Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 38, Ayat: 17-20)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الصبر : استعلاء النفس على الأحداث بمعنى ألاَّ تنال الأحداثُ من النفس ومن قوتها ، لأن الذي يُصاب بمصيبة يحتاج إلى قوة إضافية فوق قوته الطبيعية ، فلا تجعل المصيبة أو الشدة تُضعف من قوتك على تحمُّل الحدث . وإياك أنْ تجعل المصيبة مصيبتين ، حين تضعف أمام الأحداث فيجتمع عليك المصيبة والضعف عن تحملها ، ذلك لأن المصيبة بالنسبة للمؤمن على قسمين . الأول : مصيبة للإنسان دَخْلٌ فيها كالطالب المهمل الذي يرسب في الامتحان ، فالرسوب نتيجة إهمالك وتهاونك ، فإنْ كنت ستغضب فاغضب من نفسك ولُمها وعنِّفها ، وحاول أن تصححَ خطأها ، وتصلح فسادها ، هذه هي الرجولة التي تواجه الواقع ولا تتنصَّل من المسئولية . الثاني : صبر على حَدَث ليس للإنسان دَخْل فيه ، وهذا هو الأمر القدري يُجريه الله عليك ، ولا يريد لك منه إلا الخير ، وإنْ كنتَ تعتقد أنت أنه شَرٌّ . لذلك قد يدعو الإنسان بما يراه خيراً له حَسْب قوانينه وفَهْمه للخير ، لكن لا يرى إجابة فيغضب ويقول : دعوتُ فلم يُستجب لي . وغفل أن ربه - عز وجل - أعلمُ بالخير أين هو ، لذلك لم يُجِبْهُ ، إذن : فإجابته لك ألاَّ يجيبك . لذلك يُعلِّم الحق سبحانه المؤمنين الرّد على الذين كانوا يشمتون في الأحداث تصيبهم ، فيقول : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا } [ التوبة : 51 ] نعم ، كتب الله لنا لا علينا ، لأن المصيبة لا تأتي المؤمنَ إلا بالخير ، فهي إما تمحيص لنا وإما عُلُو لمرتبتنا ، وإما ليعلم غيرُ المؤمنين أن لأهل الإيمان جلادةً أمام الأحداث ، وصلابةً لا تلين . ومن ناحية أخرى ، نجد المصيبة التي تصيب الإنسانَ إما مصيبة له فيها غريم ، أو مصيبة لا غريمَ فيها ، فالمصيبة التي لك فيها غريم اعتدى عليك مثلاً تحتاج إلى صبر أقوى وجَلَد وتحمُّل أكثر ، لأنك كلما رأيتَ غريمك حرَّك فيك كوامن النفس ودواعي الانتقام ، أما المصيبة التي ليس لك فيها غريم ، وهي المصيبة القدرية التي أصابتْك بقدر الله فهي أهون على النفس من الأولى لأنها من الله ، فلا تملك معها إلا أنْ تقول لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله وتصبر وتحتسب ، وإلا فماذا تفعل مثلاً أمام المرض أو الموت ؟ لذلك يقول سبحانه في المصيبة التي لك فيها غريم : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ الشورى : 43 ] يعني : تحتاج إلى عزيمة وقوة تحمُّل تعينك على الصبر ، أو تدعوك إلى المغفرة ، أما المصيبة القدرية التي لا غريمَ لك فيها ، فيقول الحق فيها : { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ لقمان : 17 ] ولم يقُلْ هنا { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ الشورى : 43 ] ، فآية لقمان في المصيبة التي لا غريم فيها ، فأتت بدون اللام ، وآية الشورى لما فيها غريم فأتت فيها اللام . هنا الحق سبحانه يريد أنْ يُسلِّي نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ويُخفِّف عنه ما يلاقي من قومه ، فقولهم عن رسول الله أنه ساحر وكاذب ومجنون … إلخ كل هذا يُحزن رسول الله ويشقُّ عليه ويُؤلمه لذلك مرَّتْ بنا آياتٌ كثيرة في تسليته صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] . وهنا يخاطبه ربه : { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } [ ص : 17 ] ثم يعطيه مثلاً من موكب الرسالات السابقة { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ } [ ص : 17 ] لكن لماذا ذكر سيدنا داود بالذات في هذا المقام ؟ قالوا : لأن قومَ سيدنا داود قالوا في حقه ما هو أفظع مما قيل في حَقِّ رسول الله ، فكفار مكة قالوا : ساحر ، وكاهن ، وكذاب . أما قوم داود فقد اتهموه في شرفه وعفَّته وطهارته ، حين زعموا أنه بعث بأحد قادته إلى حرب خارج البلاد لأنه كان يحب زوجته ، ويريد أنْ يخلوَ له الجو وينفرد بها ، ومع ذلك صبر سيدنا داود . والحق سبحانه يخاطب نبيه محمداً ويقول له : اصبر كما صبر داود . مع أن محمداً هو خاتم الرسل جميعاً ، فلا رسالةَ بعده وفوَّضَه الله في أنْ يُشرِّع لأمته ، وهذه خصوصية لم تسبق لأحد غيره من الرسل ، وأرسل الله معه كتاباً خالداً مهيمناً على كل الكتب السابقة ومع ذلك يقول له ربه : اصبر كما صبر داود ، وكما صبر إخوانك من الرسل ليدلَّ على أن أمة الرسالة أمة واحدة ، كل منهم يُبلِّغ عن الله رسالة مناسبة لقومه ، فالرسل جميعاً كشخص واحد . لذلك قال تعالى : { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ } [ ص : 17 ] وبعد ذلك ذكر عدةَ رسُل من موكب الرسالات ولم يقُلْ عبادنا ، كأنهم تجمعوا كلهم في مهمة واحدة فلا تفرق بينهم لذلك يقول سبحانه : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ … } [ الشورى : 13 ] . وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوني على يونس بن متى " . لأنكم لا تعلمون مقاييس المفاضلة ، فدعوا المفاضلة لله تعالى فهو الذي يُفضِّل ، كما قال سبحانه : { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ … } [ البقرة : 253 ] . وتأمَّل هذا الشرف الكبير الذي ناله سيدنا داود حين تحدَّث الحق عنه ، فقال { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ } [ ص : 17 ] كذلك نال سيدنا محمد في استهلاك سورة الإسراء : { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] فليس للإسراء حيثية ، إلا أنه صلى الله عليه وسلم عبد أخلص العبودية لله فاستحق هذا الشرف العظيم لذلك لما جَفتْ به الطائف واضطهدوه وشتموه جاء العزاء من الله ، فإنْ كانت الأرضُ لم تحتَفِ بك ، فسوف تحتفي بك السماء . وقوله تعالى : { ذَا ٱلأَيْدِ } [ ص : 17 ] يعني : صاحب القوة في العبادة ، والإيمان يحتاج فعلاً إلى قوة تُعينك على الطاعة ، وتزجرك عن المعصية ، وتكبح جماحَ النفس حين تميل بك إلى المخالفة ، أما الطاعة فتحتاج إلى قوة لأن الطاعةَ غالباً ما تكون ثقيلة على النفس ، فتحتاج إلى قوة دافعة حافزة لذلك يقول تعالى عنها : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] . أما المعصية فلها لذة وجاذبية وشهوات تُلِح على النفس ، فتحتاج كذلك إلى عزيمة وقوة رادعة كابحة لذلك كثيراً ما يتكرر ذِكْر القوة في كتاب الله ، فقال عن داود { ذَا ٱلأَيْدِ } [ ص : 17 ] ، وقال ليحيى عليه السلام : { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } [ مريم : 12 ] . فالمؤمن لا بُدَّ أنْ يكون قوياً ، قويَّ الإرادة والعزم ، لا بُدَّ له من قوة الدفع إلى الطاعات لأنه يكسل عنها ، وقوة الردع عن المعاصي لأنه يميلُ إليها ، والإنسان لا يكسل عن الطاعة ولا يرغب في المعصية إلا حين يعزل العملَ عن الجزاء والعاقبة ، ولو استحضر الجزاء وتذكَّر العاقبة لَهانت عليه الطاعة وخَفَّتْ على نفسه وسَهُلَتْ ، ولَزِهدَ في المعصية ، وفَرَّ منها فراره من الأسد . وقد أوضحنا هذه المسألة بمثال قلنا : هَبْ أن شاباً طغتْ عليه الغريزة الجنسية ، وهي أعنف الغرائز في الإنسان ، فقلنا له : تقضي ليلة مع فتاة جميلة لكن في الصباح سنُدخلك هذا الفرن المتأجج لمدة ساعة ، فماذا يقول ؟ إذن : استحضار العقاب على المعصية عند المعصية يمنعك منها ، كذلك استحضار الثواب على الطاعة يدفعك إليها . وهناك في جبال الهملايا وعند قمة إفرست وجدوا ضحايا كثيرين مِمَّن يحاولون اعتلاء هذه القمة ، فبعضهم مَات بعد ثلث المسافة ، وبعضهم بعد الثلثين وهكذا ، فما الذي حملهم على تحمُّل هذه المصاعب والمخاطر ؟ إنها شهوة الاستعلاء على هذه القمة التي تُعَدُّ أعلى قمة في العالم ، إنه حب الشهرة وتخليد الذكْر في دوائر المعارف ، إذن : استهانوا بالأخطار ليصلوا إلى هذه الغاية التي يتطلَّعون إليها . فالذي يجعل الإنسان يزهد في الطاعات ويتكاسل عنها أنه لم يستحضر الثوابَ عليها ولو استحضر ثوابها لَسهُلَتْ عليه ، كما قال الشاعر : @ تَهُونُ عَلَيْنا في المعَالِي نُفُوسُنَا ومَنْ يخطُب الحَسْنَاءَ لم يُغْلِهَا المهْرُ @@ والنبي صلى الله عليه وسلم يشرح لنا هذه المسألة بقوله : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارقُ حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمرَ حين يشربها وهو مؤمن " . يعني : ينتفي عنه وَصْفُ الإيمان في لحظة وقوعه في هذه المعصية لأنه غفل عن العاقبة ، وغفل عن الله ، ولو استحضر اللهَ في ذهنه ما أقدم . ثم يقول تعالى في وصف سيدنا داود : { إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 17 ] من الفعل آب آيب وأوَّاب صيغة مبالغة على وزن فعَّال . يعني : كثير التوبة والأوْب إلى الله ، وهذه الكلمة فيها إشارة إلى أن الإنسانَ عُرْضة للمعصية ، وأنه مهما تاب فهو مُعرَّض للعودة مرة أخرى لأنه ليس معصوماً ، المهم أنْ تحدثَ لكل ذنب توبةٌ ، وألاَّ تكون مُصِراً على أن تعودَ . لذلك تلحظ أن من أسماء الله تعالى الغفار { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [ طه : 82 ] ولم يقل غافر ، لماذا ؟ لأن الخَلْق فيهم غفلة ، وفيهم معصية تتكرر ، وتكرُّر المعصية يحتاج إلى تكرُّر المغفرة لذلك من رحمة الله بنا أنه غفَّار أي : كثير المغفرة . وقوله تعالى في حَقِّ سيدنا داود : { إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 17 ] تشرح لنا فيما بَعْد معنى { وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ ص : 24 ] . ثم يقول تعالى : { إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } [ ص : 18 ] معنى : { بِٱلْعَشِيِّ } [ ص : 18 ] الوقت بعد الظهر إلى المغرب { وَٱلإِشْرَاقِ } [ ص : 18 ] بعد شروق الشمس وهو وقت الضحى ، ومعلوم أن الجبال جماد ، والجماد هو أدْنى الأجناس في الكون ، فالإنسان هو سيد هذا الكون ، وهو أعلى الأجناس ، يليه الحيوان ، ثم النبات ، ثم الجماد . الحق سبحانه يخبرنا أن الجماد يُسبِّح ، وأن للجماد حياةً في حين يظن الإنسان أن جماد يعني جامد لا حياةَ فيه ، نعم لا حياةَ فيه بمقياسك أنت ، لكن له حياة أخرى غير حياتك ، أنت تسعى وتجري في طول الدنيا وعرضها ، أما الجماد فثابت لا يتحرك . لكن لكل جنس حياة تناسبه ، فأنت أيها الإنسان لك حياتان : حياة في حال اليقظة ، وحياة أخرى في حال النوم ، أقانونك وأنت نائم هو قانونك وأنت مستيقظ ؟ إنك ترى في النوم الأشخاص والأشكال ، وتُميِّز بين الألوان ، وتعيش قصة طويلة وتَعِي تفاصيلها ، كل هذا وأنت نائم مُغْمضَ العينين ، فبأيِّ حاسة رأيتَ ما رأيت ؟ بعد ذلك لك حياة أخرى مناسبة للموت ، وحياة أخرى مناسبة للبعث . وإنْ أردت أنْ تستدلَّ على أن كل شيء في الوجود له حياة تناسبه ، فاقرأ إنْ شئتَ : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] بعض العلماء قال - ليخرج من هذا المطب - التسبيح هنا يعني تسبيح دلالة . يعني : هذه المخلوقات تدل على خالقها ، وليس المراد تسبيح المقال ، ولو كان التسبيح المراد تسبيح دلالة كما يقول ما قال الحق بعدها : { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] لأننا نفهم تسبيحَ الدلالة . إذن : لا بُدَّ أنْ لها تسبيحاً آخر ، لا نعلمه نحن . كذلك في قوله تعالى في الطير : { وَٱلطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَه وَتَسْبِيحَهُ } [ النور : 41 ] فليس لنا أن نبحث في كيفية صلاة الطير ، فكل جنس يعلم كيف يصلي لله خالقه ، ألم تَرَ النملةُ جنودَ سليمانَ فتسرع لتحذر قومها : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النمل : 18 ] وتأمل هذا الاحتياط في قولها وعدالة الحكم في { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النمل : 18 ] فهم ليسوا ظلمة ولا جبارين ، وإنْ مرُّوا عليكم سيحطمونكم من حيث لا يدرون ولا يشعرون بكم . ألم يعلم هدهدُ سليمانَ قضيةَ التوحيد ؟ ألم يكُنْ سبباً في هداية قوم ضلُّوا وعبدوا الشمس من دون الله حين عاد إلى سليمان ، يقول { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 22 - 23 ] . والذي أغاظ الهدهد وأثَّر في نفسه أنْ يراهم يسجدون للشمس من دون الله : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ النمل : 24 - 25 ] . إن الهدهد يفهم القضية كاملة ، بل ويجيد في ذلك ما لا يجيده الإنسانُ العاقل . والإنسان الذي يُدِلُّ على الكون بعقله وفهمه ، ألم يُعلِّمه الغراب كيف يُواري سَوْأةَ أخيه وجثته : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ … } [ المائدة : 31 ] . إذن : فكل كَوْن له عالمه ، وله لغته ، وله صلاته لله وخشوعه ، فلا تفرض قانوناً لتسحبه على قانون آخر ، فتحيل كثيراً من الأشياء . وإنْ أردتَ سنداً لهذا من نفس القرآن فاقرأ قوله تعالى : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] فالهلاك نقيض الحياة . واقرأ : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] . إذن : حين نجمع بين الآيتين نرى أن كل شيء له حياة خاصة به ، وإنْ كنا لا ندرك نحن كُنْه هذه الحياة لكنها موجودة ، بدليل أن كل شيء هالك . والآن بدأ العلماء يُسجِّلون لغة الطير ولغة الحيوان ويتوصَّلون إلى حَلِّ شفرة هذه اللغات . ومن العجائب التي جعلها الله لتشرح لنا قدرته تعالى في كونه أنهم لما صنعوا الصاروخ ديسكافري ، وأرادوا إطلاقه إلى الفضاء ووزنه 110 أطنان ، وجدوا به عُطْلاً يمنع انطلاقه ، فلما بحثوا عن العطل وجدوا طائراً وزنه أربعة جرامات اسمه نقار الخشب نقر في الجدار العازل لخزان الوقود في الصاروخ اثنين وأربعين ثقباً فعطَّل الصاروخ عن الانطلاق ، وهكذا سُخِّر طائر وزنه أربعة جرامات وبنى عُشَّه على هذا الصاروخ العملاق فعطَّل حركته . وكأن الطيورَ أرادتْ أنْ تثأر لنفسها لما رأت الإنسان يزاحمها في عالم الطيران لذلك وجدوا أن أكبر شيء يهدد الطيران هو عالم الطيور ، وأن جماعات منها تعترض الطائرات ، وتحوم حول المطارات وكأن هناك عداوةً بينها وبين هذه المخلوقات التي تنازعها الطيران . لذلك فكَّر علماء الطيران في فكرة تطرد الطيور عن المطارات ، فأخذوا فكرة أصوات الطيور التي تصدرها كإنذار لغيرها عند حدوث خطر وسجَّلوا هذه الأصوات وأذاعوها حول المطارات ، لكن الطير تنبَّه إلى هذه الخدعة ، ولم تَعُدْ تزعجه هذه الأصوات ، لذلك لجأوا إلى وسيلة أخرى فقالوا : إن الطيور تخاف من الصقور ، فصنعوا لها مُجسَّمات من البلاستيك وعلَّقوها ، لكن هذه الخدعة عرفها الطير ، وسَخر منها حين وضعتْ بعض الطيور أعشاشها على أجنحة هذه الصقور . إذن : للطير عالمه ومملكته وأسراره ، عرفنا منها شيئاً ، وغابت عنا منها أشياء . فإذا قرأتَ عن سيدنا داود : { إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } [ ص : 18 ] فاعلم أن الجبال تسبح على الحقيقة تسبيحاً لا يعلمه إلا ربها وخالقها . والميزة هنا لسيدنا داود ليست في تسبيح الجبال لأن الجبال مُسبِّحة دائماً ، إنما المعجزة هنا أنها تُسبِّح معه وتردد معه نشيداً واحداً ، فالكلام في معه أي تُسبِّح مع تسبيحه . لذلك قلنا في قولهم : سبِّح الحصى في يد رسول الله ، قلنا : عدِّلوا العبارة ، لأن الحصى يسبح حتى في يد أبي جهل ، فالصواب والمعجز أن نقول : سمع رسول الله تسبيحَ الحصى في يده . هذه هي العظمة . ومعنى { بِٱلْعَشِيِّ … } [ ص : 18 ] العَشِيُّ : الفترة بعد الظهر إلى المغرب { وَٱلإِشْرَاقِ } [ ص : 18 ] أي : شروق الشمس ، وقد أخذ بعض الأئمة من هذه الآية دليلاً على مشروعية صلاة الضحى التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعضهم يقول عن هذه الصلاة : صلاة الإشراق . لكن أيّ عشي ؟ وأيّ إشراق ؟ هذا وقت وكل مكان له عَشِيٌّ وله إشراق يخالف الآخر . إذن : فهو وقت ممتد في كل وقت كما أوضحنا في الصلاة ، فهي دائمة ممتدة لا تنقطع أبداً ، ففي مكان يُصلِّي الصبح ، وفي آخر يُصلِّي الظهر ، وفي آخر يُصلِّي العصر وهكذا . فكأن الخالق سبحانه أراد بهذه الدورة الزمنية أنْ يُعبَد سبحانه في كل جزئيات الزمان عبادة لا تنقطع في وقت من الأوقات . ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوبَ مسيء النهار ، ويبسطُ يده بالنهار ليتوبَ مسيء الليل " ولا يخلو الزمن أبداً من ليل أو نهار ، إذن : فالمعنى أنه سبحانه يده مبسوطة دائماً . ثم يقول سبحانه : { وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 19 ] معنى محشورة أي : مجتمعة حول سيدنا داود ، لأنه عليه السلام كان جميل الصوت حين يقرأ المزامير ويتغنى بها ، فكانت الطيرُ تجتمع عليه وتُردِّد معه وتُرجِّع ما يقول : إذن : كانت منظومة إيمانيةً مُكوَّنة من سيدنا داود والجبال والطير ، جميعهم يرددون تسبيحاً واحداً ، وكأنهم كما قلنا : كورس واحد . لذلك قالوا في { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 19 ] أي : داود والجبال والطير ، كل منهم أواب لله خاضع له راجع إليه . وقوله : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } [ ص : 20 ] أي : قوَّيناه وساندناه بالنصر والهيبة ، النصر في كل شيء ، والهيبة أقوى أسباب القوة لذلك إذا أراد اللهُ أنْ يضعف الملِك نزع الهيبةَ منه من القلوب ، وحين لا يهابه الناس يتجرأون عليه . { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } [ ص : 20 ] الحكمة : وَضْع الشيء في موضعه المناسب له ، والذي تأتي منه الثمرة المرجوة من أقصر الطرق وأيسرها ، والحق سبحانه حين يأتي بلفظ من الألفاظ يأخذ أنْسَه بما في اللغة ، فالحكمة مأخوذة من الحَكمة ، وهي اللجام الذي يُوضَع في حَنَك الجواد ، فيسهل التحكم فيه وضبط حركته كما أريد ، فأرخى له ليسرع ، وأجذبه فيقف . وقالوا : الحكمة أي النبوة وسداد الرأي في الأمور ، وقد امتاز كل من سيدنا داود وسيدنا سليمان بالذات بأنْ جمعَ اللهُ لهما الملْكَ والنبوة لذلك رأينا المخالفين لهما فطسانين لا وجودَ لهم ، ولا أثر لأن الملك يطمس عُنْف المخالف . ومعنى { وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ } [ ص : 20 ] أي : علم الفَصْل في الخصومات ، والفصل لا يكون إلا في متجادلين ، يأتي هذا بحجة وهذا بحجة ، وعلى الحكَمِ بينهما أنْ يفصلَ بينهما ، بأنْ يُنصِفَ الحق ويبطل الباطل . وإنْ كانت مسألة فصْل الخطاب هذه اعترض عليها لأن سيدنا سليمان فيما بعد عدّل حكماً لأبيه ، وهذه تحسب أيضاً لسيدنا داود لأن الذي عدل حكمه هو ولده ، والإنسان لا يحب لأحد أن يتفوَّق عليه إلا ولده لذلك سُرَّ بها سيدنا داود .