Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 14-14)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلنا : إن من الأشياء التي سخَّرها الله لسليمان ليحقق له مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده أنْ سخَّر له الريح وسخَّر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل … إلخ . وتسخير الجن يعني : أن الله سبحانه وتعالى سخَّر له أخفَّ الخَلْق حركة وأخفاها وهم الجن لأن للجن طبيعة مخصوصة لذلك قال الله عنهم : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ … } [ الأعراف : 27 ] . ولهم أيضاً خِفَّة في مزاولة الأعمال بأن يقصروا زمنها ، وأنْ يكثروا حملها ، والدليل على ذلك أن سليمان - عليه السلام - حينما طلب عرش بلقيس ، وكان في سبأ قال لجلاَّسه : { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [ النمل : 38 ] فلم يتكلم أحد من الإنس لأن سليمان قيَّد الإتيان بزمن فوق قدرة البشر ، وقد طلب سليمان العرش بعد أنْ علم أن قوم سبأ قد خرجوا وهم في الطريق إليه ، ويريد مَنْ يحضر عرش بلقيس قبل أن يصلوا إليه . حتى الجن لم يتعرض لهذه المهمة جنيٌّ عادي ، إنما عفريت من الجن { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن ٱلْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ … } [ النمل : 39 ] . وكلمة عفريت تعني : أنه الماهر من الجن ، الشاطر الذي يأتي بما لا يأتي به غيره من بني جنسه ، وهذا يدل على أن الجن منهم العفريت الماهر ومنهم اللبخة يعني : مثلنا تماماً . وما زلنا في لغتنا العامية نقول : فلان عفريت يعني : ماهر يجيد ما لا يجيده الآخرون . لكن ، كان في مجلس سليمان مَنْ هو أمهر من العفريت وأكثر منه خبرة وخفَّة ، إنه الذي أُوتي قَدْراً من العلم { قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ … } [ النمل : 40 ] . فإن كان العفريت سيأتي بعرش بلقيس قبل أنْ يقوم سليمان من مقامه ، وربما أقام سليمان في مقامه هذا ساعة أو عدة ساعات ، لكن الذي عنده علم من الكتاب تعهد بأنْ يأتي به { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ … } [ النمل : 40 ] وارتداد الطَّرْف لا يحتاج إلى زمن طويل ، فالطرف يطرف في الدقيقة الواحدة عدة مرات . لذلك صوَّر الحق سبحانه سرعة الاستجابة لهذا الفعل ، فقال : { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [ النمل : 40 ] . ولم يتعرَّض السياق لتفاصيل الإتيان بالعرش ، ولم يذكر حتى أن سليمان أمره بالإتيان به ، بل : { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ … } [ النمل : 40 ] هكذا مباشرة لأن الفعل نفسه لم يستغرق وقتاً ، وكذلك جاء التعبير سريعاً مباشراً . والحق - سبحانه وتعالى - يعلم أن الجن كانوا يَسْترقون السمع قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، أما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فقد منعهم الله من استراق السمع ، فقال سبحانه : { فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } [ الجن : 9 ] . وهذه واحدة من ميزات رسالته صلى الله عليه وسلم ، فقبل رسول الله صينَ سر السماء جُلُّه . وبعده صلى الله عليه وسلم صِينَ سرُّ السماء كلُّه . قبل رسول الله كان الجن يصعدون في السماء يسترقُون السمع ، ويلتقطون بعض كلام الملائكة ، ثم يوحونه إلى أوليائهم من شياطين الإنس ، كما قال سبحانه : { وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ … } [ الأنعام : 121 ] . ثم يخبرون الناس بما علموا ، ويدَّعُون أنهم يعلمون الغيب ، وفعلاً تأتي الأحداث كما أخبروا ، فيغشُّون الناس ويخدعونهم ويفتنونهم لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يفضح الجن في هذه المسألة ، فقال : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ … } [ سبأ : 14 ] أي : على سليمان ، وكلمة قَضَيْنَا تعني : أن الموت قضاء ، لا مندوحة عنه ، ولا يترتب على سبب من مرض أو كِبَر أو غيره ، وكما قُلْنا : والموت من دون أسباب هو السبب ، يعني : مات لأنه يموت . لذلك يخاطب الحق سبحانه الأحياء ، بما فيهم سيدنا رسول الله بقوله : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ويخاطبه هو صلى الله عليه وسلم أولاً قبل أنْ يخاطب أمته بهذه الحقيقة . ومعنى ميِّت أى : تؤول إلى الموت ، فنحن ونحن أحياء ميِّتون أي : سنموت ، أما الذي مات بالفعل فيسمى مَيْت بسكون الياء ، كما قال الشاعر : @ * ومَا الميْتُ إلاَّ مَا إلَى القَبْر يُحْمَلُ @@ لذلك ، فإن العلماء لما أعطوْنَا صورة حِسِّية للموت قالوا : مع حياتك التي بدأت انطلق معها سهم الموت إليك ، فعُمْرك بمقدار وصوله إليك ، فنحن - وإنْ كنا أحياء - ميتون . وقوله تعالى : { مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ … } [ سبأ : 14 ] أي : دلَّ الجن ، فضمير الغائبين في دَلَّهُم يعود على معلوم من السياق الأول في : { وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ … } [ سبأ : 12 ] . قالوا في قصة سيدنا سليمان عليه السلام أنه كان يعبد الله ويشكره بمقدار ما أنعم عليه وما أعطاه من الملْك ، فمع كل هذه النِّعم كان يقضي الأسبوع والشهر ولا يأكل إلا الخشكار ، وهي الردة التي نعرفها ، وهي آخر درجة في الدقيق ، والتي نسميها في الفلاحين السِّن ، وهو طعام الفقراء والعبيد ، أما السادة والأغنياء فيأكلون الدقيق الفاخر أو نمرة واحد . وسبحان الله ، أظهر العلم الحديث أن الفائدة في هذا السنّ الذي يأكله الفقراء ، لدرجة أنه أصبح يُوصَف كدواء ، ويجعلونه الآن على هيئة أقراص كعلاج لبعض الأمراض ، حتى أن أهل الرفاهية الذين عاشوا على الدقيق الفاخر وتغذَّوْا طوال حياتهم على الخبز السياحي والقطايف … إلخ . يأتي الواحد منهم في أواخر حياته فيُحرِّم عليه الطبيب كل هذه الأنواع ولا يجد له دواء إلا في السنِّ وفي الردة التي ما ذاقها طوال حياته ، وكأنها معادلة لا بُدَّ أنْ تتم بين الأغنياء والفقراء . وهذه البحوث التي أظهرت لنا أهمية الردة تلفتنا وتُفهمنا معنى قول الله سبحانه وتعالى وقسمه : { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } [ الرحمن : 12 ] . كذلك كان سيدنا سليمان يعبد الله واقفاً ، لا على هيئة مريحة ، فكان يشق على نفسه شكراً لله ، ويقف عابداً لله حتى يتعب ، فيراوح بين قدميه ، ثم يستعين بالعصا يتكىء عليها من شدة تعبه . وقد قضى الله عليه الموت ، وهو على هذه الهيئة ، فلم يكتشف الجن موته ، وظلوا يعملون بين يديه ويجتهدون خوفاً منه عليه السلام . وأراد الحق سبحانه أن يُنهى بموت سليمان مسألة شغلتْ الجن والإنس ، هي قضية علم الجن للغيب ، أراد سبحانه أن يفضح الجن ، وأنْ يُظهر عجزهم عن علم الغيب ، فالغيب لا يعلمه إلا الله . مات سليمان واقفاً متكئاً على عصاه ، وظل على هذه الحالة حتى سلَّط الله على عصاه دابة الأرض ، كما قال سبحانه : { مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ … } [ سبأ : 14 ] . البعض يفهم أن { دَابَّةُ الأَرْضِ … } [ سبأ : 14 ] الأرض التي تقابل السماء ، لكن المراد الدابة التي تَقْرِض كما نقول : قرض الفأر كذا وكذا ، وفعلها قرض يقرض قَرْضاً . مثل : ضرب يضرب ضرباً ، وهذه الدابة هي العتة التي تصيب الخشب وتأكله . هذه الدابة أو العتة ظلتْ تنخر في العصا حتى اختلَّ توازن سليمان عليه السلام ، فسقط على الأرض { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [ سبأ : 14 ] أي : ما مكثوا وما ظلُّوا في العذاب المهين . ومعنى خَرَّ : سقط بلا نظام ، كما جاء في قوله تعالى : { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ … } [ النحل : 26 ] . فالخرور انهيار بلا نظام وبلا ترتيب ، وعندها فقط عَلِم الجن بموت سليمان ، وكذلك الإنس ، وعلموا أنهم لا يعلمون الغيب ، ولو علموا الغيب لاكتشفوا موته ، وما لبثوا في العمل ، وفي التعب والعذاب طوال هذه المدة ، عندها انكشف أمرهم ، وعُلم كذبهم وادعاؤهم معرفة الغيب . وقوله تعالى : { مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [ سبأ : 14 ] يدل على أن الجن يتعب من العمل ويطرأ عليه ما يطرأ على كل حىٍّ من تعب وإجهاد . والمِنْسأة هي العصا من الفعل نَسَأ بمعنى أخَّر ، وسُميَتْ العصا منسأة لأن الإنسان يزجر بها الهوام والحيوانات الضارية التي تؤذيه ويؤخرها عنه ويبعدها ويُردعها لذلك سميت منسأة . وسيدنا موسى - عليه السلام - قال في عصاه لما سأله ربه : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [ طه : 17 - 18 ] . وقد أطال موسى الحديث مع الله لأن الله تعالى آنسه أن يطيل حين قال له { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [ طه : 17 ] ولم يقل له مثلاً : ما بيدك ؟ ثم مَنِ الذي يخاطبه ربه ولا يطيل الحديث معه سبحانه وتعالى ؟ ومع ذلك تدارك موسى أمره ، فقال مُجْمِلاً { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [ طه : 18 ] . ونفهم من قوله تعالى : { مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [ سبأ : 14 ] أن العمل الذي كانوا فيه كان عملاً شاقاً وفيه إهانة لهم لأن الجن يظنون أن لهم خيرية على الإنس ، وأنهم جنس تسامى على البشر ، بدليل قول أبيهم من قبل : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] . فمن الإهانة لهم ، ومن العذاب أنْ يُسخَّروا لواحد من الإنس ، ويعملون له ، ويأتمرون بأمره ، فالعمل الذي كانوا يعملونه لسليمان إنْ لم يكُنْ مُرهقاً لهم بدنياً فهو مرهق نفسياً ، ولم لا وقد سخَّرهم مَنْ هو أدنى منهم - على حسب ظنهم . ولسائل أنْ يسأل : كيف يكون في العذاب المهين مَنْ يخدم نبياً ويعاشره ؟ نقول : هذه الشبهة جاءتْ من كلمة الجن ، ففهمنا أن الجن كلهم كانوا مُسخَّرين لسليمان ، والحقيقة أن الجنَّ سُمِّي كذلك لأنه مستور الفعل لا نراه ، والذي سخر من الجن هم الشياطين ، كما قال سبحانه : { وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ } [ ص : 37 ] . وقال : { وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ … } [ الأنبياء : 82 ] وهؤلاء هم أصحاب العذاب المهين ، أما مؤمنو الجن فلم يكونوا مُسخَّرين . وكلمة خَرَّ بمعنى سقط توحي بأن كرامة الإنسان في روحه ، وفي السر الذي وضعه الله فيه ، فهذا سليمان نبي الله بجلالة قدره ومكانته عند ربه يقول عنه { فَلَمَّا خَرَّ … } [ سبأ : 14 ] وكأنه جماد سقط على الأرض لأن الروح حينما تفارق الجسد يصير كالجماد ، كالعصا وكالحجر . وسبق أنْ قًلْنا : إن الروح ساعة تُسلَب من الجسد أول ما ينسى ينسى اسمه مهما كان عظيماً ، ويقولون : الجثة ثم إذا ما وُضِعَتْ في النعش يقولون : الخشبة . سبحان الله ، لم يَعُد لهذه المادة أية صفة ، بل ويسارع الأهل والأحبة إلى الخلاص منها ودفنها بأسرع ما يمكن ، ولو بقيتْ عندهم لا يتحملها أحد منهم ، لما يطرأ عليها من تغيُّر ورائحة يتأذى منها أقرب الأقارب . ثم يُحدِّثنا الحق سبحانه عن سبأ وأهلها ، فيقول تعالى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ … } .