Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 83-87)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ } [ الصافات : 83 ] أي : أن إبراهيم - عليه السلام - كان من شيعة سيدنا نوح . يعني : من أتباعه الذين تابعوه ، وساروا على منهجه . والشيعة هم الذين يُشايعون الإنسان على فكره فيؤمنون به ، بل ويحاولون أنْ يحملوا دعوته إلى الناس معه ، وأنْ يتحمَّلوا الأذى في سبيل ذلك ، ومن هنا سُمِّيَتْ الشيعة المذهب المعروف الذين شايعوا الإمام عليّاً رضي الله عنه ، وتعلمون طبعاً الفرق بين الشيعة والشيوعية . لكن ، لماذا بدأ الحق سبحانه هنا موكبَ الرسل بنوح - عليه السلام - ثم تبعه بإبراهيم - عليه السلام ؟ يقول سبحانه : { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات : 84 ] هذه هي العلة لأن سلامة القلب هي الأساسُ في الدين وفي العقيدة ، لأن فطرة الله التي فطر الناسَ عليها ابتداءً مبنية كلها على هيئة الصلاح والسلامة ، فإنْ طرأ على هذه الفطرة فسادٌ فمن الإنسان . لذلك مدح سيدنا إبراهيم بسلامة القلب { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات : 84 ] وهو القلب الذي فطر عليه أولاً ظل كما هو لم يتغيَّر ، فعاش به ، وجاء به ربه في الدنيا ، لذلك يظفر به في الآخرة : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88 - 89 ] . فالسلامة الأولى التي فطره الله عليها استصحبها باستصحاب منهج الله ، فسَلِم في الدنيا ، فلقىَ اللهَ بقلْبٍ سليم في الآخرة ، وهكذا وصف اللهُ نبيَّه إبراهيم على أحسن ما يكون الوصف . وتأمل كلمة { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ } [ الصافات : 84 ] فهي تُوحي بأن سيدنا إبراهيم لم ينتظر إلى أنْ يأتي له رسولٌ يدعوه ، إنما أقبل على الله بنفسه ، وجاء بفكره يبحث ويتأمل في ملكوتِ السماوات والأرض ، إلى أنِ اهتدى إلى الله . لذلك لما أراد الله تعالى أنْ يُعرِّف نبيه إبراهيمَ ، وأنْ يُقدِّمه لمعشر الإيمان قال هذه البرقية الموجزة : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً … } [ النحل : 120 ] . تعلمون أن الحق سبحانه خلق المواهب ووزَّعها على الناس ، فكلٌّ مِنَّا له موهبة في شيء ما ، ذلك ليظلَّ الناسُ مترابطين ترابطَ حاجةٍ ، فتحتاج لي وأحتاجُ لك ، أما سيدنا إبراهيم فقد جمع وحاز كل المواهب التي في أمة كاملة ، فالمعنى { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] يعني : حاز مواهب أمة . لذلك استحق - عليه السلام - أنْ يُريه الله ملكوتَ السماوات والأرض ، فالناس جميعاً يكتفون بعالم المُلْك ، أما هو فقد تجاوز هذا العَالَم إلى عالم الملكوت ، لماذا ؟ لأنه جرَّد نفسه عن شبهة اليقين بأحدٍ غيرِ الله ، بدليل أنه لما أُلْقِى في النار وجاءه المَلَك يعرض عليه المساعدة : ألكَ حاجة ؟ فيقول سيدنا إبراهيم بما لديه من رصيد الإيمان واليقين بالله أما إليك فلا . يقولها في هذا الوقت العصيب ، وهذا الكرب المُلِمّ . وقوله سبحانه : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } [ الصافات : 85 ] وهذه تُعَدُّ من سلامة القلب ، لأنه أحبَّ شيئاً وسَعِد به ، فأراد أنْ ينقله إلى غيره وأوَّلهم الأقارب ، فهم أَوْلَى الناس بأنْ تُعدِّي لهم خيرك لذلك أول ما دعا إبراهيم دعا أباه وقومه : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } [ الصافات : 85 ] . وكلمة لأبيه وردتْ في القرآن عشرَ مرات ، واحد فقط منها لسيدنا يوسف - عليه السلام - في قوله تعالى : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] والتسع الباقيات لسيدنا إبراهيم بدايةً من سورة الأنعام إلى سورة الممتحنة ، من هذه التسع موضع واحد جمع فيه بين الاسم العَلَم والوصف ، فقال : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّيۤ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 74 ] . وفي الثمان الباقيات جاءت كلمة لأبِيهِ بدون ذكر آزر ، فكأن كلمة آزر جاءتْ في هذا الموضع لِتُشْعرنا بشيء ، هو أنك إذا جمعتَ بين الوصف والعَلَم ، فلا بُدَّ أنْ يكون الوصفُ مشتركاً مع غير العَلَم ، وضربنا لذلك مثلاً قُلْنا : إذا أردتَ أنْ تسألَ عن شخص ، وقابلك ولده في الشارع تقول له : أبوك موجود ؟ لأن هذا السؤال لا ينصرف إلا إلى أبيه الحقيقي ، فإنْ قلتَ : أبوك محمد موجود ؟ فإنك لا شكَّ تقصد عمه ، لأنك مَيَّزته باسمه لإزالة الاشتراك في الأُبوّة . إذن : آزر لم يكُن الأب الحقيقي لسيدنا إبراهيم ، إنما هو عمه ، ولا غرابةَ في ذلك ، فالقرآن يُسمِّي العم أباً في قوله تعالى : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 133 ] . ومعلوم أن إسماعيل أخو إسحاق ، ومع ذلك أدخله في جملة الآباء بالنسبة لسيدنا يعقوب ، عليهم جميعاً الصلاة والسلام . وسيدنا إبراهيم في معرض دعوته لأبيه وقومه يسألهم هذا السؤال : { مَا تَعْبُدُونَ } [ الشعراء : 70 ] وفي موضع آخر : { مَاذَا تَعْبُدُونَ } [ الصافات : 85 ] و { مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [ الأنبياء : 52 ] . وهنا : { مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ } [ الصافات : 85 - 86 ] وهذه كلها استفهام إنكاري ، وقُلْنا : إن الاستفهام أقوى من الإخبار لأن الإخبارَ يمكن أنْ يُكذَّب ، أمَّا الاستفهام فيجعل الخصم يُقِرّ بالقضية ، ولا يستطيع أنْ يُكذِّبها . والإفْك هو أقبح أنواع الكذب لأن القُبْح في الكذب على مراحل ، كيف ؟ قالوا : ننظر في الموضوع الذي يكون فيه الكذب ، فإنْ كان في الحقيقة العُلْيا في الذات الإلهية ، فهو أقبح الكذب كمَنْ يدَّعِي لله شريكاً . فإنْ كان الكذب على البشر فهو بحسب مَنْ تكذب في حَقه ، فمثلاً الذين اتهموا السيدة عائشة وخاضوا في عِرْضها سَمَّاهُ الله إفْكاً لشناعته وعِظَم منزلة مَنْ قيل في حَقِّه هذا الكذب ، فقال سبحانه : { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ … } [ النور : 11 ] . ومن معاني الإفك قَلْب الشيء على وجهه ، وقَلْب الحقيقة ، ومن ذلك قوله تعالى : { وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ } [ النجم : 53 ] . والمعنى : أتريدون آلهة إفكاً وكذباً دون الله { فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الصافات : 87 ] أخبرونا ماذا تظنون في الله ؟ وما الذي لا يعجبكم في ألوهيته سبحانه ؟ وكيف تخدعون أنفسكم ، فتنصرفون عنه سبحانه ، وهو رَبُّ العالمين ، ومثَالُ ذلك قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } [ الانفطار : 6 ] . لذلك قال أحد العارفين : كأن الحق سبحانه لقَّن الناسَ الجوابَ ، فالذي غَرَّني بالله أنه كريم . والطُّرْفة هنا أن رجلاً رأى آخر يصلي صلاة على عَجَلٍ ، ينقرها نقراً ، فقال له : بالله لو عليك خمسة قروش لواحد ، يصح أنك تعطيها له ممسوحة ؟ فقال الرجل : والله ، لو كان كريماً سيقبلها ولا ينظر فيها . فكأن الحق سبحانه يتعجَّب من هؤلاء الذين أشركوا به سبحانه ، مع وضوح الدليل على بُطلان شركهم ، والشيء لا يُتعجَّب منه إلا إذا جاء على غير ما يجب أنْ يكونَ عليه من الصِّدْق لذلك قال سبحانه في أول البقرة : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] . يعني : هذا أمر عجيب منكم ، ومسألة لا يقبلها العقل . ثم بدأ سيدنا إبراهيم - عليه السلام - يُحقِّق قَوْلَ ربه : { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الأنعام : 75 ] وسبق أنْ فرَّقْنا بين المِلك والمُلك والملكوت .