Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 139-144)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أولاً : أثبت الحق سبحانه لسيدنا يونس - عليه السلام - أنه مُرْسَل { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ الصافات : 139 ] فلنأخذ هذه الفكرة في الاعتبار قبل الدخول في قصته ، ولنفهم القصة في هذا الإطار ، حتى إذا ما حدث منه شيء لا يليق برسول في نظرك ، فاعلم أنه لا يطعن في منزلته كرسول ، فالذي أرسله شهد له بالرسالة ولم يعزله منها ، ولم يُجرِّده من منزلته بعد ما حدث . إذن : حين تسمع قصته لا تَقُلْ أن هذا الفعل لا يليقُ برسول لأنك لست أغيرَ على الله من الله . وتأمل قول الله فيه { إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [ الصافات : 140 ] معنى أبق : هرب وليس الهروب المطلق ، إنما هروب العبد من سيده ، لا هروبه من مستأجره ، ولا هروب ابني مني ، فهذا لا يُعَدُّ أبُوقاً . فكلمة أبق فيها ملحظ العبودية المطلقة للسيد الأعلى ، فالله سيده وهو عبده . لأن العبد مملوك بملك اليمين فهو بذاته مِلْك لي حين آخذه أسيراً ، نعم بذاته ، لأن الله حقن بهذا الملْك دمه ، فبدل أنْ أقتله في الحرب أسرْتُه واستعبدته ، فهو لا يصير عبداً إلا إذا أسرْته ، وما دُمْت أسرْته وقدرْت عليه تستطيع قتله ، إذن : ملّكك اللهُ رقبته ، لأنه حمى دمه أنْ يُرَاق . فلا داعي إذن للمقارنة بين الرقِّ والحرية ، وإنْ أردتَ المقارنة ، فقارن بين رِقٍّ وقتل ، ولو خيَّرْتَ العبد نفسه بين أن يعيش عند سيد يخدمه ، وبين القتل لاختار العبودية . إذن : العبودية هنا ليست سُبَّة في الإسلام ، إنما هي جميل أَسْداه الإسلام إلى هؤلاء العبيد . ومحمد صلى الله عليه وسلم ما جاء ليشرِّع للرقِّ ، ويزيد من أعداد الرقيق إنما جاء ليقضي على الرِّق ، وليجفِّف منابعه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جاء والرق موجود في المجتمع وبكثرة ، حيث كان له ثلاثة وعشرون مصدراً يأتي الرقُّ منها ، فماذا فعل الإسلام ؟ سَدَّ كل هذه المصادر ، ولم يَبْقَ منها إلا الأسير في حرب شرعية ، ثم أخذ يُعدِّد مصارف الرق ويفتح الأبواب لتحرير الرقيق كما رأينا في الكفَّارات وفي التطوع بتحرير الرقاب . فإنْ لم ترتكب ذنباً يستدعي كفارةً وعَتْقَ رقبة ولا حاجةَ لك في التطوع بعتق رقبة واحتفظتَ بما لديك من الرقيق فلتكرمه . وقد وضع لنا النبي صلى الله عليه وسلم دستوراً نسير عليه في معاملة الرقيق ، حين قال : " هم إخوانكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه ، فإن كلَّفه ما يغلبه فليُعنه عليه " . هكذا أمر الإسلام في مسألة العبيد ، والإسلام أبقى على الرقِّ من الحرب المشروعة لأن لي عدواً كافراً يحاصرني ويحاربني ، ويأخذ أولادي أَسْرى عنده ، فلا بُدَّّ من المعاملة بالمثل ، أسَرُوا مِنّا نأسِر منهم ، فَدوْا أسْراهم نفدي أَسْرانا ، أطلقوا السراح نطلق . . وهكذا ، إذن : المتأمل في هذه المسألة يجد أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما جاء لِيُشرِّع للرقِّ ، إنما جاء ليُشرِّع للعتق . وقوله تعالى في شأن سيدنا يونس { إِذْ أَبَقَ } [ الصافات : 140 ] ليس مأخذاً على نبي الله يونس ، لأن أبَقَ تعني أنه معترفٌ بأنه عبد لربه ، هذه اللقطة لم يأتِ لها تفصيل هنا ، إنما جاء في سورة أخرى لنعرف أن المسألة ليستْ ميكانيكا ، المسألة مرادات حَقٍّ تأتي في موضعها لحكمة ، ولسيدنا يونس سورة باسمه ، ولن يُذكر اسمه إلا مرة واحدة ، ثم يذكر في غير السورة المسمَّاة باسمه كل تاريخه . فمعنى أَبَقَ هرب من سيده أو ترك قومه دون إذن من ربه ، وهذه المسألة فُصِّلَتْ في قوله تعالى { وَذَا ٱلنُّونِ } [ الأنبياء : 87 ] أي : صاحب الحوت ، وهو سيدنا يونس { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } [ الأنبياء : 87 ] والمغاضب غير الغاضِب ، المغاضب : فيها مفاعلة ومشاركة ، فهو غاضب ، والمقابل له أيضاً غاضب ، فهي مثل شارك محمد علياً ، فهي شارك عليّ مُحمداً ، أما غاضب فيعني من ناحيته هو فحسب . لكن مُغَاضباً لمن ؟ الطرف الآخر هنا هم القوم لما كذبوه وآذوه لم يُطِق ، فهو ليس مُغَاضِباً لربه ، إنما مغاضباً لقومه وعنده أمل ، وظن في ربه أن يسامحه في هذا التصرف لذلك قال تعالى بعدها : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } [ الأنبياء : 87 ] البعض فهم نقدر من القدرة ، وحاشا لله أن يظن نبي الله أن الله لن يقدر عليه ، ولن يعيده إلى قومه . إنما معنى نقدر هنا أي : نُضيِّق عليه ، كما في قوله تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ } [ الطلاق : 7 ] فهي ثقة منه في رحمة من أرسله ، وأنه سبحانه لن يُضيِّق عليه أنْ يُنفِّس عن عواطفه حين ترك قومه دون إذن من ربه . ومعنى الفُلْك السفينة المشْحُون المملوء ، وهذا يدلُّنا على أن السفينة حملاً خاصاً ، لا ينبغي أنْ يزيد ، وإلاَّ تعرضت السفينةُ للغرق حسب قاعدة أرشميدس ، وبهذه القاعدة تطفو الأشياء ، وعليها قامتْ فكرة الغوَّاصات ، معنى غواصة يعني : تغوص تحت الماء ، لأن وزنها أثقلُ من إزاحة الماء لذلك يقولون : خِفْ تعوم . وما دام أن الفلك مشحون ، والعدد أزيد من حِمْل السفينة فقرر القبطان أن يُلقي بأحد الركاب لِيَخفَّ الحملُ ، فأجروا القرعة ، فخرج سهم سيدنا يونس ، فألقَوْا به في البحر فالتقمه الحوت ، هذا معنى { فَسَاهَمَ … } [ الصافات : 141 ] أي : دخل معهم في القرعة ، وألقى بسهمه مع سهامهم ، { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ } [ الصافات : 141 ] معنى { ٱلْمُدْحَضِينَ } [ الصافات : 141 ] المدْحَض الخاسر في الصفقة ، والمراد القرعة حيث كان من نصيبه أنْ يُلْقى هو في البحر . والقرعة طريقة للاختيار ، تبرئ مالك السفينة من أنْ يُتَّهم بالتحيز أو المحاباة ، وعملية إلقاء السهام مسألة قدرية خالصة ، لا دَخْلَ فيها للهوى ، وهي دليلٌ على عدالة الحكم لذلك كثيراً ما نلجأ في إجراء القرعة إلى طفل صغير ، يختار الأوراق الملقاة مثلاً ، لماذا ؟ لأنه لا يستطيع التمييز بينها لذلك يأتي اختياره قَدَراً مُنزَّهاً عن الهوى . فقوله تعالى { فَسَاهَمَ } [ الصافات : 141 ] يعني : دخل معهم في القرعة يعطينا لقطة اجتماعية تعفينا من الحرج والضغائن ، لأنه إذا وُجد شيء لا يتسع للطالبين له ، لا يصح أنْ يميزَ القائمُ عليه بين هؤلاء الطالبين لأن تمييزَ واحدٍ على الآخر يُورِث في النفس شيئاً ، وإجراء القرعة اختيار قدري لا دخْلَ لأحد فيه . وهذه المسألة لجأ إليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " حينما دخل المدينة والتفَّ الناس حوله ، كُلٌّ يريد أنْ يأخذ بزمام ناقته صلى الله عليه وسلم ليذهب برسول الله إلى بيته ، فكيف يفعل رسول الله وهو يريد ألاَّ يكسرَ خاطر أحد منهم ؟ لقد حسم رسول الله هذا الموقف ، حين قال : " دعوها فإنها مأمورة " " فأخرج نفسه من الاختيار ، وتركه لله تعالى ولقدره ، وسارتْ الناقة حتى بركتْ عند ديار بني النجار . قد يقول قائل : هل تنجو السفينة أو تغرق بسبب شخص واحد خَفَّ من وزنها أو زادَ عليه ؟ نقول : نعم ألم تسمع عن القشَّة التي قصمتْ ظهر البعير ، فأنت حين تُحمِّل الجمل يتحمَّل على قدر طاقته ، حتى إذا زدْتَ عليه عوداً واحداً برك بحمله ، والحقيقة أن العود الواحد أو القشة لا تقصم ظهر البعير ، إنما مجموع العيدان والقشة الأخيرة هي فقط التي رجَّحتْ الوزن ووصلت به إلى درجة عدم التحمُّل ، كذلك الحال في سفينة سيدنا يونس ، حيث توقف نجاتها من الغرق على إلقاء واحد من ركابها ، وهلاك واحد خير من هلاك الجميع . ونتعلم من هذه المسألة أنه لا مانعَ حين يحل الخطر بالجماعة أنْ يدفعه عنهم أحدهم ، والقرعة هي التي تحدد هذا الواحد . ثم يقول سبحانه { فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الصافات : 142 ] أي : ابتلعه الحوت ، وقد فعل عليه السلام ما يُلاَم عليه ، واللوم نوع من العتاب ، وفَرْق بين ما تُلاَم عليه وما تُعَاقب عليه ، سيدنا يونس فعل ما يُعاتَبُ عليه من ربه - عز وجل - وكأن الله يقول له : لقد تسرعتَ حين تركتَ قومك وضِقْتَ بهم لأول إيذاء تتعرَّض له ، وكان عليك أنْ تصبر ، وأنْ تتحمل الأذى في سبيل دعوتك . فاللوم ضَرْب من العتاب ، لا يصل إلى درجة العقاب ، وغالباً ما ينشأ العتاب بين الأحبة لاستبقاء المودة ، لذلك قال الشاعر : @ أمّا العِتَابُ فَبِالأَحِبَّةِ أَخْلَقُ والحبُّ يَصْلُحُ بالعِتَاب وَيَصْدُقُ @@ ومعلوم أنك لا تعاتب إلا مَنْ تحرص عليه ليظل في صحبتك . إذن : يشفع لسيدنا يونس هنا عدة أشياء أولها { إِذْ أَبَقَ } [ الصافات : 140 ] يعني : كان عبداً لله تعالى ، ثم { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } [ الأنبياء : 87 ] أي : لا نُضيِّق عليه ، وهذا حُسْن ظن بالله ، ثم { وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الصافات : 142 ] فالله عاتبه ولامه مجرد لَوْمٍ ، على أمر لا يصحُّ من نبي ، والعتاب دليل المحبة . وقوله تعالى : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 144 ] التسبيح يعني : التنزيه المطلق لله تعالى فكوْنه من المسبحين جعله موضعاً للَّوْم والعتاب ، لا للإيذاء والعذاب ، فلولا إيمانه وتسبيحه لَظَلَّ في بطن الحوت إلى يوم يُبْعَثُون . مسألة عتاب الحق سبحانه لنبيه يونس على تركه لقومه وتخلِّيه عنهم ، لمجرد أنهم عاندوه وكذَّبوه يُذكِّرنا بسنة الله تعالى في رسُله ، وهي النُّصْرة والتأييد { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] . لكن قد يتأخر هذا النصر ، مع أن الله قادر أنْ ينصرهم من أول وهلة ، لكن الحق سبحانه يريد بذلك أمرين : أولاً : أنْ يستشريَ الفسادُ ويعُمَّ ، حتى يضيق الناس به فيتطلَّعون إلى الحق وإلى الخير ، ويَسعَوْنَ هم إليه . ثانياً : ليُمحِّص اللهُ المؤمنين بالرسل ، ويميز منهم أصحاب الثبات والقدرة على تحمُّل مشاقِّ الدعوة فيما بعد . إذن : تأخُّر النّصْرة ليس خُذْلاناً للرسل ، ولا تخلياً عنهم ، فما كان الله تعالى ليرسل رسولاً ويتخلَّى عنه .