Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 19-19)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تأمل هذا التعنت وهذا البطر لنعمة الله ، حيث لم يعجبهم أنْ قَاربَ الله لهم بين القرى ، فطلبوا { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [ سبأ : 19 ] يعني : افصل بين هذه القرى بصحارٍ شاسعة ، بحيث لا يستطيع السفر فيها إلا الأغنياء والقادرون الذين يملكون المطايا القوية القادرة على الحمل . إذن : نظرتهم في هذه المسألة نظرة اقتصادية كلها جشع وطمع ، فهم يريدون أنْ يحرموا الفقراء وغير القادرين من السفر للتجارة معهم ، فحين تتقارب القرى وتكثر الاستراحات على طول الطريق ، فلا يكاد المسافر يتجاوز قرية إلا بدَتْ له الأخرى من بعيد ، فهذا يُسهِّل السفر على الفقراء الذين يركبون الدواب الضعيفة ، فوسائل الامتطاء تختلف حسب قدرات الناس ، فواحد على جواد ، وواحد على ناقة ، وواحد على حمار . وقُرْب المسافات بين القرى شجَّع الفقراء على السفر لرحلة الشام لذلك طلب هؤلاء أنْ يباعد الله بين هذه القرى فهو مطلب جَشِع أنانى لذلك قال تعالى بعدها : { وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ … } [ سبأ : 19 ] نعم ظلموا أنفسهم لأنهم حرموها من الراحة التي جعلها الله لهم ، وظلموا أنفسهم لأنهم أرادوا أنْ يحتكروا هذه التجارة ، وألاَّ يخرج إليها غيرهم من الفقراء ، أو ظلموا أنفسهم لأنهم أثبتوا لها عدم اكتمال الإيمان لأن الإيمان لا يكتمل للمؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وهؤلاء يحبون أنْ يستأثروا بالنعمة لأنفسهم ، ويحرموا منها غيرهم . لكن ، كيف تكون المباعدة التي طلبوها في طريق تجارتهم ؟ عرفنا من علم الهندسة أن الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين ، فاستقامة الطريق تُيسِّر الحركة فيه ، وتقلِّل الوقت والمجهود ، والمباعدة لا تكون إلا بتحطيم بعض القرى لتبعد المسافة بينها ، أو بأنْ يلتوي الطريق ، أو يدور هنا وهناك . فكانت نتيجة هذا الجشع والبطر { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ … } [ سبأ : 19 ] أى : أحدوثة يتحدث بها الناس أو حدوتة تُحكى ، كما لو وقع مجرم في أيدي رجال الشرطة ، فجعلوه عبرة لغيره حتى تحاكَى الناس به ، كذلك أهل سبأ جعلهم الله عبرة لغيرهم حتى صارت سيرتهم مثلاً يُضرب ، يقولون في المثل العربي الدال على التفرُّق : تفرقوا أيدي سبأ ، يعني : تفرقوا بعد اجتماع كما تفرَّق أهل سبأ . ومعنى { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ … } [ سبأ : 19 ] أي : التمزيق والتفريق بكل أنواعه وطرقه ، بحيث يتناول التمزيق كل الأجزاء مهما صَغُرَتْ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ … } [ سبأ : 19 ] يعني : فيها عبر وعظات يستفيد منها العاقل في حياته . { لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ سبأ : 19 ] صبار وشكور من صيغ المبالغة ، صبَّار مبالغة من الصبر لأن هؤلاء ظلموا الفقراء واضطهدوهم ، وأرادوا أنْ يقطعوا عليهم سبيل النعمة ، وأن يستأثروا به لأنفسهم وقد تكرر منهم ذلك لذلك لم يقل لكل صبار لأنهم تحملوا من الأذى ما يحتاج إلى صبر كثير . وسبق أنْ قُلْنا : لو علم الظالم ما أعدَّه الله للمظلوم لضَنَّ عليه بالظلم ، ويكفي المظلوم أن الله تعالى سيكون في جانبه يوم القيامة . ومن الغباء أن الظالم حين يتنبه إلى ظلمه وتهدأ شِرَّته وعصبيته يريد أنْ يُكفِّر عن ظلمه ، فيسعى في أبواب الخير ، ويبني مسجداً مثلاً أو مدرسة … إلخ يظن أن له ثوابها ، والحقيقة أن الثواب لمن ظلمهم وأخذ أموالهم لأن الله سبحانه وتعالى يقول : { وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] . وقال أيضاً { شَكُورٍ } [ سبأ : 19 ] يعني : كثير الشكر لله أنْ أقْدره على أن يصبر لذلك قالوا : ما صبرت وإنما صبَّرناك . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ … } .