Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 8-8)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا القول كسابقه يحتاج إلى قائل ومقول له ، ويصح أنْ يكون قائله هو القائل الأول الذي قال { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ … } [ سبأ : 7 ] ويصح أن يكون الآخر الذى سمع القائل الأول فردَّ عليه : { أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ … } [ سبأ : 8 ] . معنى { أَفْتَرَىٰ … } [ سبأ : 8 ] من الافتراء ، وهو تعمُّد الكذب { أَم بِهِ جِنَّةٌ … } [ سبأ : 8 ] أي : جنون يعني : كلامه هراء ، لا وزن له ، ولا يُقال له صدق ولا كذب . لكن لماذا اتهموا رسول الله بأن به جِنَّة بعد أن اتهموه بالكذب والافتراء ؟ قالوا : لأن هذا اتهام كذب ، والكاذب دائماً يخاف أنْ يُفتضح أمره ، وينكشف كذبه لذلك يحاول أنْ يجعل لنفسه مخرجاً حين يثبت كذبه ، فقالوا : { أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ … } [ سبأ : 8 ] فإذا ما ثبت صدق رسول الله ، وأنه ليس كاذباً ولا مفترياً وجد المتهم له مخرجاً فقال : والله أنا لا أدري أهو مُفْتر أم به جِنَّة ، وما دام ثبتَ صِدْقه ، فهو به جِنَّة . وعجيب أن يصف كفار مكة رسول الله بالكذب والافتراء على الله ، وهو واحد منهم ، ما عرفوا عنه إلا أنه الصادق الأمين ، وما جرَّبوا عليه كذباً قط ، وما رأوْه يوماً خطيباً ولا شاعراً ، وهم أهل الفصاحة وفرسان الكلمة ، لا يَخْفى عليهم تذوُّق اللغة وفَهْم الأساليب العربية ، فكان عليهم أنْ يعقلوا أولاً قبل أن يُوجِّهوا لرسول الله هذا الاتهام . ثم ، هل تأتي البلاغة ؟ وهل يأتي النبوغ بعد سنِّ الأربعين ؟ معلوم أن النبوغ يأتي فى أواخر العقد الثانى أو أوائل العقد الثالث من العمر ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لَبِثَ فيهم أربعين سنة قبل أن يُبلِّغهم عن الله كلمة واحدة . لذلك يخاطبهم القرآن ، ويجادلهم بالحجة ، فيقول على لسان سيدنا رسول الله : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يونس : 16 ] يعنى : تدبَّروا الأمر واعقلوه ، فأنتم أهل البلاغة واللسان الفصيح ، ومنكم الخطباء والشعراء ملأوا الدنيا كلاماً ، فهل رأيتم مني شيئاً من هذا ؟ إذن : الذي قال : { أَم بِهِ جِنَّةٌ … } [ سبأ : 8 ] احتاط لنفسه ، فحين يظهر صِدْق رسول الله يقول هو : أنا قُلْت : إنه إما كاذب ، وإما مجنون . ثم يردُّ الحق على هؤلاء : { بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ } [ سبأ : 8 ] كلمة بَلْ تفيد الإضراب عما قبلها ونفيه ورفضه ، ثم إثبات ما بعدها ، فهي تنفي أن يكون رسول الله مفترياً ، وتنفي أن يكون مجنوناً لأن رسول الله ما جرَّبتُمْ عليه كذباً من قبل ، وما رأيتم عليه علامة من علامات الجنون لأن المجنون لا يُحمد على فعل ، ولا يُذم على فعل ، ولا يُوصَف بصدق ولا كذب ، وقد سبق أن مدحتم رسول الله فقلتم عنه " الصادق الأمين " . لذلك يقول الحق سبحانه : { نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 1 - 4 ] وهل يُوصَف المجنون بأنه على خلق عظيم ؟ هل يُوصَف المجنون بالأدب أو الوفاء أو غيرها من خصال الخلق الحميد ؟ فكيف إذن تصفون رسول الله بالجنون ، وقد شهدتم له بسيدة الخصال الحميدة في النفس البشرية وهي الأمانة ، وكنتم تأتمنونه على أشيائكم ، وتضعونها عنده ؟ لذلك خلَّف رسول الله الإمام علياً وراءه بعد أنْ هاجر ليرد الودائع والأمانات إلى أهلها . وبعد أن أبطل الحق سبحانه كذبهم على رسول الله يقرر ما يستحقونه على ذلك من العذاب { بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ } [ سبأ : 8 ] في العذاب لأنهم اتهموا رسول الله بالكذب والافتراء على الله ، ورسول الله لم يكذب ، ولم يفْترِ على الله ، وهم في الضلال البعيد لأنهم وصفوا رسول الله بالجنون ، وهو شيء مُخِلٌّ بتكوينه إنما لم يكذب ، إذن : العذاب مقابل الاتهام بالافتراء على الله ، والضلال البعيد مقابل اتهامه صلى الله عليه وسلم بالجنون . ثم يقول الحق سبحانه : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ … } .