه وقت الحروب ، وسيدنا داود - عليه السلام - آتاه الله ، وأنزل عليه هذا وهذا : الكتاب للهداية ، والحديدَ للحرب . لذلك قال له : { أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ … } [ سبأ : 11 ] يعني : دروعاً واسعة ، وهي عُدة الحرب يلبسها الجندي على مظانِّ الفتك ، وخاصة على الصدر لأن بداخله القلب والرئتين ، ولم يقُلْ له اعمل فأساً ولا محراثاً مثلاً لأن هذه لمنافع الأرض ، والله يريد ما يحمي المنهج ويزجر العاصي . وكانت الدروع قبله تُصنع ملساء يتحرك عليها السيف ويتزحلق ، وربما أصاب منطقة أخرى من الجسم ، وكانت تُصْنع على قدر ما يحمي الصدر ، فعلَّمه الله أنْ تكون واسعة لتحمي أكبر قدر ممكن من الجسم ، فقال { أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ … } [ سبأ : 11 ] . وعلَّمه كذلك أن تكون على شكل حلَقٍ متداخلة { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ … } [ سبأ : 11 ] يعني : أحكم تداخل هذه الحِلَق بعضها في بعض ، حتى إذا ما نزل عليها السيف ثبت على إحداها ولم يتحرك . وكان درع الإمام علي - كرَّم الله وجهه ورضي عنه - ليس لها ظهر ، فقالوا له : أَلاَ تتخذ لدرعك ظهراً ؟ فقال : ثكلتني أمي ، إنْ مكَّنْتُ عدوي من ظهري . فتأمل أن الله تعالى لم يُعلِّم نبيه داود أولاً وسائل السلم ، إنما علَّمه أولاً وسائل الحرب وإعداد العُدة لمن نقض كلمة الله ، وحاد عن منهجه ، علَّمه أنْ يُعِد له ما استطاع من قوة . ومعنى : { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ … } [ سبأ : 11 ] اجعلها بتقدير دقيق وإحكام في النسج ، قال العلماء : السرد : الحِلَق التي يتكون منها الدرع ، وبها خروق تُوضع فيها المسامير التي تثبت الحِلَق بعضها إلى بعض . فمعنى { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ … } [ سبأ : 11 ] يعني : لا تجعل الخُرْق واسعاً ، لا يثبت فيه المسمار ، ولا تجعله ضيِّقاً فيغلق المسمار الحلقة ، وقال آخرون : { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ … } [ سبأ : 11 ] يعني : اعمل منها على قدر ما تحتاج ، ولهذا المعنى قصة : يُرْوى أن سيدنا داود - عليه السلام - كان يأكل من بيت مال المؤمنين لأنه المتولَّى لأمرهم ، فأنزل الله مَلَكاً في صورة رجل ، وجعل الناس يسألونه : كيف يعيش داود ؟ فقال : فيه كثيرون من خصال الخير ، إلا أنه يأكل من بيت المال ، فلما بلغتْ هذه الكلمةُ داود غضب وتألم لها وبكى ، ثم قال : يا ربِّ لم جعلتَ فيَّ هذه المسألة ؟ فعلَّمه الله صناعة الدروع ليعيش منها . فكان يصنع الدرع بأربعة آلاف يعيش منها حتى تنفد ، فيصنع درعاً آخر وهكذا ، فلما أمره الله بصناعة الدروع قال { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ . . } [ سبأ : 11 ] يعني : اجعلها على قَدْر حاجتك ، ولا تبالغ فيها . ثم يقول سبحانه : { وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ سبأ : 11 ] كأن الحق سبحانه يقول لنبيه داود : تذكَّر حين تعمل ما طُلِب منك أنِّي بصير بعملك مُطلع عليه ، وهذه التذكرة لنبي مأمون على التصرف ، فما بالك بنا نحن ؟ إننا نلاحظ العامل يتقن عمله طالما يراه صاحب العمل ، فإنْ غاب عنه أهمل العمل وغَشَّه ، فالله يحذرنا من هذه المسألة . هكذا ورد أمر سيدنا داود في هذا الموضع مختصراً ، وإنْ كانت له قصص في مواضع أخرى . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ … } .