Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 102-107)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هنا لم يتعرض السياق لحمل السيدة هاجر ولا ولادتها لإسماعيل ، إنما انتقل مباشرة من البشارة به إلى مرحلة بلوغه السَّعْيَ مع أبيه ، فقال سبحانه بعدها : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ } [ الصافات : 102 ] ذلك لأن الحق سبحانه هو الذي يتكلَّم ، وهو الذي يحكي . ومن البلاغة أنْ نترك ما يُعلم من السياق ، وهذه سمة من سمات الأسلوب القرآني ، ففي قصة سيدنا سليمان - عليه السلام - والهدهد ، قال تعالى : { ٱذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } [ النمل : 28 ] ، ثم يختصر السياق كثيراً من الأحداث ، ويقول : { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [ النمل : 29 ] ولم يتعرض لرحلة الهدهد ، ولا لكيفية توصيل الخطاب إلى الملكة . كذلك هنا : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ } [ الصافات : 101 - 102 ] فبلوغه السَّعْي دلَّ على أن البشارة تحققتْ ، ووُلِد الغلام ، وبلغ مع أبيه السعي ، وفَرْق بين بلغ السعي عموماً ، وبلغ مع أبيه السعي لأن الغلام لا يُكلَّف بالعمل إلا على قَدْر طاقته في الحركة ، وعلى قَدْر عافيته وتحمُّله ، وإسماعيل في هذا الوقت بلغ السعي مع أبيه فحسب لأنه لن يُكلِّفه أبوه الحنون إلا بما يقدر عليه من المصالح ، والأمور الحياتية ، فيفعل الغلامُ ما يقدر عليه ، ويترك ما لا يقدر عليه لأبيه ، ولو كان مع شخص آخر فربما كلَّفه بما لا يستطيع . فلما بلغ الغلامُ هذا المبلغَ { قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } [ الصافات : 102 ] والمعنى : أرى في المنام انه مطلوب مني أنْ أذبحَكَ ، لا أنَّ الذبح تَمَّ في المنام ، وانتهت المسألة بدليل رَدِّ إسماعيل { قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [ الصافات : 102 ] . وتأمَّلَ هنا الحلم على حقيقته ، وعظمة الرد في هذا الامتحان الصعب { قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ } [ الصافات : 102 ] ولم يقُلْ : افعل ما تريد لأن طاعته لأبيه هنا من باطن طاعته لله تعالى وامتثاله لأمر ربه ، فهو يدرك تماماً أن أباه مُتلَقٍّ الأمر من الله ، وإنْ جاء هذا الأمر في شكل رؤيا . إذن : هو يعلم رغم صِغَره أن رؤيا الأنبياء وَحْيٌ حَقٌّ . وسيدنا إبراهيم ينادي ولده { يٰبُنَيَّ } [ الصافات : 102 ] هكذا بالتصغير ، لأن بُني تصغير ابن فلم يقل يا ابني ، فقد أوثقه الحنان الأبوي ، وعرض عليه هذا الابتلاء ، وهو مشحون بعاطفة الحب لولده والشفقة عليه ، لأنه ما يزال صغيراً ، ومعلوم أن حنان الوالد يكون على قَدْر حاجة الولد لذلك المرأة العربية لما سُئِلَتْ : أيّ بنيك أحبُّ إليكِ ؟ فقالت : المريض حتى يشفى ، والغائب حتى يعود ، والصغير حتى يكبر . فقوله : { يٰبُنَيَّ } [ الصافات : 102 ] يعني : أنا لا أعاملك معاملةَ النِّدِّ ، بل معاملة الصغير المحتاج إلى الحنان الأبوي ، فخذ أوامري مصحوبة بهذه العاطفة الأبوية القلبية . وقوله : { فَٱنظُرْ } [ الصافات : 102 ] يعني : فكِّر ، وتدبَّر { مَاذَا تَرَىٰ } [ الصافات : 102 ] أي : في هذه الرؤيا ، فكأن الصغير في هذه المسألة مطلوب منه أمران : بربّك بأبيك ، وبرُّك بربِّ أبيك { قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ } [ الصافات : 102 ] ، فقوله { ٱفْعَلْ } برّ بأبيه . وقوله { مَا تُؤمَرُ } برٌّ بربِّ أبيه . ثم يؤكد سيدنا إسماعيل رغم صغَره فهمه لهذه القضية ، وإدراكه لهذا الابتلاء ، فيقول : { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [ الصافات : 102 ] أي : على هذا البلاء { فَلَمَّا أَسْلَمَا } [ الصافات : 103 ] يعني : هما معاً استسلما لأمر الله ، وأذعنَا لحكمه ، وسلَّم كلٌّ منهما زمام حركته في الفعل لربِّه ، فإبراهيم همَّ بالذبح ، وإسماعيل انقاد ، وقال لأبيه { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [ الصافات : 102 ] . والابتلاء في حَقِّ سيدنا إبراهيم - عليه السلام - ابتلاءٌ مركَّب هذه المرة ، فقد ابتُلِيَ في شبابه حين أُلْقي في النار ، فنجح في الابتلاء ، أما هذه المرة فالابتلاء وهو شيخ كبير ، جاءه الولد على كِبَر ، فهو أحبُّ إليه من نفسه ويُؤمَر بقتله . وكان بوُسْع إبراهيم أنْ يذبحه على غِرَّة ، ودون أنْ يُعلِمه بمسألة الذبح هذه ، ولكنه أراد أنْ يُشرِكه معه في الأجر ، وألاَّ يُوغِر صدره من ناحيته ، وهو يذبحه دون دَاعٍ . وقوله تعالى : { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [ الصافات : 103 ] يعني : ألقاه على وجهه ، أو على جنبه ، قالوا : كان ذلك بمشورة الولد ، حتى لا يرى أبوه وجهه ساعةَ يذبحه ، فتأخذه الشفقة به ، فلا يذبح ، وكأن الولد يُعين والده ويساعده على إتمام الأمر ، وهكذا ظهر الاستسلام واضحاً ، فالولد مُلقىً على الأرض ، والوالد في يده السكين ، يحاول بالفعل ذَبْح ولده ، وأيّ ولد ؟ ولده الوحيد الذي رُزِق به على كِبَر . والابتلاء ليس بأن يموت الولد ، إنما أنْ يذبحه أبوه بيده ، لا بشخص آخر ، ويذبحه بناءً على رؤيا لا أمر صريح لذلك قلنا ابتلاء مركَّب ، لأن وجوه الابتلاء فيه متعددة ، قد اجتاز إبراهيم وولده هذا الابتلاء بنجاح ، واستحق عليه السلام أن يقول الله في حقه : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] . نقول : لما وصل إبراهيم وولده إلى هذه الدرجة من الاستسلام لله ، ناداه الله { وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ } [ الصافات : 104 ] وكأن الله كان معهما يرقب هذا الانقياد من عبدين صَدَقا مع الله ، فجاءهما فرج الله { وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ } [ الصافات : 104 - 106 ] . يعني : ارفع يدك يا إبراهيم عن ذبح ولدك الوحيد ، فما كان الأمرُ إلا بلاءً مبيناً ، أي : واضح قاسٍ عليك أنت وولدك ، وهو مبين لأنه يُبين قوة عقيدة إبراهيم - عليه السلام - في تلقِّي الأمر من الله ، وإنْ كان صعباً وقاسياً ، ثم الانصياع له والطاعة ، وكذلك كان البلاء في حَقِّ ولده الذي خضع وامتثل . وجاء الفداء : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ الصافات : 107 ] ذبح بمعنى مذبوح ، وهو الكبش الذي أنزله الله ، فِداءً لإسماعيل .