Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 43-44)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ } [ الزمر : 43 ] استفهام إنكاري . يعني : ما كان يصح أنْ يتخذوا من دون الله شفعاء ، فالحق ينكر عليهم بعد أن استمعوا إلى كل هذه الحجج والبراهين ، ثم يتخذون من دون الله شفعاء ، ولماذا الشفعاء من دون الله ؟ قالوا : لأن الذي يعبد غير الله يُرجِّي نفسه بأنه مُتدين ، والتديّن طبيعة في النفس البشرية من أخْذ الله عليها العهد في { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ … } [ الأعراف : 172 ] . لذلك جاء الرسل مُذكِّرين أي : يُذكّروننا بهذا العهد الأول الذي غفلنا عنه واقرأ : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [ الأعراف : 172 - 173 ] . فالحق سبحانه وتعالى ينكر عليهم أنْ يتخذوا الشفعاء من دون الله ، ويدعوهم أن يرتجعوا عن هذا الأمر المؤسف ، لأن اتخاذ الشفعاء من دون الله أمر فيه تناقض لأنهم شفعاء عند مَنْ ؟ عند الله ، كما قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] إذن : اتخذوا الشفعاء ليشفعوا لهم عند الله ، فلماذا لا يتجهون إلى الله مباشرة دون واسطة ؟ ثم إن الشفاعة لا تُقبل إلا بشروطها ، وليس كل مَنْ أحبَّ أن يشفع تُقبل شفاعته ، فالشفاعة ليستْ بمرادك ، بل يُشترط في الشفاعة أنْ يأذن الله للشافع أنْ يشفع ، وأنْ يرضى عن المشفوع له ، وأنْ يكون من أهل التوحيد ، إذن : هذه الشفاعة التي يرجونها شفاعة باطلة ولا تُقبل عند الله . لكن لماذا لا يتوجَّهون إلى الله بالعبادة دون واسطة ؟ قالوا : لأن للحق سبحانه وتعالى في عبادته تكاليف قد تشقّ على النفس ، وللمنهج قيود افعل كذا ولا تفعل كذا ، وهم يريدون تديناً بلا تكاليف ، وآلهة بلا منهج وبلا أوامر ، صحيح أنهم يعبدون الأصنام على هواهم . لكن إنْ حزبهم أمر وضاقتْ عليهم السبل في أنفسهم لجئوا إلى الله الإله الحق ، إذن : أُوبُوا إلى الله قبل ألاَّ ينفع المآب . وكلمة الشفاعة منها الشفع والوتر ، الشفع أنْ تضم وتراً إلى وتر ، فيصيران شفعاً . يعني : زوجاً . وقلنا : إن المستشرقين وقفوا عند آيتين من كتاب الله في مسألة الشفاعة ، وحاولوا أنْ يثيروا حولهما شبهة عدم بلاغة القرآن ، وهما قوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } [ البقرة : 48 ] . والأخرى : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ البقرة : 123 ] . وقالوا : أي الآيتين أبلغ من الأخرى ؟ فإنْ كانت إحداهما بليغةً فالأخرى إذن غير بليغة ، ثم ما الحكمة من التقديم والتأخير في الآيتين ، والمعنى واحد ؟ وهذا كله من هؤلاء نتيجة عدم فَهْم اللغة ، وعدم وجود الملكة التي تتذوَّق وتفهم عن الله . ونقول : أنتم أهملتم صدر الآية { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ } [ البقرة : 48 ] فعندنا نفسان : نفس جازية أو شافعة ، ونفس مُجزيٌّ عنها أو مشفوع لها ، فأيّهما الشافعة وأيهما المشفوع لها ، إنْ أردتَ النفس المشفوع لها فالمشفوع لها تقدم العدل أولاً فلا يُقبل منها فتستشفع بمَنْ يشفع لها . وهذا قوله تعالى : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 123 ] فإنْ أردتَ النفس الشافعة ، فالشافع يتقدم بشفاعته أولاً ، فإنْ لم تُقبل شفاعته قدَّم العدل ، يقول : فلان هذا كم تطلب منه وأنا أدفع عنه . إذن : الآيتان بليغتان كُلٌّ حَسْب المعنى المراد منها . استُهلَّت هذه الآية { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ … } [ الزمر : 43 ] بـ أَمْ ، وهي تفيد عطف ما بعدها على ما قبلها ، كأننا قلنا : أكان ذلك أمِ اتخذوا ؟ والكلام السابق هو قوله تعالى : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا … } [ الزمر : 42 ] فإذا كنتم قد وُدِعْتم بقوة حياتكم وقدرتكم على الحركة والأسباب والتحوّل فاعلموا أن الله يعطي لكم نموذجاً للموت ينتظركم من خلال النوم الذي تباشرونه . هذا الموت وأنتم في يقظة شيء ، وحين تنامون شيء آخر ، فالذي يقدر على سَلْب الحياة من التميّز والوعي والحركة مع الخارج أي مع الغير قادر على أنْ يسلبها جميعا لأن النوم يسلب منك الحركة والتميز مع الغير ، وإنْ بقيتْ لك الحركة في ذاتك كحركة القلب والرئتين والأمعاء … الخ فإذا كان الله قد قدر على هذه الجزئية فيك ، فهو سبحانه يقدر على الأخرى وهي الموت . فالمعنى : أأمنتُم ذلك ؟ وإنْ لم تأمنوه وسوف تموتون وتلقوا الله ، فلماذا تتخذون الشفعاء ؟ وما الذي طمأنكم لذلك ؟ وما رصيدكم في اتخاذكم الشفعاء ؟ يعني : أحصل ذلك أم اتخذتم شفعاء ؟ قلنا : الشفيع من الشَّفْع ، وهي أن تضم شيئاً إلى شيء ، فيصير زوجاً بعد أنْ كان وحده ، والله سبحانه يريد أنْ يُنهي هذه المسألة ، وأنْ يُبيِّن لهم بطلانها ، فقال لهم : إن الذين تدعُون من دون الله لا يملكون أنْ يشفعوا وإنْ ملكوا الشفاعة كما تَدْعُون الملائكة ، وكالذين يدعون عيسى أو العُزَير فهم لا يرضون بها ولا يشفعون لكم . وإنْ كانوا من الجمادات فهم أقرب منكم إلى الله وأعلم منكم بأصول الشفاعة ، فهي لا بُدَّ أنْ تتأبى عليكم وتكرهكم ، وإنْ كنتم تملكونها وتنتفعون بها لأن هذه الجمادات مُنسجمة مع الكون مُسبِّحة لخالقها فلا تقبل إلا مُسبَحاً ، وما انقادتْ لكم هذه الجمادات إلا لأن الله سخَّرها لكم ، وجعل لكم إرادة تسيطرون بها عليها بمراد الله وأمره كما سيطرتم على جوارحكم ، سيطرتم على اللسان فقلتم به كلمة الكفر ، وسيطرتم على الأيدي ، فبطشتُم بها وظلمتم . . الخ . فهؤلاء جميعاً لا يرضوْنَ أنْ يشفعوا لكم لأنكم مخالفون لهم في المنهج لذلك يكرهونكم فكيف يشفعون لكم ، لذلك قال تعالى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ … } [ الدخان : 29 ] . فأثبت للسماء وللأرض بكاءً ، فإنْ كانت لا تبكي على هؤلاء المخالفين فهي ولا شكَّ تبكي على المناقضين لهؤلاء المتفقين معها في العقيدة والمنهج ، إذن : فالسماء والأرض وغيرهما من الجمادات لها تمييز وإلا ما بكتْ على أهل الطاعة ولم تَبْكِ على أهل المعصية . حتى نحن في التعبير الأدبي نقول : فلان نَبَتْ به الأرض يعني : كرهتْ إقامته عليها ، لماذا ؟ لأنه متمرد على الله مخالفٌ لمنهجه وهي مُسخَّرة مُسبِّحة لذلك إنْ مات لا تبكي عليه . بل لسان حالها يقول له : أراحنا الله منك ، أراح الله منك البلاد والعباد . وقد فسَّر لنا الإمام علي رضي الله عنه هذه المسألة حين قال : إذا مات المؤمنُ بكى عليه موضعان : موضع في السماء وموضع في الأرض ، أما موضعه في السماء فمصعد عمله الطيب . أي : المكان الذي يُرفَع فيه عمله الصالح ، كما قال سبحانه { وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] وأما موضعه في الأرض فمُصلاّه . إذن : الذي جعلهم يتكلون ولا يخافون من الموت أنهم اتخذوا الشفعاء ، وظنوا أنهم يدافعون عنهم ، لكن نقبهم على شونة لأن الشفاعة ليستْ بمراد الشافع إنما بمراد المشفوع عنده ، وهو سبحانه الذي يأذن للشافع ويرضى عن المشفوع له . لكن هل يحتاج مَنْ رضي الله عنه إلى شفاعة ؟ قالوا : الإنسان قد تكون نواحي الخير فيه قليلةً ، لكن يتوفر لهذا القليل شرطُ الإخلاص فينميه ويُثمِّره ويجبر الله عنده هذا النقص بأنْ يأذن لأحد المحبوبين عنده أن يشفع له … وهذه الشفاعة ما شرعها الحق سبحانه إلا ليقبلها ويلطف بها . لذلك قالوا : إياك أنْ تحتقرَ عملاً صالحاً مهما كان يسيراً ، فمَنْ يدريك لعله يكون سبباً في نجاتك . وورد في الحديث : " إن الله أخفى ثلاثاً في ثلاث : أخفى رضاه في طاعته " فلا تحقرنَّ طاعة ما فقد غفر الله لرجل سَقَى كلباً يلهث من شدة العطش ، وسقاه بجهد واحتيال حين لم يجد شيئاً يخرج به الماء فخلع خُفُّه وسقى به الكلب . ولو سقى هذا الرجل إنساناً لقُلْنا إنه سقاه لعلة ، أو له عنده جميل ، إنما سقى كلباً . وهذا يدل على أن العمل فيه إخلاص ، لأنه لا ينتفع من الكلب بشيء ، إنما تأصل السقاء في نفسه ، فهو يحبه بصرف النظر عن المسْقى ، فالرجل طُبع على الخير ولا يعنيه لمن يُقدم هذا الخير . الثانية : " وأخفى غضبه في معصيته " فقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض . فكما أنك لا تحقر طاعة قد يكون فيها نجاتك ، كذلك لا تحقر معصية فقد يكون فيها هلاكك . الثالثة : " وأخفى أسراره في خلقه " فلا تحقِرنّ خلقاً ما . وقوله سبحانه : { قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ } [ الزمر : 43 ] أي : هؤلاء الشفعاء { لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } [ الزمر : 43 ] يعني : كيف تطلبون شفاعتهم ، وهم على هذا الوصف ؟ { قُل لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } [ الزمر : 44 ] لأن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه سبحانه ، يأذن للشافع ويرضى عن المشفوع له ، فالشفاعة كلها لله وحده ، لأن { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ الزمر : 44 ] فالمتكبّر المتأبّى على منهجي سيرجع إليّ . ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ … } .