Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 16-17)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { فَأَعْرَضُواْ … } [ سبأ : 16 ] أي : عن المأمور به ، وهو { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ … } [ سبأ : 15 ] فلم يأكلوا من رزق الله ، إنما أكلوا من سعيهم ومهارتهم - على حدِّ زعمهم - وهذه أول الخيبة ، ثم لم يشكروا الله على هذه النعم لأن النعم أترفتهم فنسوا شكرها . وفَرْق بين ترف وأترف ، نقول : ترف فلان أن تنعَّم . لكن أترف فلان ، أي : غرَّته النعمة لذلك قال تعالى : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا … } [ الإسراء : 16 ] . فلا بأس أنْ تتنعم ، لكن المصيبة أن تُطغيك النعمة ، وتغرّك ، وأول طغيان بالنعمة أن تنسبها إلى نفسك فتقول : بمجهودي وشطارتي كالذي قال : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ … } [ القصص : 78 ] ثم أنْ تنسى المنعِم ، فلا تشكره على النعمة . وفي موضع آخر لخَّص لنا الحق سبحانه هذه القضية في قوله سبحانه { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] . وقال في قوم سيدنا نوح عليه السلام : { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } [ الجن : 16 ] . إذن : صيانة النعمة بشكرها والاعتراف بها كلها منسوبة إلى المنعِم سبحانه ، وحتى نحن على مستوى البشر نقول : فلان هذا حافظ للجميل ، فنزيده ولا نبخل عليه بجميل آخر وآخر ، فما بالك بالحق سبحانه وتعالى ؟ ! وكلمة الإعراض تُعطِي شيئاً فوق الإهمال وفوق النسيان لأن الإعراض أنْ تنصرف عن مُحدِّثك وتعطيه جانبك كما تقول لمَنْ لا يعجبك حديثه اعطني عرض كتافك . إذن : الإعراض تَرْك متعمَّد بلا مبالاة ، أما السهو أو النسيان أو الخطأ أو عند النوم ، فهذه كلها أمور مُعْفىً عنها ، قد رفعها الله عنَّا رحمة بنا ، فربُّك عز وجل لا يعاملك إلا على اليقظة والانتباه وتعمد الفعل . واقرأ إنْ شئتَ قول ربك : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [ طه : 124 ] . لماذا ؟ لأن الإعراض فيه شبهة عدم اعتناء بالآمر ، فالنكبة فيه أشدُّ على خلاف أنْ تكون معتنياً بالآمر ، وبعد ذلك تتهم نفسك لأيِّ سبب آخر . ويقول تعالى أيضاً في الإعراض : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ … } [ فصلت : 51 ] وسوف يأتي الجزاء على قدر الإعراض ، كما بيَّن الحق سبحانه في قوله : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ … } [ التوبة : 34 - 35 ] . كما نقول : أنت ربيتَ مَنْ سيقتلك فيما بعد ، كذلك هؤلاء كنزوا الأموال ليتمتعوا بها قليلاً في دنيا فانية ، ثم يلاقون تبعة ذلك يوم القيامة ، نار تكوى جباههم وجنوبهم وظهورهم ، حتى يتمنى الواحد منهم - والعياذ بالله - لو أنه قلَّل منها حتى يُقلل من مواضع الكيِّ . وتأمل هذا الترتيب : جباههم وجنوبهم وظهورهم ، فسوف تجده نفس ترتيب الإعراض عن المحتاج الذي سأل صاحب المال في الدنيا ، فأول ما يراه يشيح عنه بوجهه ، ثم يعطيه جانبه ، ثم يدير إليه ظهره ، فيأتي الجزاء من جنس العمل وبنفس تفاصيله . فماذا كانت نتيجة هذا الإعراض ؟ يقول تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ … } [ سبأ : 16 ] أي : بعد أن انهار سدُّ العرم ، فسال ماؤه ، فأغرقهم ، ومن العجيب أن الله تعالى جعل من الماء كل شيء حي ، لكن إذا أراده سبحانه وسيلة هلاك أهلك ، وبه أهلك اللهُ قومَ نوح ، وبه أهلك فرعونَ وجنوده ، وهذا من طلاقة قدرة الله ، حيث يوجه الشيء للحياة فيُحيى ، وللهلاك فيُهلك . وبعد أنْ أفزعهم سيل العرم لماذا أرادوا الإقامة بعد ذلك أقاموا في أماكن لا ماء فيها ، فإذا أرادوا الماء جلبوه من الآبار بالقِرَب ، وكأن الماء أحدث لديهم عقدة . وهذه القضية القديمة لها عندنا قصة حديثة : كنا ونحن في الأزهر نلبس القفاطين و الكواكيل ، وكان لنا زميل حالته رقيقة ، وكان لا يملك إلا كاكولة واحدة لبسها حتى بليت وتمزقت ، فكان يمدّ يده من وقت لآخر إلى مكان القطع ويحاول أن يداريه ، حت صارت عادة عنده ، ثم رزقه الله بأخ له توظف واشترى له كاكولة جديدة ، فلما لبسها صارت يده تمتد إلى نفس الموضع ، وتحاول ستر القطع الغير موجود في الجديدة ، فقال له أحد الزملاء : ما لك ؟ فقال : القديمة رعباني . والسيل : أن يسيل الماء على وجه الأرض بعد أن تشرَّبت منه قَدْر حاجتها ، فما فاض عليها سال من مكان لآخر ، والحق سبحانه يعلمنا : قبل أنْ نبحث عن مصادر الماء لا بُدَّ أنْ نبحث عن مصارفه حتى لا يغرقنا ، واقرأ : { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي … } [ هود : 44 ] . فالأمر الأول للأرض أنْ تبلع الماء وتتشرَّبه ، ثم يا سماء أمسكي ماءك لذلك إذا تشبَّعت الأرض بالماء نقول : الأرض عنِّنت يعني : امتلأت بالمياه الجوفية ، فإنْ كانت أرضاً زراعية لا تُخْرِج زرعاً ، وإن كانت في المدن أضرَّت بالمباني ، وفاضتْ في الشوارع وكسرت المواسير … إلخ ، ويعرف أهمية الصرف مَنْ يتعاملون مع الأرض . وسيل العَرِم منسوب إلى العرم ، وله إطلاقات متعددة ، فالعرم هي الحجارة التي تُبنى بها السدود ، أو هو الجُرْذ الفأر الذي نقب السد ، وأحدث به فجوة نفذ منها الماء ، فوسّعها وجعلها عيناً . وقد رأينا ما فعله الماء في تحطيم خط بارليف ، حيث هدى الله أحد مهندسينا جزاه الله خيراً إلى فكرة استخدام ضَخِّ الماء بقوة لإزالة الساتر الترابي الذي كان عقبة في طريقنا للاستيلاء على هذا الخط المنيع وتحطيمه ، وفعلاً كانت فكرة أدهشتْ العالم كله . والعَرِم جمع مفرده عرمة مثل لَبِن ولبنة ، لكن اللبن هو الطوب النىّ أو الطين ، أما العرم فهو الطوب المتحجر . ثم يقول سبحانه : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ … } [ سبأ : 16 ] من صفاتهما أنهما { ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ … } [ سبأ : 16 ] يعني : أبدلهم الله بالجنتين السابق وصفهما بجنتين أُخْريين ، لكن ثمارهما { أُكُلٍ خَمْطٍ … } [ سبأ : 16 ] يعني : ثمر مُرّ تعافُه النفس ، وأشجارهما { وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } [ سبأ : 16 ] . والأثل : هو شجر الطرفاء ، وهو قليل النفع لا ثمر له ، والسدر : هو شجر النبق المعروف ، وهو شجر قليل الفائدة . فكيف يُسمى هذا جنة ؟ قالوا : سماها الحق جنة على سبيل التهكم ، وإلا فليس في الجنة مثل هذا الشجر . ونلحظ أن الحق سبحانه رحيم بهم حتى في العقاب ، فلم يجعلها خاوية ولا شيء فيها . ثم يقرر الحق تبارك وتعالى أن ما نزل بهم ليس ظلماً لهم ، إنما جزاء ما فعلوا { ذَٰلِكَ … } [ سبأ : 17 ] يعني : ما سبق ذِكْره من الأكل الخمط والأثل والسدر { جَزَيْنَاهُمْ … } [ سبأ : 17 ] أي : جزاءً لهم { بِمَا كَفَرُواْ … } [ سبأ : 17 ] والكفر سَتْر النعمة ، وهؤلاء ستروا نعمة الله حين ظنوا أنهم يأكلون من جَهْدهم وسعيهم وملكهم ، وستروا نعمة الله حين لم يلتفتوا إلى المنعم سبحانه ولم يشكروه ، فما أطاعوا في { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ … } [ سبأ : 15 ] وما أطاعوا في { وَٱشْكُرُواْ لَهُ … } [ سبأ : 15 ] . ثم يُنزه الحق سبحانه نفسه بهذا الاستفهام التقريري : { وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } [ سبأ : 17 ] وجاء بالكفور وهي صيغة مبالغة ، ولم يقل سبحانه : الكافر ، وهذا من رحمته سبحانه بعباده ، فهو سبحانه لا يجازي منهم إلاَّ الكفور أي : المُصِرّ على الكفر المتمادي فيه . ثم يقول الحق سبحانه : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً … } .