Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 127-132)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ } [ الصافات : 127 ] كشأن كل الأقوام التي جاءها الرسل ليخرجوهم من الظلمات إلى النور ، ولا بُدَّ أنْ يُكذبَ الرسل ، يُكذّبهم أهلُ الفساد والمنتفعون من الفساد ، يُكذِّبهم سَادَةُ القوم وكبراؤهم ، لتظلَّ لهم سيادتهم وجبروتهم واستعبادهم للضعفاء { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [ الصافات : 127 ] أي : عندنا للحساب تحضرهم ملائكة العذاب ، والمعنى : لا تظنوا أنكم تُفلتون من أيدينا ، لأن لكم مَعاداً ورجعة كما قال سبحانه : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] . وقوله : { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ الصافات : 128 ] أي : الذين اصطفاهم لطاعته وأخلصهم لعبادته ، ثم تُختم هذه القصة الموجزة لهذا النبي الكريم بما خُتِمتْ به سابقتها { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الصافات : 129 - 132 ] . ونفهم من هذه الخاتمة أن الإحسانَ فَرْعُ الإيمان ، يعني ما كان مُحسِناً إلا لأنه كان مؤمناً أولاً . هكذا لخَّص لنا القرآن قصة هذا النبي ، وبيَّن أنه جاء بقضية عقدية لا قضية تكليفية ، جاء ليُصحِّح للقوم الأساسَ والقاعدةَ التي تُبنى عليها الحياة ، وهذه مهمة الرسل من لدُن آدم عليه السلام ، فقد خلق اللهُ آدمَ أبا البشر خليفةً في الأرض . ومعنى خليفة في الأرض أنْ يزاولَ في الأرض مهمة عن الحق سبحانه وتعالى . ولكي يزاول هذه المهمة أمَدَّه الله بصفات من صفاته ، وهذه الصفات موهوبة ممدودة ليست ذاتية في الخليفة ، لذلك يسلبها الخالق في أيّ وقت ، فالله تعالى هو واجب الوجود الأعلى ، وهو المتصف بهذه الصفات بذاته ، فالله قادر ويعطيك من قدرته قدرةً ، وحكيم ويهبك من حكمته حكمةً تزاول بها الأشياء ، والله قهَّار ويعطيك قهارية تزجر بها مَنْ كان تحت تصرُّفك لتستقيم أمورهم ، ويعطيك رحمانية تحنُو بها على الضعيف والمحتاج . إذن : فمن صفات الحقِّ واجب الوجود الأعلى أنه يعطينا من وجوده وجوداً ، بل وجوداتٍ متعددة بتعدُّد الأفراد ومتوالية الأمثال ، لكن يعطي سبحانه من الوجود الذاتي وجوداً عَرَضياً . فإنْ نظرتَ إلى الآفات التي تصيب الناسَ في حواسِّهم أو في جوارحهم تجدها مرادةً لله تعالى خلقاً أو توجّهاً ، لماذا ؟ لأن الإنسان كما أخبر عنه خالقه : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . وضربنا لذلك مثلاً بالولد مع أبيه ، فلو أن الأب يعطي ولده المصروف كلَّ شهر تجد الولد لا يحرص على لقاء أبيه إلا كل شهر ، إنما لو أعطاه يوماً بيوم لتعرَّض له الولد كل يوم وتمحَّك فيه ، وأظهر نفسه ليأخذ مصروفه الذي تعوَّد عليه ، فتراه مثلاً يمرُّ على أبيه في الصباح . ويقول : يا أبي أنا رايح المدرسة ، فالحاجة هي التي ألجأتْه لمودَّة أبيه . إذن : يجب أنْ نُفسِّر فلسفة الحاجات التي تُعوز النتيجة ، وهذه الحاجات هي التي تُلجئك إلى ربك ، والواقع يؤيد ذلك ، وكثيراً ما نرى الإنسان لا يلجأ لربه ولا يُصلح ما بينه وبين خالقه إلا إذا اختلَّ عنده شيء ، وعزَّتْ عليه أسبابه ، فلا يجد إلا ربه فيقول : يا رب ، يا الله . إذن نقول : الخالق يَهبُ الخليفةَ من صفاته ، لكن تظل هذه الصفات الموهوبة عَرَضيةً غير دائمة لذلك يموت الإنسان جنيناً ، ويموت طفلاً ، ويموت شاباً وكهلاً وشيخاً ، وهذه القضية تُفسِّر لنا الحديث الشريف : " خلق اللهُ آدمَ على صورته ، طوله ستون ذراعاً " . فالهاء يجوز أن تعود على الله تعالى ، فيكون المعنى : خلق اللهُ آدمَ على صورته تعالى ، لا على حقيقته ، وفَرْق بين الصورة والحقيقة ، الصورة هى التي تُؤخذ لك لقطة على هيئة معينة ، ثم تتجمد على هذه الهيئة ، إذن : هذا الخلق لا يعني أن آدم أخذ شيئاً من صفات الله على الحقيقة ، لا إنما على الصورة ، لأن الحقيقة لها دوام ، والصفات في آدم لا دوامَ لها . ويجوز أنْ تعود الهاء على آدم ، فيكون المعنى : خلق اللهُ آدمَ على