Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 42-42)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

سبق أنْ قلنا : إن أحداً لم يشهد عملية الخَلْق لأن الخالق سبحانه لم يستعِنْ بأحد كما قال سبحانه : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] . إذن : كيفية الخَلْق لا يعرفها أحدٌ ، ولولا أن الخالق أخبرنا بها لَظلَّتْ غيباً ، فإنْ أردتَ أنْ تعرف كيفية الخَلْق فخُذْها من خبر مَنْ خلق ، وإن ادَّعَى أحد معرفتها من غير هذا الطريق ، فاعلم أنه من المضلين الذين أخبرَ الله عنهم ، وسمَّاهم مضلين قبل أن يُوجدوا ، وأيُّ ضلال أعظم من القول بأن الإنسان في أصله قرد وتطوَّر ؟ فكأن الحق سبحانه يعطي لخَلْقه المناعة التي تحميهم من هجمات أهل الضلال ، فيخبرهم بأمرهم أولاً ويُحذِّرهم منهم ، يعني : تنبَّهوا فسوف يخرج عليكم أناس في ثوب علماء أو فلاسفة يقول خُلِق الإنسان كذا وكذا فلا تُصدِّقوهم لأنهم ما شهدوا عملية الخَلْق . والحق سبحانه وتعالى حين يطرح قضية عقدية للعقول فيها عمل ، لكن قد تقف العقول في أشياء منها يكمل ما تقف فيه العقول بالسماع ، السماع مِمَّنْ ؟ ممن اعتقدتَ به بعقلك ، إذن : ليس بالضرورة أن يقتنع عقلك بكل شيء إنما يترك لك مسائلَ لا تقتنع بها إلا لأنها خبر ممَّنْ اقتنعت به . لذلك قلنا في أول سورة يس : إن المسائل كلها عقائد وأمور لسانية وأمور وأحكام ، كل منها تأخذ العمل العقلي والعمل الغيبي ، لكن العمل الغيبي دليله من العمل العقلي . الحق سبحانه وتعالى حينما أخبرنا عن قصة الخلق قال : إن الإنسان خُلِقَ من تراب اختلط بالماء فصار طيناً ، ثم صار هذا الطين حمأ مسنوناً ، ثم صار الحمأ المسنون صلصالاً كالفخار ، ثم نفخ فيه الحق سبحانه من روحه فدبَّت فيه الحياة وتحرك . هذه أطوار الخَلْق التي أخبرنا بها الخالق سبحانه ونحن لم نرها ، لكن أوجد في مُحسَّاتنا وفي مُدركاتنا ما يؤدي الصدق بهذه المراحل ، وعلينا نحن أنْ نأخذ مما نشاهده دليلاً على صدق ما غاب عنَّا . كيف ؟ الخالق سبحانه كما خلق الحياة خلق الموت ، ولما أخبرنا بهما جعل الموت أولاً فقال : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } [ الملك : 2 ] . وقدَّم الموت حتى لا نستقبل الحياةَ ببطر وغرور ، إنما نستقبلها ونحن نعلم أننا صائرون إلى الموت ، منتهون إليه . ويجب أنْ نعلم أن الدنيا بالنسبة للإنسان ليست هي بطولها من لدن آدم حتى قيام الساعة ، إنما الدنيا بالنسبة لك هي مقدار مُكثك فيها ، وحتى هذا العمر مظنون وليس مضموناً ، فمن الناس مَنْ يولد ويموت بعد لحظة ، وآخر بعد شهور ، وآخر بعد سنين . لذلك قال أحد الصالحين : وعلمت أن لي أجلاً يبادرني فبادرته ، وعلمتُ أني لا أخلو من نظر الله طرفةَ عين فاستحييت أنْ أعصيه ، وعلمتُ أن لي رزقاً لا يتجاوزني وقد ضمنه الله لي فقنعتُ به ، فهكذا ينبغي أن يكون أسلوبك في الحياة ، فأنت فيها ضيف لستَ أصيلاً . لذلك قال أهل المعرفة : اجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك - الذي يُواليك بالنعم كل يوم - واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه طرفةَ عين ، واجعل خضوعك لمَنْ لا تخرج عن ملكه وسلطانه … هذه أصول يجب أنْ نسير عليها ، ومبدأ نلتزم به . والموت كما قلنا نقيض الحياة ، فإذا لم نَكُنْ قد شاهدنا مراحل الخَلْق فقد شاهدنا بالتأكيد مراحل الموت ، فخُذْ من هذا دليلاً على هذا . تعلمون أن نقضَ أيِّ بناء يكون على عكس بنائه ، فلو أردنا مثلاً هدم عمارة من عشرة أدوار ، فإننا نبدأ بهدم الدور العاشر وننتهي بالدور الأول ، على عكس البناء ، كذلك الموت يبدأ بخروج الروح ، وهي أخر شيء في عملية الخَلْق ، ثم يتصلب الجسد ، فيكون أشبهَ بالصلصال ، ثم يرمّ وتتغير رائحته مثل الحمأ المسنون ثم يتحلل ويعود إلى الطين والتراب . إذن : إنْ كانت عملية الخَلْق غيباً عنا كما قال سبحانه : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } [ الكهف : 51 ] فعملية الموت شاهدناها . وقوله تعالى : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا } [ الزمر : 42 ] الأنفس جمع النفس ، والنفس هي مجموع التقاء مادة الجسد بالروح ، بحيث تنشأ منهما الأغيار الموجودة في الجوارح ، فالمادة وحدها لا تُسمَّى نفساً ، والروح وحدها لا تُسمَّى نفساً . ومعنى { يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ } [ الزمر : 42 ] أي : يقبضها إليه سبحانه . وتوفِّي الأنفس له ظاهرتان : النوم والموت ، ففي النوم يسلب الإنسان الوعي والتمييز ، وتبقى فيه الروح لإدارة حركة الحياة فيه واستبقائها ، فإذا استيقظ من نومه عاد إليه وَعْيه وعقله وتمييزه ، أما في الموت فالله يتوفَّى الكل : الوعي ، والتمييز ، والأصل : وهو الروح والجسد ، فالجسم في النوم لا يزاول شيئاً حتى المخ الذي يجب أنْ يظل عاملاً لا يعمل في النائم إلا كلّ سبع ثوان . ولذلك لما تتوقف حركة الجسم تنخفض فيه درجة الحرارة ويحتاج إلى تدفئة ، لذلك ننصح النائم بأنْ يتغطى لأن الحركة مفقودة ، وينبغي أن نحفظ للجسم حرارته ، البعض يظن أن الغطاء هو الذي يُدفئ النائم ، لكن العكس هو الصحيح فحرارة الجسم هي التي تُدفئ الغطاء ، وعمل الغطاء أنْ يحفظ لك حرارة الجسم حتى لا تتبدد ، بدليل أنك تذهب إلى فراشك فتجده بارداً ، وحين تستيقظ من نومك تجده دافئاً . وقلنا : إن الإنسان يمرُّ بحالات : يقظة ، نوم ، موت ، بعث . ولكل مرحلة من هذه المراحل قانونٌ خاص ، فإياك أنْ تخلط قانوناً بقانون ، فمثلاً الإنسان منا وهو نائم يفقد الوعي والتمييز ، ومع ذلك يصبح فيذكر رُؤْيا رآها فيها أشكال وأشخاص وألوان يستطيع التمييز بينها وكأنها يقظة ، فبأيِّ شيء أدرك هذه المدركات وميَّز بين الألوان وعينه مغمضة ؟ قالوا : لأن للنائم أدواتٍ ووعياً غير التي له في اليقظة ، فيرى لكن ليس بالعين . إذن : فيَّ حالة الموت يكون له وعي آخر ، البعض يتعجب وربما ينكر أنْ يضم القبرُ الواحد جسدين أحدهما يُنعِّم والآخر يُعذَّب ، فلماذا لا تنكر مثل هذا في النوم مثلاً ، فأنت تنام مع غيرك في فراش واحد يرى هو أنه في رحلة ممتعة فيها مَا لَذَّ وطابَ ، وترى أنت أنك فيه تُضرب أو تمر بحادث مؤلم ، لا هو يدري بك ولا أنت تدري به . وقوله : { فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ } [ الزمر : 42 ] أي : لا تعود إلى الجسم { وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ … } [ الزمر : 42 ] أي : في حالة النوم يعود إليك الوعي والتمييز { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى … } [ الزمر : 42 ] إلى الأجل المعلوم الذي قدَّره الله لك في اللوح المحفوظ . { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الزمر : 42 ] ساعة تجد الذي يخبرك بشيء ينبه فيك أدوات التمييز بين المقولات التي هي العقل والفكر والذكر والتدبر ، فثِقْ بأنه ناصح لك لا يغشك ولا يُدلِّس عليك ، لأن الذي يريد غِشَّك يأخذك على عجلة و يكلفتك ، حتى لا تدري وجه الصواب ولا يعطيك الفرصة للبحث وتأمل الشيء . وسبق أنْ مثّلنا لذلك ببائع القماش إنْ كان صادقاً يعلم جودة بضاعته ، فإنه يختبرها لك فيأخذ فتلة من الصوف مثلاً ويحرقها أمامك ، لترى بنفسك أنه صوف مائة بالمائة ، أما الآخر فيحاول أنْ يلف ويدور ويخدعك بحيله حتى لا تكتشف فساد بضاعته ، فالأول واثق من جودة البضاعة ، وأنك مهما فعلت بها فسوف تصل إلى مراده . فساعةَ يقول الحق سبحانه أفلا تعقلون ، أفلا تتذكرون ، أفلا تتفكرون فاعلم أنه يهيج عندك أدوات البحث والتأمل والاختيار بين البدائل ، ولا يصنع ذلك معك إلا وهو واثق أنك لو استعملتَ هذه الأدوات فلن تصل إلا إلى مراده منك .