Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 75-82)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لكن ، لماذا بدأ بسيدنا نوح عليه السلام ؟ قالوا : لأن دعوته كانت أشبه بدعوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك قال تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [ الشورى : 13 ] . الحق سبحانه وَصَّى نُوحاً ، ووصَّى غيره من الرسل مِمَّنْ هم أعلى منه ، ومع ذلك عطفهم عليه ، وجعله في المقدمة . قالوا : لأن لنوح خصوصية هي في البيئة التي كان فيها ، وفيمن آمن به ، فكان المؤمنون به هم الذين نجَوْا في السفينة ، وهم وحدهم الموجودون في العالم كله في ذلك الوقت ، فكأن له عموميةَ رسالة بخصوص الموضوع ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم له عمومية رسالة ، لكن في عموم الموضوع . قوله سبحانه : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ } [ الصافات : 75 ] كلمة نَادَانَا تدلُّ على أنه - عليه السلام - استنفد كل وسائله في دعوة قومه ولم تفلح ، بدليل أنه قال في موضع آخر كما حكى القرآن : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 26 - 27 ] وما دعا نوحٌ على قومه هذه الدعوة إلا بعد يَأْسٍ منهم ، وبعد أنْ وجد أن أسبابه الإيمانية المحيطة به من أتباعه غير كافية ، فلمَنْ يلجأ إذن ؟ يلجأ لله ، لأنه وحده القادر على أنْ يُخلِّصه منهم ، فيناديه : يا ربِّ أنت بعثتني فلا تتخلَّ عني ، وهذه ظاهرة فطرية لكل مستنجد مستغيث ، فأنت حين يطرأ لك خطر ، لا تستطيع دفعه بقوتك وحيلتك تستنجد بأقرب الناس إليك ، فإن لم تجد تستنجد بالبعيد ، فإنْ عَزَّ المغيثُ تقول - كما قُلْنا سابقاً - يا هوه يعني : يا ربِّ ليس غيرك يُغيثني . ثم يأتي جواب هذا النداء : { فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ } [ الصافات : 75 ] لأنه عليه السلام - كان نِعْمَ الداعي ، فلا بُدَّ أنْ يقابل بنعم المجيبون ، ولم يقُلْ : فلنعم المجيبُ ، لأنه الحق يجيبه بجنوده في الأرض مثل : الهواء والماء والملائكة … { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] ونتيجة هذه الإجابة { وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } [ الصافات : 76 ] . وهنا وقف المستشرقون يقولون : كيف وقد أهلك اللهُ ولده ، أليس من أهله ؟ لكن في موضع آخر قَصَّ القرآن علينا قصة نوح عليه السلام وولده الذي شَذَّ عنه ، فغرق مع المغْرَقين ولم تُفلح توسُّلاتُ نوح : { رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } [ هود : 45 ] . وهذا اللبس ناتج من أن الناس أغفلوا أنَّ بنوة الأنبياء ليستْ بنوة النسب ، إنما بنوة الإيمان بالله لذلك رَدَّ اللهُ على نوحٍ : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ … } [ هود : 46 ] . فالأهلية هنا أهليةُ عقيدةٍ وإيمانٍ بالله ، لا أهلية دمٍ ونسبٍ لذلك إذا نظرتَ في هذه الآية تجد الحق سبحانه لم يَنْفِ الذاتَ ، إنما نفى فعل الذات { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ … } [ هود : 46 ] . لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " … لا يأتيني الناس بأعمالهم ، وتأتوني بأنسابكم وأحسابكم " . وكلمة { مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } [ الصافات : 76 ] المراد : الغرق ، والكرب هو : المكروه الذي لا تستطيع دفعه عن نفسك ، ولا يدفعه عنك مَنْ حولك حين تستغيثُ بهم ، فإنْ كان لك فيه حيلة للنجاة فلا يُسمَّى كَرْباً ، ووَصْف الكرب هنا بأنه عظيم ، لأنه جاء بحيث لا يملك أحدٌ دَفْعه ، فالماء ينهمر من السماء ، وتتفجَّر به الأرض ، ويغطي قِمَمَ الجبال ، فأين المفرُّ إذن ؟ ومعلوم أن الماء قِوَام حياة كل حَىٍّ ، ومن أَجَلِّ نِعَم الله علينا ، لكن إنْ أراد سبحانه جَعَلَ الماء نقمة وعذاباً ، وقد رأينا في قصة سيدنا موسى - عليه السلام - كيف نجَّى اللهُ موسى بالماء ، وأهلك فرعونَ بنفس الماء . وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ } [ الصافات : 77 ] أي : الذين كانوا معه في السفينة وهم المؤمنون بدعوته { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ } [ الصافات : 78 ] أي : في الناس جميعاً من بعده يثنون عليه . { سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ } [ الصافات : 79 ] . فالناس جميعاً عليهم حين يسمعون سيرة هذا النبي الذي تحمَّل في سبيل دعوته المشاقّ ، ومكث في دعوة قومه هذا العمرَ الطويلَ ، الذي خالف أعمار الناس أن يُسلِّموا عليه ، وينبغي حين نسمع ذِكْره أنْ نُسلِّم عليه ، فنقول : عليه السلام { سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ } [ الصافات : 79 ] أي : اعْطِه السلامة والسلام { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } [ الصافات : 80 ] يعني : هذه سُنة لله مُتَّبعة في أنبيائه ، أنْ ينصرهم ويُبْقِى لهم الذكْرَ الحسن من بعدهم { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الصافات : 81 ] . وقوله : { ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ } [ الصافات : 82 ] يعني : الكافرين . وكلمة الأخِرِين إهمالٌ لهم ، واحتقارٌ لشأنهم .