صورته أي على صورة آدم لأن الله تعالى لم يخلق آدم جنيناً ، ثم وُلِد ثم صار طفلاً فشاباً ، لا بل خلقه أول الأمر هكذا على هذه الهيئة المعروفة للإنسان الكامل الأعضاء والجوارح . إذن : يجوز الوجهان . وفَرْقٌ بين مَنْ يخلق ، ومَنْ يخلق مَنْ يخلق ، ولتوضيح هذه المسألة قلنا : إن الطفل الصغير لا يقدر مثلاً على نقل المائدة من مكانها ، أما الرجل القوي فيستطيع أنْ ينقلها له ، وهو في هذه الحالة لم يُعَدِّ قوته إلى الضعيف ليفعل بنفسه ، إنما عدَّى له أثرَ صفته فحمل عنه واشتال له ، وظلَّ الطفل ضعيفاً غير قادر على الحَمْل . لذلك نقول : إن وَجْه العظمة في خَلْق الله تعالى وفي عطائه ، أنه سبحانه يخلق من قدرته قدرةً ، ويهبك إياها ، فتقدر أنت بنفسك وتعمل بيدك ، فالخَلْق يتطوَّعون ويُعينون الضعيف ويفعلون له ، لكن يظل ضعيفاً ، أما الخالق سبحانه فيعطي الضعيف قوةً فيفعل بنفسه . لكن تنبَّه أن هذه الصفات موهوبةٌ لك لا ذاتية فيك لأنك لستَ أصيلاً في الوجود بل أنت خليفة ، ولا بُدَّ لك أنْ تظلَّ في حضن مَنِ استخلفك ، وإياك أنْ تشذّ عَمَّنْ استخلفك ، وإلا سحبَ منك مقومات هذا الاستخلاف . وحين ترى أصحاب الابتلاءات والعاهات : هذا أعور وهذا أعرج … الخ فاعلم أن الخالق سبحانه يريد أن يلفتكَ إليه ، ويُنبِّهك إلى أنك لست أصيلاً في الوجود إنما مُسْتخلَفٌ ، وأنك شيء ما دام معك مَنِ استخلفك ، فإنْ تخلَّى عنك فأنت لا شيء ، وآفة الإنسان في الكون أنْ يعتبر نفسه أصيلاً ، ولو فهم دوره وحقيقة وجوده لاستقامتْ الأمور . البعض ينظر إلى هذه العاهات على أنها تشويه للخَلْق ولا يرى فيها حكمة ، والحقيقة أنها خُلِقَت لحكمةٍ مرادةٍ لله تعالى ، وما هي إلا وسيلةُ إيضاحٍ للناس كي لا تغترّ بالجوارح السليمة ، وكي تظلَّ على ذِكْر لله الخالق ، وكما قلنا الحاجة هي التي تُلجئك . ونحن نرى مثلاً رجال المرور يعمدون إلى سيارة جديدة مُحطَّمة ، ويجعلونها في مكان بارز يراه الناسُ ليرتدع السائقون عن الرعونة في السُّرعة ، فهذه السيارة وسيلة إيضاح ونموذج جُعِل كذلك لهدف ، وربما تعمَّدوا إعدام السيارة لما يترتَّبُ على إعدام سيارة واحدة من نجاة ملايين السيارات . كذلك أنت أيها المعَافَى ، حين ترى أصحاب العاهات تقول : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ، وتلتفت إلى نِعَم الله عليك التي كثيراً ما تغفل عنها ، فإنْ قُلْتَ : فما ذنبُ هذا المبتلى أنْ يجعله اللهُ وسيلةَ إيضاحٍ لغيره ؟ نقول : لو أدركتَ ما وجده من العِوَض عما فقد لتمنيتَ أن تكون مثله ، لذلك نلاحظ أن أصحاب العاهات عوَّضهم الله بخصلة أخرى تُعوِّض ما فيه من نقص لذلك نقول في الأمثال : كل ذي عاهة جبار وقد رأيتم فاقد الذراعين يلضم الخيط في الإبرة برِجلْيه ، والطفل المكفوف يحفظ القرآن كله وهو ابن السادسة ، أخذ الله منه البصر وأعطاه البصيرة ، إنها مواهب لا يستطيعها الأصحاء . وسبق أنْ قلنا إن الأكتع لو ضربك بيده الكتعاء لعرفتَ أنها ضربة مميتة ، لأنها يد مستريحة لا تعمل ، ففيها من القوة ما ليس للصحيحة ، وإذا انفعل كانت كل قوَّته في هذه اليد . ونحن نقول لإخواننا الذين ابتلاهم الله بفقد البصر : صناديق العلم ! ! لماذا ؟ لأنهم حصَّلوا من العلم ما يعجز عنه المبصرون ذلك لأن المبصر تشغله المرائي المتعددة من حوله ، أما المكفوف فلا يشغله شيء ، فبؤرة الشعور عنده دائماً خالية جاهزة للاستقبال ، ثم هو لا يستطيع أن يقرأ بنفسه ، فينتهز فرصة أن يُقرأ له ، فيُنصت جيداً ، ويعي ما يسمع بحيث لا يحتاج إلى إعادته مرة أخرى لذلك قال أحدهم : @ عَمِيتُ جَنيناً وَالذَّكَاءُ مِنَ العَمَى فَجِئتُ عَجِيبَ الظنِّ لِلعِلْم مَوئِلاً وَغَابَ ضِياءُ العَيْن بالقَلْبِ رَافِداً لعلمٍ إذَا مَا ضَيَّع الناسُ حَصَّلاَ @@ إذن : نحن حينما نرى أصحاب العاهات أو الابتلاءات ننظر إلى كمالنا نحن ، ولا ننظر إلى ما عُوِّضوا به من مواهب في جوانب أخرى ، وسبق أنْ قلنا : إن الذي أبدع السيمْفونية العالمية المشهورة كان أصمَّ ! ! وتيمورلنك الذي دوَّخ العالم وصاحب الفتوحات المعروف كان أعرجَ ! ! والمؤمن الحق حين يرى غيره ممَّن ابتلاهم الله لا يتعالَى عليهم ولا يدلّ عليهم بسلامة جوارحه ، إنما يتواضع لهم ، وهو يعلم أن هذا النقص يقابله عِوَض فيقول في نفسه : يا ترى في أيِّ الجوانب تتفوَّق عليَّ وتتميز عني ؟ وبهذه النظرة يتساوى الجميع . نقول : فعلى الإنسان أنْ يظلَّ دائماً على ذِكْر لهذه الحقيقة أنه خليفةٌ لله في الكون ليس أصيلاً فيه ، وما أشبه هذه الخلافة بالوكالة حين تُوكِّل غيرك في شيء بعينه ، فإنِ اعتبر نفسه وكيلاً في كل شيء فسدتْ الوكالة لذلك نرى العقلاء حين يُوكِّلون غيرهم يُوكِّلون على قَدْر الحاجة والضرورة حتى لا تُستغل الوكالة ، ويطغى الوكيل على صاحب الحق الأصيل . وصلاح الدنيا كلها واستقامة أمور الناس قائمة على هذا المبدأ ، مبدأ الاستخلاف ، فالأصل في الإنسان أنْ يظلَّ خليفةً محتاجاً لمن استخلفه ، والعادة أن الاستغناء يُنسِيك ، والحاجة تُلجِئك وتعطفك إلى مَنِ استخلفك . ولما خلق اللهُ آدمَ ليكون خليفةً في الأرض ، هل أنزله في الوجود ليباشر مهمته في إعمار الأرض واستنباط أسرار الله في الكون ، دون أن يُعِدَّهُ لهذه المهمة ؟ كيف ونحن نأخذ مثلاً اللاعب الذي نعده لمجرد أنْ يلعب فندربه ونعلمه ونصرف عليه ونصحح له أخطاءه ، إلى أنْ يصلَ إلى المستوى المطلوب منه ، فما بالك بمهمة إعمار الأرض ؟ كذلك الحق - سبحانه وتعالى - درَّبَ آدم على هذه المهمة ، فأسكنه في بستان فيه كل ما تشتهيه النفس : { وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } [ البقرة : 35 ] . وهكذا حدَّد الخالق سبحانه لآدم كيفيةَ معيشته في الجنة ، فأحلَّ له أنْ يأكلَ منها كما يشاء ، باستثناء شجرة واحدة . إذن : فالحلال كثير لا يُعَدُّ ولا يُحصى ، أما الحرام فمحدود ، وكذلك شأن الله تعالى في الحياة ، فالأصل في الأشياء الإباحة إلا ما جاء به نصٌّ يحرمه وهو محصور في أشياء بعينها . وتأمل هنا هذا الاحتياط التشريعي في قوله سبحانه : { وَلاَ تَقْرَبَا } [ البقرة : 35 ] ولم يقُلْ : ولا تأكلا ، فالمنهيُّ عنه مجرد قُربها لأن قُرْبك من المحرم يُغريكَ به حتى تقع فيه لذلك تجد أسلوب القرآن في الأوامر يقول : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] أما في النواهي فيقول : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [ البقرة : 187 ] . لذلك لما حرّم الإسلامُ الخمرَ لم يحرم شُرْبها فحسب ، إنما حرَّم كلَّ ما يتصل بها من بيع أو شراء أو نقل أو صناعة ، أو حتى التواجد في مكان هي فيه ، لماذا ؟ لِيَسُدَّ كل الطرق المؤدية إليها المُغْرية بها . وحين يُبين لنا الحق سبحانه الحلالَ والحرامَ والأوامر والنواهي ، فإنما يلفت أنظارنا إلى قضية مهمة ، وكأنه يقول لنا : إن استقمتَ على منهجنا وتكليفنا لك ستظلّ حياتك سليمةً بلا عورة ، خالية من المشاكل والصعاب ، فإنْ تعدَّيْتَ هذه الحدود فانتظر ظهور العورات في المجتمع ، سواء أكانت عوراتٍ اجتماعية ، أم أخلاقية ، أم اقتصادية … الخ . وفي قصة آدم - عليه السلام - حين أكل من الشجرة رمز إلى هذه المسألة ، كيف ؟ لَمَّا استقامَ آدمُ على منْهج ربه والتزم بما أمره الله به عاش في الجنة معافَى بلا سَوْءةٍ ، فلما خالف وأطاع وسوسة الشيطان فأكل من الشجرة التي نُهِي عنها بدتْ سوءتُه لأول مرة ، لأنه لما استقام كان يأكل بطهي ربه له وهو طهْي على قَدْر حاجة الجسم ومُقوِّمات الحياة فلا يبقى منه شيء ، يخرج فضلات من الجسم . ولكن لما تدخلتْ الشهوة ، وأطاع الشيطان أفسد الخلطة الغذائية التي أُعِدَّتْ له ، فتكوَّنت في بطنه الفضلات وأحسَّ لأول مرة بشيء غريب لم يعهده ، وفوجئ بأنْ خُرْقاً في بدنه يخرج منه شيء قذر كريه الرائحة . لذلك عرف آدم أنها عورة ينبغي أنْ تُستر ، فأخذ يقطع من أوراق الشجر ليستر عورته ، ويداري سَوْءَته ، هذا قوله تعالى : { فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ } [ الأعراف : 22 ] . وقد رأينا في أثناء الحروب أن الجندي يتغذَّى على قرص صغير يؤدي مهمة الوجبة الغذائية ، لكن لا يترك فضلات في الجسم ، ذلك لتخفَّ مؤونة التموين ، ولا يحتاج الجندي لعملية الإخراج . إذن : في قصة آدم والأكل من الشجرة إشارة رمزية إلى أن أحكامَ الله ما دامتْ مُنفَّذة يستقيم حال البلاد والعباد ، ولا تظهر في المجتمع عورات ومساوئ ، لذلك حين ترى في المجتمع عورة ظهرت في أي ناحية : علمية ، اقتصادية ، اجتماعية ، خلقية … الخ فاعلم أن بنداً من بنود منهج الله قد عُطِّل ، فابحث عنه ، وحاول إصلاحه بنفسك أولاً ، إنْ كان الإصلاح في مقدورك لذلك قال تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ … } [ الرعد : 11 ] . وآدم - عليه السلام - وقع في هذه المخالفة بعد أن بيَّن الله له ما أحلَّ له وما حرَّم عليه ، وبيَّن له عداوة الشيطان ، وأنها عداوة مُسبقة منذ أمره الله بالسجود فلم يسجد ، ومع ذلك سمع آدم لوسوسة الشيطان ، وكان عليه أنْ يُعمل نعمة العقل ، وأنْ يفكر فيما قاله عدوه إبليس ، حين قال : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ } [ الأعراف : 20 ] . يعني : أن مَنْ يأكل من هذه الشجرة يخلد ولا يموت ، إذن : لماذا لم تأكل أنت يا إبليس منها ، ما دام الأمر كذلك ؟ ألستَ القائل لله تعالى : { أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الأعراف : 14 ] فهنا إشارة إلى وجوب التفكر في وسوسة الشيطان وعدم الخضوع له . إذن : ففترة وجود آدم في الجنة كانت فترةَ التدريب على المنهج الخلافي ، فلما حدثتْ منه المخالفة وحصل منه عصيان أراد الله أنْ يُخرجه من الجنة ، وأنْ يُنزِله إلى حياة الأرض ليتحرك فيها حركةَ الخليفة ، مُستصحباً للتجربة السابقة . وكأن الله يقول له : خُذْ من الحلال ما شئتَ ، وابتعد عن الحرام واحذر الشيطان فهو عدوك ، وسيظل يوسوس لك ليُوقِعك في المخالفة كما أوقعك في المخالفة الأولى ، فإياك أنْ تسمعَ له لأنك لو سمعتَ له وهو عدوُّك سيُخرِجك من حياة النعيم إلى حياة الشقاء ، كما أخرجك من جنة الالتزام بأمر والالتزام بنهي : { فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ } [ طه : 117 ] ولم يقل : فتشقيا . والحق سبحانه وتعالى وضع لنا في هذه الآية إشارة رمزية منذ أوَّل الخَلْق ، لِتَحُلَّ لَنَا مشكلة وقضية ما زال العالم يتحدث فيها إلى الآن وسيظل ، إنها قضية خروج المرأة للعمل والمساواة بالرجل ، وأن المرأة تريد أن تثبت ذاتها … الخ . وعجيبٌ أنْ تطالب المرأةُ بالمزيد من المسئوليات ، فهى تريد أنْ تأخذ من مهمة الرجل ، في حين أن الرجل لن يأخذ من مهمتها شيئاً ، ولن يحمل عنها عبئاً من أعبائها ، الرجل لا يحمل ولا يلد ولا يرضع . إذن : أخذتِ أنت مهمةَ الرجل مضافاً إليها مهمتك الخاصة التي لا يقوم هو بها ، وفي هذا ظلم للمرأة . فقوله تعالى لآدم { فَتَشْقَىٰ } [ طه : 117 ] دَل منذ أول الخَلْق على أن الشقاء والكدح والعمل وتحمُّل المسئولية مهمة الرجل ، وأن المرأة سيدةٌ في بيتها مُعزَّزة مُكرَّمة ، وهذه الصورة ظلتْ موروثة في مجتمعاتنا بدون تضليل وبدون انطماس ، فحتى الآن حين يتقدَّم شابٌ لخطبة البنت يشترط عليه كبير العائلة يقول أنت حتستتها ولا حتشغلها يعني : أتجعلها سيدةً مَصُونةً في بيتها ، أم أنك ستخُرِجها للعمل ؟ البعض يقول : كيف يعصي آدم وهو نبي ؟ فهو إذن مثل الشيطان : هذا عصى وهذا عصى . نقول : عصى آدم وهو فى فترة التدريب التي لا يُؤاخَذ فيها المخطئ ، بل نُصحِّح له دون مؤاخذة ، فالتلميذ في المدرسة يُصوِّب له المعلم خطأه باللون الأحمر دون أنْ يحاسبه عليه ، إلى أنْ يأتيَ اختبار آخر العام ، فيحاسبه على الخطأ . فآدم حين أخطأ كان في فترة التدريب ، وقد صَوَّب اللهُ له خَطأه ، ثم إنه لم يكُنْ نبياً في هذه الفترة ، لأن آدم خُلق ليكون أباً للبشر جميعاً ، والبشر سيُقَسَّمون إلى قسمين : قسم مُصْطفى وهم الرسل ، وقسم مُصْطَفىً عليه وهم المرسل إليهم . إذن : آدم في البداية كان يمثل القسمين ، وجاءت تجربته تمثل عصيان البشر وعصمة الأنبياء ، لذلك أخطأ فصوَّب الله له ، ثم تابَ فتابَ الله عليه واصطفاه ، وكذلك حال البشر واقرأ : { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [ طه : 121 ] هذه إشارة إلى ما سيكون من البشر { ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [ طه : 122 ] . إذن : الاجتباء والعصمة جاءت بعد التجربة الأولى لأن آدم مَثَّلَ الجميع ، مثّل عصيان البشر ، ومثّل عصمة الأنبياء . هذا الخليفة طرأ على وجود خُلِق له قبل أنْ يُوجد لا أن الله خلقه ، ثم نظر ماذا يريد وماذا يحتاج ، ثم خلقه سبحانه خَلْقاً يناسب قيامه بمهمته في عمارة الأرض { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } [ هود : 61 ] . ولم يجعل الحق سبحانه العبادات الأصيلة - أي أركان الإسلام - هي كل حركة الحياة ، بل جعلها هي الشحنة التي تُعينك على حركة الحياة لذلك مَنْ قال إن الإسلام هو هذه الأركان يؤديها وحسب نقول له : لا لأن هذه الأركان بها تستمد القوة من الله لتنجح في حركة الحياة ، والإسلام أوسَعُ من هذه الخمس بكثير ، بدليل قوله تعالى في سورة الجمعة : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } [ الجمعة : 9 ] . إذن : ناداهم وأخذهم من شغل ومن عمل هو قمة حركة الحياة ، ألا وهو البيع ، وإن كان البيع مرتبطاً بالشراء إلا أنه أقوى ، لذلك خَصَّه بالذكر ولم يقُلْ : وذروا البيع والشراء ، لماذا ؟ قالوا : لأنه سبحانه خالق الطبع الإنساني ، ويعلم أن الإنسان ثقيل عند الشراء غير حريص عليه ، لكنه حريص عليه ، لكنه حريص على البيع ويسعى إليه لذلك عندما يكلِّفك أهل البيت بشراء شيء ربما تماطل في شرائه أو تؤجّله ، وتُسَرُّ حين تذهب فتجد المحل مغلقاً ، أما لو كنت بائعاً فإنك تحرص كل الحرص على أنْ تبيع ، لماذا ؟ لأن المشتري ينفق والبائع يأخذ لذلك ذكر الحق سبحانه البيع لأنه ثمرة الحركة . وبعد انتهاء الصلاة قال : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ … } [ الجمعة : 10 ] إذن : أخذك للصلاة من عمل ، وأعادك بعد الصلاة إلى العمل والسعي . وحين تتأمل لفظ الحديث : " بُنِي الإسلامُ على خمس " يعني : هذه الخمس هي الدعائم التي يقوم عليها الإسلام والمبنى غير المبنى عليه ، وهل البناء الذي نسكنه مُكوَّن من الأساس والأعمدة فحسب ؟ إذن : الإسلام ليس هو الأركان الخمس ، إنما الإسلام أوسع من ذلك ، الأركان هي الشحنة التي يستدعيك ربك إليها ، فتأخذ من لقائه المددَ الذي يُعينك على القيام بحركة الحياة . ومثَّلنا ذلك بالبطارية حين تذهب بها إلى الشحن ، فنحن لا نستفيد بها في فترة الشحن ، إنما نعطيها الشحنة اللازمة لتعمل بها بعد ذلك . ومن عجيب أمر الرحمة الإلهية أن الله تعالى جعل الذهاب إلى شحنة الطاقة الإنسانية فَرْضاً تكليفياً لا بُدَّ لك من القيام به ، لا بُدَّ لك أنْ تقابلني خمسَ مرات في اليوم والليلة لأنك خَلْقي وصَنْعتي ، والصانع أعلم بما يُصلح صنعته ، وتصوَّرْ صنعة تُعْرض على صانعها خمسَ مرات في اليوم والليلة : هل يبقى فيها عطب ، هذا في الصانع إنْ كان من البشر ، فما بالك في الصانع إنْ كان هو ربّ البشر وخالقهم سبحانه . الصانع من البشر يُصْلِح صنعته بشيء مادي مثل مسمار أو قطعة غيار مثلاً ، أما الخالق سبحانه فيصلحك دون شيء مادي ذلك لأن المهندس وصنعته شيء مادي فيصلح بالمادة ، أما الخالق سبحانه فغَيْبٌ ، فحين يصلحك من عطب فيك يُصلِحك بالغيب فلا تشعر به ولا تراه . إذن : نقول لا بُدَّ أنْ نفهم الدين على حقيقته ، وأنْ نفهمَ أن لكل مِنَّا مهمة ، فإذا تفوَّق عليك غيرك فاعلم أن تفوقه لصالحك وعائد عليك ، لأنه بتفوقه يؤدي إليك خدمة ، في حين أنه لا يستفيد منك ، فالذي يجيد عملاً لا شكَّ أنه ينفع نفسه وينفع الآخرين ، على خلاف مَنْ لا يجيد شيئاً . لذلك نقول في الفلاحين باب النجار مخلع ، فالنجار تظهر مهارته حينما يصنع لغيره لأنه يتقاضى أجراً ، إنما لا يجيد الصناعة لنفسه ، إذن : حين ترى المتفوِّق عنك ، لا تحسده ولا تحقد عليه ، بل تمَنَّ له الزيادة ، وتمَنَّ له الخير ، فسوف يُصيبك شيء لا محالة من هذا الخير ، وسيعود عليك هذا التفوق في شكل خدمة يُقدِّمها لك . لذلك كنا في الفلاحين ، لو مات لأحدنا بقرة أو جاموسة يحزن الجميع ، لدرجة أننا رأينا مرة جماعة يُبْكون على عجل مات فتعجبنا ، الناس يبكون على الميت منهم ، لكن من الحيوانات ؟ ! بعدها عرفنا أن هذا العجل هو الذي يدير الساقية ، ويحرث الأرض التي يأكل منها هؤلاء الناس ، وينالهم خير هذه الأرض ، وكنا في الريف لا نشتري الخيار ولا الملوخية ولا البامية وغيرها كثير ، بل كان يُهْدى ولا يُباع . إذن : الهبة المبذولة عند الخَلْق عائدة على كل الخَلْق ، فحين ترى سيفيض عليك ، وحين ترى مَنْ يجيد عملاً لا تجيده أنت لا تحقد عليه ، لأنك ستحتاجه ليجيد لك عملك حتى لو كنتَ تكرهه ، أو على خلاف معه تحرص عليه ليعمل لك ، فأنت تعلم مدى إجادته للعمل ، فتذهب إليه حرصاً على مصلحتك أنت ، وبذلك يتم التعادل المطلوب في المجتمع ، وتستقيم أمور الخَلْق استقامةً مبنيةً على الحاجة . ولو تأملتَ في نفسك كما قال الله تعالى : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] لوجدتَ في نفسك هذا التعادل بين الأعضاء ، فعندك مثلاً اليد اليمنى تزاول بها بعض الأعمال التي تناسبها ، واليد اليُسْرى تزاول بها أعمالاً أخرى تناسبها ، اليد اليمنى للأعمال الشريفة المكرَّمة ، أما اليسرى فهي لما دون ذلك ، وغالباً ما تكون اليمين أقوى من الشمال وأكثر حركة منها وأدقّ في التناول . وتأول مثلاً حين تريد أنْ تقصَّ أظافرك ، فإنك تقصّ الشمال باليمين فيأتي القَصُّ دقيقاً مُريحاً ، على خلاف قَصِّ اليمين بالشمال ، إذن : موهبة اليمين عادتْ على الشمال ، وعدم موهبة الشمال عادت على اليمين ، وهذا يلفتنا إلى أنَّ الكمالات في الكون كمالاتٌ مُسْتطرقة تستطرق فيه ، كاستطراق الماء . والحق - سبحانه تعالى - حين خلق الإنسان الخليفة أعطى له تكوينات تناسب مهمته ، وأول هذه التكوينات الجوارح التي نسميها الحواس التي نُحسّ بها الأشياء ، ويُسمُّونها الحواس الخمس الظاهرة ، وقولهم الظاهرة احتياط لما سيجدّ من حواس يعرفها العلم ، وفعلاً اكتشف في الإنسان حواسّ أخرى غير الخمس كالحاسة التى أعرف بها الجوع ، وكحاسة البَيْن التي أميز بها البُعْد بين شيئين ، وحاسة العضل التي أعرف بها ثقل الأشياء . وحين تتأمل هذه الحواس الخمس المعروفة ، تجد أن التكليف الشرعي جاء على مقتضى هذا التكوين في الحواس ، فلكلِّ حاسة في الإنسان ، ولكل جارحة عمل ، فأداء كل جارحة لمهمتها يُسمَّى عمل ، فالقلب يعمل بالنية ، واللسان يتكلم ، والأذن تسمع ، والأنف يشمُّ ، واليد تمس الأشياء ، والعين ترى ، هذا كله عمل . ولا بُدَّ هنا أنْ نفرق بين العمل والفعل ، والفعل يقابله القول الذي هو مهمة اللسان لذلك قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] . إذن : فالقول ، وهو مهمة اللسان أخذ قسماً وحده ، وبقية الحواس أخذتْ القسم الآخر ، فالقول للسان ، والفعل لبقية الحواس ، لماذا أخذ اللسانُ الشطر ، وبقية الحواس الشطر الآخر ؟ قالوا : لأن القول هو وسيلةُ نقل مطلوب الرسل منا لنفعل ، ونقل مطلوباتنا من الغير ليفعلوها . إذن : فكل الأفعال في خدمة القول ، ومنهج الله لا يأتينا إلا بالقول الذي يحمل الأمر للحواسّ فتعمل ، والعمل ليس بالضرورة عملاً عضلياً ، بل ربما يكون عملاً معنوياً ، كعمل القلب وهو النية كما قلنا ، والشرع هو الذي يحكم هذه الحواس ، ويُحدّد لها الإطار الذي تعمل فيه في ضوء الحلال والحرام . ومهمة الحواس أنْ تلتقط المدْرَكَات ، ثم تعرضها على العقل ، فيُصفِّيها تصفيةً حقيقيةً ، بأنْ يقارن بينها ، ويعرف أن هذه تصلح لكذا ، وهذه لكذا ، وبعد هذه التصفية يُسلِّمها للقلب لتصير عقيدةً فيه ، وكلمة عقيدة تعني الشيء المعقود الذي لا يُفَكُّ ، ولا يعرض للنقاش مرة أخرى في العقل ، فالطفل الصغير مثلاً يُغريه شكل النار الجميل ، فيحاول الإمساك بها ، فتحرقه النار ، ويُحِسّ لأول مرة بالحرارة ، فتتكوّن عنده عقيدة أو قضية عقلية أن النار تحرق ، فلا يقترب منها بعد ذلك ، ويظل طوال حياته يسير على هذه العقيدة أو هذا المبدأ ، ولا يحتاج لأنْ يُجرِّبه مرة أخرى . هذه العقيدة ساعةَ تستقر في القلب يضخها القلب مع الدم ، فتسير في جميع البدن ، وتتخلل كل الأعضاء فتتشرَّبها ، وهذا يفسر لنا الحديث الشريف : " إن في الجسد مُضْغةً ، إذا صَلُحَتْ صَلُحَ الجسدُ كله ، وإذا فسدتْ فسدَ الجسدُ كله ، ألا وهي القلب " . وبعد أن خلق الحق سبحانه للإنسان الجوارحَ والحواسّ خلق الغرائز ، وهي أمور لازمة لك ، ثابتة في تكوينك ، ولا يمكن لك الاستغناء عنها ، لكن هذه الغريزة قد تُلِحّ عليك فتخرجك عن الهدف منها ، وعندها لا بُدَّ أنْ يتدخَّل الشرع لِيكبحَ جماحها ، وليُعيدها إلى توازنها الذي خلقها الله من أجله . يتدخل الشرع لِيُعلي الغريزة ويُهذِّبها ، لا ليكبتها ويقضي عليها ، فالأكل غريزة لاستبقاء الحياة ويكفي فيه ما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بحسْبِ ابْنِ آدم لقيماتٌ يُقِمْنَ صَلْبه " . ولا ينبغي أنْ تخرج عن ذلك ، وتتحوَّل إلى شَرَهٍ وتخمة . حب الاستطلاع غريزة جعلها الله لاستكشاف أسراره في الكون ، والتأمل في مخلوقاته ، فإنْ خرجت عن هذا الإطار وصارتْ تَجسُّساً وتتبُّعاً للعورات ، فقد خردتْ عن مهمتها ، وهنا يتدخَّل الشرع ليُعْليها ويُعيد إليها توازنها . وأعنف غرائز الإنسان الغريزة الجنسية ، خاصة في سِنِّ الشباب وهذه الغريزة جعلها الله لحفظ النوع واستبقاء النسل ، هذه هي المهمة التي من أجلها خُلِقَتْ غريزة الجنس ، وقد حرص الشرع على استبقاء هذه الغريزة مصحوبةً بمنهج حركتها لمَنْ خلقها لتستقيمَ الأمور ، لأن النسلَ هو الثروة الأولى التي ينبغي الحفاظ عليها ليأتي النسلُ شريفاً طاهراً . وسبق أنْ فرَّقْنا بين النسل الشرعي المحسوب على الوالدين ، والنسل غير الشرعى ، وكيف أن الأول يُقابَل بالفرحة وبالحنان والعطف والرعاية ، والآخر يُقابل بالكراهية وعدم الرغبة ، وربما فكرتْ أمه في التخلص منه ، ولو بإلقائه في الشارع . من هنا حرص الدين على بناء الأسرة بناءً سليماً فيه شرف وكبرياء وعزَّةُ نفس في ظِلِّ كلمة الله ومنهجه الذي يُؤمِّن لك سلامة نَسْلك ، فيأتي موثوقاً به تطمئن إليه ، وتعتني به ، وتربيه أحسنَ تربية ، وهذا هو هدف الشرع . وسبق أنْ تحدَّثنا عن الفرق بين الحلال والحرام في هذه المسألة ، وذكرنا الحديث الشريف : " جَدَعَ الحَلاَلُ أنْفَ الغَيْرةِ " . إذن : فهذه الغريزة مخلوقة في النفس البشرية لأداء مهمة ، ولكي تبقى في إطار ما خُلِقتْ له ، لكن الحاصل أن كثيرين يخرجون بها عن هدفها ، والعجيب أنْ يظلمَ الإنسانُ الحيوانَ في هذه المسألة ، حين يقول : هذه شهوة بهيمية ويتشدَّق بها . وهذا القول يدل على عدم فهم لغريزة الحيوان لأن الحيوان يقف بالغريزة عند حدودها كما خلقها الله لذلك لم نَرَ بهيمة أنثى حملتْ ثم مكَّنَتْ فحْلاً منها بعد ذلك ، كذلك الفحل يشمُّها ، فيعرف أنها حامل فينصرف عنها . أهذه شهوة بهيمية على حسب ما نقصد نحن من هذه الكلمة ؟ لا ، بل هي إنسانية … ولك أنْ تقارن بين هذه الغريزة عند الحيوان وعند الإنسان ، وسوف ترى العجب في خروج الإنسان بهذه الغريزة عن المراد منها . ومن حكمة الخالقِ سبحانه أنْ ربطَ الغريزة الجنسية والنسل بالاستمتاع ، ذلك لأن للنسل مطالب وتبعات ومسئوليات ، فلو لم تَكنْ هناك متعة تُرغِّب الإنسان لَزَهد في المسألة ، وانصرف عنها . والحق سبحانه وتعالى يأتي للمؤمنين على منهج واحد بأمور متقابلة مثل : العزة والذِّلَّة ، فالمؤمن غير مطبوع على عِزَّة دائمة ولا على ذلة دائمة ، إنما الموقف الذي يعيشه هو الذي يملي عليه أنْ يكون عزيزاً ، أو أنْ يكون ذليلاً ، فالذلّة والانكسار لإخوانه المؤمنين والعِزَّة والتعالي على الكافرين الجاحدين ، كما قال تعالى في وصف سيدنا رسول الله والمؤمنين : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } [ الفتح : 29 ] . إذن : فهُمْ أشداء رحماء في وقت واحد ، وهذا دليل على أن المؤمن لا تكيفه غرائزه إلا بمعدلات خالق الغرائز . من التكوينات أيضاً في خَلْق الإنسان بعد الحواس والغرائز أن الله خلق في الإنسان العاطفةَ ، والعاطفة شعور لا نعرف سببه لذلك تقابل شخصاً فترتاح إليه وآخر تكرهه هكذا دون سابق تعامل ، لماذا إذن تحب هذا وتكره ذاك ؟ إنها العاطفة لذلك تحب ولدك ولو كان غبياً لأنك تحبه بعاطفتك ، وتحب ابن عدوك الذكي تحبه بعقلك . . لذلك لم يجعل الحق سبحانه العاطفةَ مجالاً للتكليف . ويبيِّن لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العاطفة في قوله لصحابته ، وفيهم سيدنا عمر : " لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من أمه وأبيه ونفسه " . وقفتْ هذه الكلمة في نفس عمر . فقال : يا رسول الله ، أنت أحب إليَّ من أمي وأبي أو من ولدي ومالي ، لكن نفسي يا رسول الله ؟ فكرَّرها رسول الله مرة أخرى ، حتى علم عمر أنها عزيمة ، ولا بُدَّ أن رسول الله يقصد حباً غير الذي يراه عمر ، إنه يقصد الحبَّ العقلي ، عندها قال عمر : الآن يا رسول الله ، يعني : الآن أصبحتَ أحب إليَّ من أبي وأمي ، وأحب إليَّ من ولدي ومالي ، وأحب إليَّ من نفسي التي بين جَنْبَيَّ . إذن : المراد في حب رسول الله الحب العقلي ، فلولاه صلى الله عليه وسلم ما اهتدينا ولا بلغنا الهدى ، ولولاه لهلكنا ، فأنت تحب محمداً صلى الله عليه وسلم كما تحب الدواء المرَّ ، لا تحبه بعاطفتك إنما بعقلك لذلك فهم سيدنا عمر أن الحب المطلوب شرعاً حبّ العقل ، وإنْ تحوَّل بعد ذلك إلى عاطفة وعشق للذات ، وهذه درجة أخرى أعلى من الأولى . والقرآن الكريم يُعلِّمنا هذا في قول الله تعالى : { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [ المائدة : 8 ] يعني : لا يحملنكم البغض لقوم أنْ تظلموهم ، وألاَّ تعدلوا معهم ، إذن : البُغْض غير ممنوع لأنه مسألة عاطفية ، فأحبب مَنْ شئتَ ، وابغضْ مَنْ شئتَ ، لكن إياك أنْ يحملَك الحبُّ أو البُغْض على أنّ تظلم بأنْ تجامل مَنْ تحب ، وتظلم مَنْ تكره . ولأن العواطف بهذا الشكل ، يعني : ليس لها انضباط في الذات خرجتْ من نطاق التكاليف الشرعية لأنك لا تعرف لماذا مالتْ بك العاطفة لأنْ تحبَّ أو تكره . وحين نتأمل الحواسَّ والغرائز والعاطفة نجد أن الحواسَّ ظاهرةٌ معروفة فالعين ترى ، والأذن تسمع … الخ . وكذلك الغرائز ظاهرة بأثرها وأسبابها ، فحين تجوع تطلب الطعام ، وحين تريد أهلك تحِنُّ إليهم ، أما العاطفة فشيء خفي غير ظاهر ، لذلك يضرب لها القرآن مثلاً ليس في الإنسان ولا حتى فيما دونه من الحيوان أو النبات إنما مثلاً في الجماد ، واقرأ قوله تعالى في عاقبة الكافرين قوم فرعون : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ … } [ الدخان : 29 ] . ومعلوم أن البكاء مظهرٌ عاطفيٌّ ، فهل تبكي السماء ؟ وهل تبكي الأرض ؟ نعم تبكي وتنفعل ، وكأنها تقول لهؤلاء : اذهبوا غَيْرَ مأسوف عليكم ، وإلا لما نفى الله عنها البكاءَ ، ولِمَ نستبعد ذلك ؟ والسماء والأرض خَلْق من خَلْق الله خاضع للتسخير ، ألم يَقُل الحق سبحانه : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] . إذن : لا غرابة أنْ يفرح الجماد حين يجد مَنْ يُسبِّح معه وينسجم مع الكون المسبِّح ، ولا غرابةَ أنْ يحزن ، وأنْ يبكي عندما يشذّ البشر عن هذه المنظومة المسبِّحة ، وعليه يمكن القول بأن السماء والأرض لم تَبْك على هلاك قوم فرعون ، وفرحتْ لهداية آسية امرأة فرعون . إذن : للسماء والأرض انفعال وعاطفة فهي تحب وتكره ، وتبكي وتفرح . وهذا المعنى أوضحه لنا الإمام علي رضي الله عنه ، حين قال : إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان : موضع في السماء ، وموضع في الأرض ، أما موضعه في السماء فمصعد عمله - يبكيه لأنه حُرِم من صعود الكَلِم الطيب والعمل الصالح - أما موضعه في الأرض فمُصلاَّهُ - يعني : المكان الذي كان يُصلِّي فيه . كانت هذه مقدمة ضرورية ندخل بها على قِصَّة سيدنا لوطٍ في قوله تعالى : { وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ … } .