Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 41-41)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى مرة يتحدث عن ذاته سبحانه بضمير الجمع إنَّا ومرة بالمفرد إني أو إنني ، فإنْ كان الكلام في قضية التوحيد جاء بالضمير المفرد كما في قوله سبحانه لسيدنا موسى : { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ } [ طه : 14 ] لأنه يريد أنْ يقرر قضية التوحيد ، ويؤكد سبحانه أنه إله واحد لا شريك له . فإنْ كان الكلام عن أمر لله فيه عمل ولخلفائه في الأرض عمل يأتي بالجمع كما هنا { إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ } [ الزمر : 41 ] . وتأملوا حرف الجر في عليك وفي للناس فلحروف الجر في اللغة معَانٍ واسعة ، كلمة عليك تدلُّ على أنني أحملك المسئولية أمَّا اللام في للناس فتدلّ على النفع لهم ، كما نقول في الحسابات : له ، عليه ، فله تعطي نَفْعاً وعليه تعطي تبعات . فكأن الحق سبحانه يقول : يا قوم يا مَنْ تسمعون لدعوة محمد اعلموا أنها لصالحكم وتعود عليكم بالنفع والغنيمة ، فقد أنزلنا عليه حملاً ثقيلاً سيتعبه في ذاته وفي أهله ، وسيُعرِّضه للسخرية والإيذاء والتآمر … الخ . فالكتاب نزل عليك يا محمد بتبعاته ومسئولياته ، فتحمله وكُنْ من أولي العزم من الرسل الذين سبقوك ، مع أنهم أخذوا حيِّزاً محدوداً في الزمان وفي المكان ، أما أنت فأخذتَ حيِّزاً غير محدود ، لا في الزمان ولا في المكان ، فحين تتحمّل المشاق في سبيل دعوتك ، فاعلم أنك ستتحمل من الشدائد على قدر عموم رسالتك . إذن : فدعوة الإسلام خيرها لكم ومتاعبها يتحملها رسول الله ، هذا معنى { إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ لِلنَّـاسِ } [ الزمر : 41 ] أي : في صالحهم . وحين نُوسع الحروف ونقف على معانيها نأخذ مثلاً قوله تعالى في أول سورة البقرة : { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 5 ] . فالمؤمنون على الهدى ، و على تفيد الاستعلاء وكأنه مطيّة تحملهم وتريحهم لا تتعبهم وتُوصِّلهم إلى غايتهم ، هكذا جاء الهدى ليريح الناس ويحملهم إلى أشرف الغايات ، فالزموه لأنه ما جاء ليُحملكم ما لا تطيقون ، إنما جاء ليخدمكم . وقوله سبحانه : { بِٱلْحَقِّ } [ الزمر : 41 ] الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ، والحق يعني وضع الشيء في موضعه ، فإذا زحزحتهُ عن موضعه فأنا الطارئ عليه ، والحق لا بُدَّ أنْ يعود إلى موضعه مرة أخرى ، وإنما هي ابتلاءات واختبارات لنُمحِّص جنود الحق لتكون عندهم الأهلية لأنْ يحملوا الدعوة إلى أنْ تقوم الساعة . والحق سبحانه يعلمنا : إنْ رأيتَ الباطل علا وارتفع فخُذْ لك واقعة ، وخُذْ لك عبرةً من الأشياء المحسَّة التي تقع تحت بصرك في أصل الحياة وهو الماء ، فالماء ينزل من السماء على قمم الجبال فيأخذ معه إلى الوديان القش والحصى والزبد ، فتتكون طبقة كم الريم تعلو الماء وهي حقيرة لا قيمةَ لها حتى إذا ما هبَّتْ الرياح أزاحتْ هذا الزبد هنا وهناك وبقيتْ صفحة الماء نظيفة ناصعة ، هكذا يكون علو الباطل عُلواً مؤقتاً ، وسرعان ما يعود الحق إلى نصابه . والحق سبحانه ما سمح للباطل بأنْ يعلوَ إلا يظهر للناس ميزة الحق ، فحين يُعضّ الناسُ بالباطل ، وحين يؤلمهم يضجون منه ويشتاقون للحق ، فكأن الباطل جندٌ من جنود الحق . وقوله سبحانه : { فَـمَنِ ٱهْتَـدَىٰ فَلِنَفْسِهِ } [ الزمر : 41 ] أي : لصالحها ، لأن المشرع سبحانه حين شرع لنا وبعث لنا الرسل وأنزل الكتب ما انتفع من ذلك بشيء ، وهو سبحانه لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية ، لأنه بصفات الكمال المطلق أوجدك ، بل وأوجد لك قبل أنْ يستدعيك للوجود ، فبصفة الكمال فيه خلق ، فهو سبحانه خالق قبل أنْ يخلق شيئاً ، كما تقول : فلان شاعر ، يعني شاعر قبل أنْ تسمع منه شعراً ، لأنه ما قال الشعر إلا لأنه شاعر . إذن : الحق سبحانه لا ينتفع من عبادة الناس بشيء ، والفائدة كلها تعود عليهم هم ، لأنهم صنعته ، والصانع يريد لصنعته أنْ تكون على ما يرام وعلى خير حال من بدايتها إلى نهايتها إليه سبحانه . وما دام الشرع والمنهج جاء لصالح البشر ، فمَن اهتدى فالهداية تعود إليه ، ومَنْ ضَلَّ فضلاله عليه { فَـمَنِ ٱهْتَـدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَـلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } [ الزمر : 41 ] وتأمل هنا أيضاً معنى حرف الجر في { فَلِنَفْسِهِ } [ الزمر : 41 ] وحرف الجر عليها ، فنَفْع الهداية لك ، وضرر المعصية عليك . وقوله : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ } [ الزمر : 41 ] أي : ما أنت يا محمد عليهم بوكيل ، والوكيل هو مَنْ يكون حُرُّ التصرف فيمن وكل عنهم ، بحيث يستطيع أنْ يجبرهم ، وأن يحملهم على ما يريد هو . والحق سبحانه وتعالى ما أراد لنبيه صلى الله عليه وسلم ذلك كما قال سبحانه في موضع آخر : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] إنما أراد له أنْ يكون داعياً الحسنى ، بحيث يأتي إليه الناس بالحب طواعيةً ، ولو شاء لجعلهم كالملائكة وطبعهم على الطاعة . لذلك الكون الذي رضي أنْ يأتمر بأمر الله بدون اختيار له في شيء كان حكيماً واعياً لأن المتحمل قد يضمن نفسه ساعة التحمل ، لكن لا يضمن نفسه ساعة الأداء ، والفارق بين مسلك الناس في الأمور أنهم يختلفون في إدراك المسئولية ساعة التحمل وساعة الأداء ، وكل فساد بين الناس في التعامل إنما منشؤه هذه المسألة . وسبق أنْ مثّلنا لذلك بالأمانة أودعها عندك لحين عودتي مثلاً من السفر فتقبلها عندك ، وحين أعود لا أجدها ، فقد يطرأ عليك من الظروف ما يجعلك تتصرَّف فيها ، وهنا تظهر حكمة الجمادات التي أبتْ أنْ تتحمل الأمانة ، كما في قوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . وقوله سبحانه : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ } [ الزمر : 41 ] فيه تسليةٌ لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنّ ربه يقول له : لا تُتعب نفسك ، ولا تُحملها فوق طاقتها ، فما عليك إلا البلاغ ، فإنْ نالك شيء من أذاهم فاعلم أنه لا يُنقص من مكانتك عندهم ، فأنت عندهم الصادق الأمين ، وهم يعلمون أنك على الحق ، ومنزلتك عندهم كبيرة ، ورأيهم فيك من أحسن الآراء ، فلا تحزن لقولهم فيك : شاعر وساحر ومجنون : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] . فكأنَّ الحق سبحْانه جعل المسألة عنده سبحانه وأعفى منها رسول الله ، فأنت يا محمد لا غبارَ عليك ، وما كذبك المكذِّبون الظالمون إلا لأنهم جحدوا بآياتي .