Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 37, Ayat: 88-96)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى عن سيدنا إبراهيم { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ } [ الصافات : 88 ] هذه أولى خطوات إبراهيم إلى عالم الملكوت ، والنظرة هنا ليستْ هي النظرة الخاطفة العابرة ، إنما نظرة التأمُّل الفاحصة المتأنية ، فهي بمعنى رَأَى بتمعُّن واستنباط ، ومن ذلك قولنا : هذه مسألة فيها نظر . يعني : تأمُّل وتأنٍّ . والنجوم مفردها نجم ، وهو كل مضيء في السماء إضاءةً ذاتية ، لا أنْ يعكس ضوء الشمس ، وعليه فالشمسُ نَجْم من النجوم . فقوله تعالى : { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ } [ الصافات : 88 ] دَلَّ على أنها نظرة طويلة مُتأملة مستوعبة ، لأنها استوعبتْ كوكباً وقمراً وشمساً . لذلك شرح لنا هذه النظرة في موضع آخر ، فقال سبحانه : { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ * فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ * فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 75 - 79 ] . إذن : كانت نظرةُ إبراهيمَ طويلةً متأنيةً لأنها استغرقتْ طيلة مطلع الكوكب وغيابه ، ثم مطلع القمر وغيابه ، ثم مطلع الشمس وغيابها ، فلما رأى - عليه السلام - أن هذه المرائى لا تصلح لأنْ تكونَ آلهة تُعْبد ، قال : { إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] البعض يعدُّها كذبةً من كَذِبات سيدنا إبراهيم أنه قال لقومه : إني مريض . إذن : أخذوا السُّقْم على أنه سُقْم الأبدان والمراد هنا سُقْم القلب ، وشُغُله بما لا يستطيع الإنسانُ تحمُّله من إنكار القوم لمسألة الألوهية … فهذه قضية تتعبه وتُؤرِّقه . وهذا هو السُّقم الذي أراده سيدنا إبراهيم { فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] أي : مُجهد فكرياً من إنكار الناس لقضية الألوهية . إذن : إبراهيم عليه السلام لم يكُنْ ينظر في النجوم ليرى دليلاً يقتنع هو به ، إنما يبحث عن دليل مادي في الكون ينقله للناس . لكن ، ما الذي أحوجه أنْ يقولَ للقوم : إني سقيم ؟ قالوا : لأنهم كانوا في يوم عيد يجتمعون فيه ، فقال : إني سقيم لكي لا يخرج معهم ، وليتفرغ هو لما عزم عليه من تحطيم الأصنام ، يقول تعالى : { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } [ الصافات : 90 ] أي : انصرفوا وتركوه . { فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } [ الصافات : 91 ] معنى راغ : ذهب خُفية ، بحيث لا يراه أحد ، أو تسلَّل كمن يريد الانصراف من مجلس دون أن يشعروا به ، فيمشي خطوتين ثم يقف ، ثم يمشي ، ثم يتوارى خلف شيء وهكذا حتى يخرج ، وهذا المعنى نقوله بالعامية : فلان زوَّغ أو زاغ . وسيدنا إبراهيم فعل ذلك وتسلل إلى آلهتهم ليحطمها ، لكن قبل أنْ يحطمها استهزأ بها { فَقَالَ } [ الصافات : 91 ] أي : للآلهة { أَلا تَأْكُلُونَ } [ الصافات : 91 ] فلم يُجيبوا ، فقال : { مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ } [ الصافات : 92 ] قالها سخريةً واستهزاءً بهم . بعد ذلك مال عليهم ضرباً { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِٱلْيَمِينِ } [ الصافات : 93 ] وقلنا : إن اليمين جهة القوة . كما في قوله سبحانه : { قَالُوۤاْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ } [ الصافات : 28 ] أي : من جهة القوة والقهر . والمعنى أن سيدنا إبراهيم أخذ يُحطمها بقوة ويُكسِّرها ، حتى أحدث التكسيرُ صوتاً عالياً سمعه القوم { فَأَقْبَلُوۤاْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } [ الصافات : 94 ] أي : مسرعين . فلما رآهم { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 - 96 ] الاستفهام هنا للتعجُّب وللاستنكار ، يقول لهم : كيف تعبدون إلهاً من صُنْع أيديكم تنحتونه من الصخور ، فأنتم أعلمُ الناس به ، وتروْنه يقع ، فتقيمونه في مكانه ، وينكسر فتصلحونه ، ويجرفه السيل ويمرغه في الوحل فتنتشلونه . إذن : كيف يُعْبد مثل هذا الإله ، وكيف تنصرفون إلى عبادته ، وتتركون عبادة الله الإله الحق الذى خلقكم ، وخلق ما تعملون ؟ وطبعاً ليس لديهم جواب لهذا السؤال ، وليس لديهم رَدٌّ على إبراهيم إلا ردّ القوة والبطش ، فلا حُجَّة لديهم ، ولا منطقَ يدافعون به عن آلهتهم : { قَالُواْ ٱبْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي ٱلْجَحِيمِ * فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً … } .