Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 41-44)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى { وَآيَةٌ لَّهُمْ } [ يس : 41 ] هي آية لنا ولهم ، لنا على سبيل الاستدلال نستدل لهم بها لنقنعهم ، ولهم هم أي : تدعوهم إلى الإيمان بالله لذلك لما سُئِل الإمام علي رضي الله عنه : أعرفتَ ربك بمحمد ؟ أم عرفتَ محمداً بربك ؟ فقال : عرفتُ ربي بربي ، وجاء محمد فبلَّغني مراد ربي مني . ومعنى { ٱلْفُلْكِ } السفن { ٱلْمَشْحُونِ } المملوء . والمراد : سفينة سيدنا نوح - عليه السلام - وقد أوحى الله إليه أنْ يصنع السفينة ، ودلَّه على كيفية صناعتها ، كما قال سبحانه : { فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا … } [ المؤمنون : 27 ] . فالسفن في حَدِّ ذاتها من آيات الله ، ولو لم يُوحِ الله إلى نوح أن يصنع السفينة ، كيف كنا ننتقل في الماء ، وهو ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ، فهذه آية أجراها الله تعالى على يد سيدنا نوح ، ليعلم الناسُ جميعاً صناعة السفن ، ثم للعقول بعد ذلك أنْ تُطوِّرها وترقى بصناعتها ، كما نرى الآن السفن العملاقة على أحدث ما يكون ، حيث استبدلَ الإنسانُ قِلْع المركب بآلات البخار والكهرباء ، وحَلِّ الحديد والمعادن محلَّ الخشب والمسامير … الخ . ومع هذا التطور ، وبعد الاستغناء عن قوة الريح في تسيير السفن تظلّ السفن تسير بسم الله وبقدرته حتى إن استخدمت البخار أو الكهرباء لأن الريح لا يعني الهواء الذي يُسيِّر السفن فحسب ، إنما الريح تعني القوة أيّاً كانت لذلك يقول سبحانه : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ … } [ الأنفال : 46 ] . ويقول سبحانه : { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ … } [ الشورى : 33 ] . ويستوقفنا في هذه الآية قوله تعالى : { حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [ يس : 41 ] والآية تتحدث عن العرب الذين نزل القرآن مُخاطباً لهم ، والذين حُمِلوا في السفينة هم آباؤهم لا ذريتهم ، فكيف ذلك ؟ قال القرآن : { حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } [ يس : 41 ] والمراد : آباؤهم لأن الذرية تُطلق أيضاً على الأب لأن الذراري منه ، أو لأن الآباء الذين نجوا في السفينة هم الأصل الأصيل للموجودين الذين يخاطبهم القرآن ، وكانوا هم مطمورين في آبائهم . لذلك سبق أنْ قُلْنا : إن كل واحد منا إلى أنْ تقوم الساعة فيه جزىء حَيٌّ من أبيه آدم لم يطرأ عليه الموت ، ولو تتبعتَ الآباء وسلسلْتَ هذه السلسلة لقُلْتَ إنني من ميكروب حيٍّ جاء من أبي ، وأبي من ميكروب حَيٍّ جاء من أبيه ، وهكذا إلى آدم عليه السلام ، ولو كان هذا الميكروب ميتاً ما جئت . إذن : ففي كل مِنَّا ذرة تكوينية من أبيه آدم لم يطرأ عليها تغيير ، وهذه الذرة هي التى تحمل الفطرة الإيمانية في كل إنسان . ووصف الحق سبحانه الفُلْكَ بأنه مشحون . يعني : مملوء لأن سيدنا نوحاً لم يأخذ فيها المؤمنين ليُنجيهم من الغرق فحسب ، إنما ليُوفِّر لهم سُبُل العيش بعد النجاة ، وإلا فكيف يعيش الناسُ على أرض لا يوجد فيها غيرهم ، لا نبات ولا حيوان ولا طيور ؟ لذلك قال سبحانه مخاطباً نبيه نوحاً : { قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ … } [ هود : 40 ] . وقوله سبحانه : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } [ يس : 42 ] فمن بعد السفينة أخذها الناس نموذجاً ، وصنعوا مثله ، وطوَّروا في صناعته ، فأنشأوا السفن والمراكب والزوارق وغيرها مما يُركَب في البحر . أو : خلقنا لهم من مثله ما يُركَب في البراري والصحراء ، ومن ذلك يُسَمُّون الجمل مثلاً سفينة الصحراء . ثم يحذرنا الحق سبحانه أنْ نغترَّ بهذه المراكب لأنها وسائل للنجاة ، لأنه سبحانه إنْ أراد الهلاك أهلك ، وكم رأينا سُفُناً عملاقة توفرت لها كل سُبُل الأمان والسلامة ، ومع ذلك ابتلعتْها الأمواج بمَنْ فيها . وصدق الله : { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } [ يس : 43 ] فإياك حين تُرزَق بنعمة تخلصك من معطب أنْ تغرَّك النعمة فتحسب فيها الأمن والنجاة لأنك لن تفلت من قبضة الله ، ولا ينقذك أحد ، ولا ينجيك شيء إنْ أراد بك الهلاك ، وهل ترى بيدك شيئاً يُنجيك حين تهبُّ عاصفة ، أو يعلو الموج فوق سفينتك كالجبال ؟ إذن : آلاتك ووسائلك لا تُنجيك من قدري . ومعنى { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } [ يس : 43 ] الصريخ هو الذي تستصرخه وتستنجد به لينقذك ، ويأخذ بيدك ، ويُخرِجك من المأزق الذي أنت فيه . ومن روائع العقائد التي استشفها أهل الإشراق والتنوير أنْ قالوا : الإنسان يصرخ ويستنجد بمَنْ هو أقرب منه : كأبيه : أو أمه ، أو خادمه ، أو جاره … الخ . فإذا لم يجد ؟ يقول : يا الله ، لذلك نسمع بعضهم يقول عند المأزق : يا هُوْه . والمراد يا هُوَ يعني : يا الله لأنه لا يوجد غيره ينقذ ويُغيث . ومن المواضع التي وردت فيها مادة صرخ قوله تعالى حكايةً عن الشيطان { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } [ إبراهيم : 22 ] والمُصْرِخ : هو الذي يُزيل الصراخ يعني : يسعفك ، ويزيل عنك الشدة . وقوله تعالى : { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } [ يس : 43 ] يعني : امتنع المصرخ ، وامتنع عنهم أيضاً المنقذ الذي يتطوَّع فينقذهم ، وهذا قَطْع للأمل في النجاة ، فإنْ أراد اللهُ الإهلاكَ فلا سبيلَ للنجاة أبداً ، إلا بإذنه تعالى ورحمته . لذلك يقول في الآية بعدها : { إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا } [ يس : 44 ] رحمة تنجي من الغرق ، ومعنى { وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } [ يس : 44 ] أن هذه النجاة ليست صَكّاً بالسلامة الدائمة والبقاء المستمر ، إنما هذه النجاة متاعٌ إلى حين ، إلى أنْ يحلَّ الأجلُ ويُدركك الموت ، فأنت إذنْ سلمتَ من الحِمام إلى الحِمام الذي لا بُدَّ منه . وأشبه بذلك قول الفخر الرازي : @ ولَوْ أنَّا إذَا مِتْنَا اسْتَرحْنَا لَكانَ الموْتُ رَاحةَ كُلِّ حَيّ ولكِنَّا إذَا مِتْنَا بُعِثْنَا ونُسَأل بَعْدهَا عن كُلِّ شَيّ @@ وكلمة الحين تعني الفترة من الزمن بحسب ما تُقاس به ، فمثلاً في : { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] الحين يعني : يوم وليلة ، وفي قوله تعالى : { تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ … } [ إبراهيم : 25 ] الحين هنا يعني : سنة ، وفي : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [ الإنسان : 1 ] يعني : مقدار مُحدَّد من الزمن . ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ … } .