Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 34-34)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الفتنة معناها الاختبار ، والفتنة في ذاتها ليست مكروهة ، إنما المكروه أنْ تُخفق فيها وتفشل في خوضها ، فماذا عليك لو فتناك . يعني : اختبرناك ونجحتَ في الاختبار ؟ وأصل الفتنة من فتنة الذهب لتنقيته ، فالذهب منه المخلوط بمواد أخرى ، ونريده ذهباً إبريزاً صافياً فماذا نفعل ؟ نصهر الذهب في النار ليخرج منه الخبث إلى أن يصير خالصاً نقياً ، كذلك تفعل الفتنة بالناس تمحِّصهم لتبين الجيد من الرديء . وقد فتن الله سليمان كما فتن من قَبْل أباه داود - عليهما السلام - في مسألة المحراب . ومعنى : { وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً … } [ ص : 34 ] الكرسي هو العرش الذي يجلس عليه الملك ، والجسد هو قالب الكائن الحي . ويقال لهذا القالب جسد إذا كان خالياً من الروح ، وللمفسرين في هذه الآية عدة أقوال : قالوا : إن سيدنا داود كان له ولد آخر غير سليمان ، إلا أنه كان ولداً فاسداً مثل ولد نوح ، فاحتال هذا الولدُ وقام بانقلاب على سليمان ، حتى أخذ المُلْكَ منه ، وظل مَلِكاً مدة طويلة ، فلما أراد الحق سبحانه أنْ يعيد سليمان إلى مُلْكه ألقى هذا الولد الفَاسِد على كرسي عرشه جسداً هامداً لا حركة فيه ، يعني : بعد أنْ كان مَلِكاً مُطاعاً مُسيطراً صار لا يسيطر حتى على نفسه وجوارحه . بعد ذلك خرجتْ عليه رعيته فقتلوه ، وجاء بعده سليمان . وقالوا : إن سيدنا سليمان كان لديه جَوَارٍ كثيرات . فقال : سأطوف الليلة على سبعين جارية ، وآت من كل واحدة بولد فارس يركب فرسه في سبيل الله ، يعني : المسألة كلها كانت في الخير وفي الله ، إلا أنه لم يقدم المشيئة ولم يقُلْ : إنْ شاء الله ، فلم تَلِدْ منهن إلا جارية واحدة ، ولدتْ له جسداً لا حركةَ فيه ولا تصرُّفَ لأن المؤمن مُطالب بأنْ يقدم مشيئة الله إذا عزم على شيء في المستقبل ، كما قال سبحانه : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ … } [ الكهف : 23 - 24 ] . لأنك حين تقول : سأفعل غداً كذا وكذا ، فقد حكمتَ على فعل لا تملك عنصراً واحداً من عناصره ، فأنت لا تضمن بقاء نفسك إلى أنْ تفعل ، ولا تضمن تغيُّر الأحوال وتغيُّر الأسباب ، فحين تعلِّق فعلَك على مشيئة الله إنما تحفظ كرامتك وتبرئ نفسك من الكذب ، فقد شئتَ ولكن الله لم يَشَأْ . ويبدو أن المُلْكَ أغرى سليمان ، فداخله شيء من الزَّهْو لأنه متحكم في عوالم الإنس والجن والطير والحيوان ومُطَاع من الكون كله من حوله ، لذلك لم يقُلْ إنْ شاء الله ، فجازاه الله بذلك . وقال آخرون : إن سليمان - عليه السلام - أنجب ولداً ، وأن الجن أرادتْ به سوءاً لأنها خافت أنْ يفعل بها كما يفعل سليمان ، فأرادوا قتله ، فما كان من سليمان إلا أنْ رفعه فوق السحاب يرضع من المزْن ، فكأنه - عليه السلام - أراد أنْ يفر من قدر الله . وقالوا : إن الجسد هو سليمان نفسه لأن الإنسان العادي ، جعله الله يتحكَّم في جوارح نفسه حين يريد اللهُ ذلك ، فيقوم بمجرد أنْ يريد القيام ، ويتحرك بمجرد أنْ يريدَ الحركةَ دون أنْ يعرفَ هو نفسه ماذا يجري في أعضائه ومفاصله ، فكأن الله تعالى يعطي الإنسان مثلاً في نفسه ليقرب له المسائل المتعلقة بالحق في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } [ الشورى : 11 ] . فإذا كنتَ أنت أيها المخلوق تفعل ما تشاء ، وتنفعل لك جوارحك وتطاوعك بمجرد الإرادة ، ودون أنْ تأمرها بشيء فهل تستبعد هذا في حقِّ الخالق سبحانه ، حين يقول : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] . إن الحق سبحانه يقول للشيء : كُنْ . أما أنت فلا تقول : كُنْ وقد أراحك الله منها ، وجعل الأعضاء تطاوعك دون أمر منك ، لأنك لو أمرتَها ما استجابتْ لك ، هي تستجيب للخالق سبحانه ، فإذا أراد الخالق سبحانه سَلبك هذه القدرة ، فتريد أنْ تحرك يدك فلا تستطيع لينبهك إلى أنها موهوبة لك ، ليستْ ذاتية فيك . الحق سبحانه وهب سيدنا سليمان القدرةَ على السيطرة على جوارح ذاته ، ثم عَدَّى هذه القدرة إلى السيطرة على الآخرين من جنسه ومن غير جنسه ، وجعل له سيطرةً على الكون كله ، ينفعل له ويجاوبه ، يعني : المسألةُ كانت استعلاءً في التسلُّط على جنود الله . ويبدو أن سليمان - عليه السلام - داخله شيء في نفسه ، فأراد الحق سبحانه أنْ يلفته إلى أن هذه القدرة ليستْ ذاتية فيك ، إنما هي موهوبة لك ، أسلبها حين أشاء ، فلا تستطيع السيطرة على جوارحك ولا السيطرة على الآخرين ، وألقاه الله فترة جسداً على كرسيه لا يقدر على شيء ، ولا يأمر بشيء . فما دامتْ هذه النعمة موهوبةً من الله الذي أعطاك مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدك ، فلا بُدَّ أنْ تظل مُتمسِّكاً بحبله ، لاجئاً دائماً إلى مَنْ ملَّككَ هذا الملْكَ . لذلك ، يُرْوَى أنه - عليه السلام - ركب مرة البساط ، وسارتْ به الريح كما يشاء ، وفجأة مال به البساط ، وكاد أنْ يُوقعه فأمره أنْ يستوي به . فقال له البساط : أُمِرْنَا أنْ نطيعك ما أطعتَ الله . إذن : فتناه لأننا مَلَّكناه مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، لكن لا نريد له أنْ يطغى أو يتعالى ، والحق سبحانه لا يكذب كلامه ، وقد قال سبحانه : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . وسليمان - عليه السلام - إنسان ، فأراد الحق سبحانه أنْ يُثبت لنا أن الإنسان تملَّك في جوارحه ، وتملَّك فيمن حوله ، وتملَّك في جنس آخر غير جنسه ، لكن هذا كله ليس ذاتياً فيه ، بل هو موهوب له بدليل أن الله سلبه هذا المُلْك في لحظة ما ، وألقاه على كُرسيه جسداً لا أمرَ له ولا نهيَ ولا سلطانَ على شيء . فلما فهم سليمان المسألة آبَ ورجع { ثُمَّ أَنَابَ } [ ص : 24 ] يعني : رجع إلى ما كان عليه قبل التجربة التي مَرَّ بها . يعني : رجع وعاد إلى الجسد الذي فيه روح ، أو أناب ورجع إلى الله وعرف السبب فالمعنى يحتمل المعنيين : أناب في السبب ، أو أناب في المسبب . والجسد هو الجِرْم والهيكل الظاهري الذي لا روحَ فيه ، والذي قال الله عنه { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ … } [ الحجر : 29 ] أي : الجسد ، ومنه قوله تعالى في قصة السامري : { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ … } [ طه : 88 ] يعني : هيكل العجل وصورته الظاهرية ، لكن بدون روح . فإنْ قَلْتَ : فهل يحدث هذا من الرسل ؟ يعني : هل يخطئ الرسول ويُصحِّح له ؟ نعم ، العيب أنْ يصحح لك المسَاوي لك ، إنما ليس عيباً أنْ يصحح لك الأعلى ، فماذا فيها إنْ كان الذي يُصحِّح لسليمان ربه عز وجل لا أنت . إذن : من الشرف أنَّ الله يُعدِّل لسليمان ، لذلك لما عَدَّلَ الحق سبحانه الحكم لنبيه محمد ، فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ … } [ التحريم : 1 ] . وقال : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } [ عبس : 1 - 2 ] فهل استنكف رسول الله أنْ يُعدِّل له ربه ؟ لا لم يستنكف بدليل أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أبلغ هذا التعديل وأخبرنا به ، وأنا لا أخبر إلا بما فيه شَرفٌ لي .