Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 133-138)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كانت مهمة سيدنا لوط في دعوة قومه أشقَّ مهمة لذلك ذُكِر في القرآن سبع عشرة مرة ، بالرفع وبالجر ، وذُكِر عشرِ مرات بالنصب ، ووَجْه المشقة في مهمته عليه السلام أنه جاء ليُعدِّلَ أعنفَ الغرائز في النفس البشرية ، وهي الغريزة الجنسية . لَيْتَ هذه الغريزة . كانت عند القوم في مسارها الطبيعي ، بمعنى غريزة الرجل نحو المرأة ، إنما كانت غريزة جنسية منحرفة لم يسبق لها مثيل من قبل وهي علاقة الرجل بالرجل ، لذلك جاءت منهم جريمة وفعلة نكراء مبتكرة لم يسبق إليها أحدٌ غيرهم ، كما قال تعالى على لسان سيدنا لوط : { أَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن ٱلْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 80 ] . قلنا سابقاً : إن كل إنسان مِنَّا له في ذاته الخاصة حرية ، فإذا انتقلتْ إلى غيره جاءتْ قيود لهذه الحرية ، إذن : فلي حرية مع نفسي ، ولي حرية مع أهلي ، ولي حرية من الناس عموماً في الشارع ، ولكلٍّ حدود والتزامات ، فالإنسان مثلاً حين يغلق على نفسه حجرته الخاصة تكون حريته أوسعَ ، حيث لا أحدَ معه يحدُّ من حريته . فإذا خرج من حجرته الخاصة إلى الصالة مثلاً تصبح حريته مُقيَّدة بعض الشىء لوجود أهله وأولاده ، فإذا خرج إلى الشارع حيث عامة الناس قُيِّدتْ حريته أكثر لأن لكل مَنْ يتعامل معهم في الشارع حرية ، وحريةُ الآخرين تُقيِّد حريتك ، فإذا ما ذهبتَ إلى النادي مثلاً حيث الأحبة والأصدقاء ، فإنك تذهب بهندامك الكامل وأدبك الجمّ … إلخ . لذلك ظهر تبجُّح قوم لوط بفاحشتهم ، لدرجة أنهم كانوا يأتونها في ناديهم ، كما قال تعالى : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ } [ العنكبوت : 29 ] يعني : الفعل الذي لا ينبغي لكم في الخُلْوة تفعلونه في النادي علانيةً ، وهذه الفِعْلة ممنوعة شرعاً ، حتى لو كانت في المحلَّلة لك وهي الزوجة لأن إتيان الزوجة لا يكون إلا في منبت الولد . لذلك لما نادى البعض بحرية الرجل في الاستمتاع بالمرأة حيثما يشاء ، وفَهم هذه الحرية من قوله تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ } [ البقرة : 223 ] نقول لهم : لقد غفلتم عن معنى الحرث هنا ، فالحرث هو الأرض المعدَّة للإنبات ، كذلك يكون إتيان الزوجة في موضع الإنبات حيث يأتي الولد ، فإنْ كان في الموضع الآخر الذي لا إنبات فيه فهو حرام . فإذا كان الإسلام يُحرِّم هذه الفِعْلة مع الزوجة ، فما بالك لو فعلها مع رجل مثله ؟ وكما حرَّم الشرع فِعْلة قوم لوط ، وهو إتيان الرجل للرجل حرَّم كذلك أنْ تفعل المرأة بالمرأة ، وهو ما يُسمَّى بالسِّحاق والعياذ بالله ، وهذا التحريم بالقياس على الرجل . إذن : فالشرع عدَّل الغرائز المنحرفة في علاقة الرجل بالرجل ، وفي علاقة المرأة بالمرأة ، وفي العلاقة الزوجية بين الزوج وزوجته ، ووضع الضوابط الرادعة في هذه المسألة ، لماذا ؟ لأن هذا الانحراف سيسيء إلى النسل وإلى عمارة الكون ، والحق سبحانه يريد لخليفته في الأرض أنْ يأتي طاهراً شريفاً ، ليكون أهلاً لهذه الخلافة . لذلك ذُكِر سيدنا لوط عليه السلام سبعاً وعشرين مرة لثِقَل المهمة التي كلَّف بها . في حين ذكر سيدنا عيسى عليه السلام رغم أهميته في موكب الرسالات ، ورغم طبيعة خَلْقه العجيبة ، إلا أنه ذُكِر خمساً وعشرين مرة . وأنا شخصياً أخذتُ على كثيرين من الكُتَّاب والعلماء أنهم ينسبون هذه الجريمة ، وينسبون فاعلها إلى نبي الله لوط - عليه السلام - فيقولون عن الفعلة النكراء لواط ومرتكبها لوطي ، وهذا خطأ فادح وعيب كبير أن ننسب القبح والفاحشة لنبي الله ، الذى جاء ليحاربها ، وليُعدِّل سلوكَ الناس فيها ، قالوا : نحن نسير في ذلك على مُقْتضى الكلام العربي في النسب ، كما قال الناظم : @ وَالوَاحِد اذْكُرْ نَاسِباً لِلْجمْع إنْ لم يُشَابِهْ وَاحِداً بِالوَضْعِ @@ يعني : هم قوم لوط بالإضافة ، لكن في اللغة مَا يُسمَّى بالنحت ، ويمكن أن ننحت من الكلمة ما يفيد أن القوم هم أصحاب هذه الفعلة ، بعيداً عن لوط - عليه السلام - فعيْبٌ أنْ نجعله عُنْواناً لهذه الفاحشة . وهذه الآيات التي معنا تذكر قصة سيدنا لوط مع قومه ، فهي لقطة موجزة لآخر القصة ولنهايتها ، حيث نجَّى اللهُ المؤمنين وأهلكَ الكافرين ، وبداية قصة لوط حينما تقابل مع عمه سيدنا إبراهيم عليهما السلام ، كما قال تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ العنكبوت : 26 ] . فهذه لقطة من القصة ، وليس تكْرَاراً لها كما يدعي البعض ، فالقَصَص في القرآن لا يأتي سَرْداً جملة واحدة ، إنما يأتي لقطات مختلفة يذكرها في مناسبتها . وقد وقف السطحيون في مسألة عصا موسى يتهمون القرآن بالتكرار ، وهذا نتيجة قصورهم في فَهْم كتاب الله ، فالأمر الأول بإلقاء العصا كان في مجال الإيناس ، حيث أراد الحق سبحانه أنْ يُجري لموسى هذه التجربة بينه وبين ربه ، بدليل سؤال الإيناس . { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [ طه : 17 ] فالله يعلم ما في يمينه ، لكن أراد سبحانه أنْ يُؤنسه لذلك أطال سيدنا موسى في الجواب ، فقال : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [ طه : 18 ] ثم أمره الله أنْ يُلقيها : { قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ * قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلأُولَىٰ } [ طه : 19 - 21 ] . إذن : أراد الحق سبحانه أنْ يدرِّب موسى ، حتى إذا جاء لقاؤه مع فرعون ورأى العصا حَيَّة على الحقيقة ، كان لديه دُرْبة ولا يخاف . ثم كان الأمر بإلقاء العصَا في المرة الأخرى في موقف آخر أمام فرعون والسحرة . إذن : هذا موقف ، وهذا موقف آخر . وإنْ شاء سبحانه أورد القصة كاملة ، كما في قصة سيدنا يوسف - عليه السلام - ربما ليتحقق لها الحبكة الفنية كما يقول نقاد الأدب ، وربما لأن العبرة والعظة لا تتم إلا بتمام القصة لأن القصة في القرآن ليستْ سَرْداً لتاريخ ، ولا مجالاً للتسلية ، إنما تُسَاق للعبرة والعظة ، وتُسَاق لتسلية سيدنا رسول الله . فمهمة رسول الله أمام مجابهة قومه له باللَّدد والخصومة والعناد والكفر كانت تقتضي أنْ يُثبته الله في كل آونة ، فكلما احتاج إلى تثبيت نزلتْ عليه الآيات تحمل لقطة مناسبة من موكب الرسالات ، ثم يُسلِّي الله رسوله فيقول له : لأنك سيد الرُّسُل وخاتم الرسل ومبعوث إلى الناس كافة إلى آخر الزمان ، فلا بُدَّ أنْ تتضاعف لك المتاعبُ من قومك . وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك ، وقلنا : إننا شاهدنا مثلاً ثورة يوليو 1952 وما زلنا نشهد الاحتفال بذكراها كل عام ، ونستمع إلى قصتها وما دار فيها ، لكن كل سنة نستدرك عليها شيئاً جديداً ، ونستخلص منها دروساً . إذن : نقول جاء القصصُ القرآني كل لقطة في مناسبتها لتثبيت رسول الله كما قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] . يقول سبحانه : { وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِي ٱلْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا ٱلآخَرِينَ } [ الصافات : 133 - 136 ] أي : بالقصف والرَّجْم . كلمة وأهله الأهل تُطلَق على عشيرة الرجل الأقربين ، وتُطلق على الزوجة ، والحق سبحانه وتعالى أخبر هنا أنه نجَّى لوطاً وأهله أجمعين ، واستثنى منهم امرأته { إِلاَّ عَجُوزاً فِي ٱلْغَابِرِينَ } [ الصافات : 135 ] ، وفي آية أخرى قال : { إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَابِرينَ } [ العنكبوت : 33 ] والغابرون جمع : غابر ويطلق الغابر على معنيين متقابلين . الغابر : يعني الشيء الذي مضى وانتهى ، والغابر الباقي ، وقد اجتمع لامرأة لوط المعنيان معاً ، فهي من الغابرين الذين تركناهم للهلاك ، أو من الغابرين يعني الباقين أيضاً للعذاب حتى يأتي . ثم يُذكّرنا الحق سبحانه بأن القصة في القرآن لا تُسَاق للتسلية ، إنما تُساق للعبرة والعظة ، فيقول : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ } [ الصافات : 137 ] أي : على آثارهم في سدوم { مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] في الصباح { وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 138 ] نعم ، يمرون عليهم في رحلاتهم وأسفارهم وفي تجارتهم في رحلة الشتاء والصيف ، ويشاهدون آثارهم وما تبقَّى من ديارهم . كانت هذه لقطة موجزة ، وبرقية عاجلة لقصة سيدنا لوط مع قومه ومِثْلها تماماً قصة سيدنا يونس : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ … } .