Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 68-68)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ تكلَّم عن العقائد وذكر الوعد للطائعين والوعيد للعاصين ، أراد سبحانه أنْ يُحدِّثنا عن الآخرة وهي دار الجزاء على الأعمال في الدنيا ، والدنيا فيها أموات وفيها أحياء ، ولن تقوم الساعة إلا إذا مات الجميع ليتحقق البعث ، وإلاَّ فكيف يكون البعث في حَقِّ مَنْ لم يَمُتْ ؟ لذلك يُحدِّثنا الحق سبحانه هنا عن النفْخ في الصور ، هذه النفخة التي تُميت كل مَنْ هو حَيٌّ . الفعل نُفِخ جاء بصيغة الفعل المبني للمجهول ، الذي لم يُسَمِّ فاعله ، لكن السُّنة هي التي بيَّنت الفاعل وأنه إسرافيل ، و الصُّور بوق مثل القربة ينفخ فيه إسرافيلُ النفخةَ الأولى التي تميتُ كلَّ الأحياء ، لأن القيامة ستقوم وعلى الأرض أحياء لا بد أنْ يموتوا ، ليكون لهم بعث كالذين ماتوا من لدن آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة . والحق سبحانه يقول : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [ العنكبوت : 57 ] . لكن : هل النفخة الأولى هي التي تُميت ؟ أو النفخة الثانية هي التي تحيي الموتى ؟ نقول : النفخة ذاتها لا تحيي ولا تميت ، إنما هي إيذانٌ لمن بيده الأمر أنْ يبدأ عمله { فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } [ الزمر : 67 ] كلمة صعق تأتي بمعنيين . صعق بمعنى هلك كما في قوله تعالى : { فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } [ الطور : 45 ] يعني : يهلكون . وتأتي صعق بمعنى أُغمي عليه وفقد الوعي ، كما حدث لسيدنا موسى عليه السلام حين تجلَّى ربُّه للجبل ، فلما دعا موسى ربه قال : { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي } [ الأعراف : 143 ] وليس المعنى هنا أنني لا أُرى ، إنما أنا أُرى لكنك في تكوينك الحالي لا تستطيع أنْ تراني ، إذن : قد يتغيَّر الحال على صورة يمكنك فيها أنْ تراني . وإذا كان البشر قد توصَّلوا لطرق وأساليب وأسباب تُمكِّن من رؤية ما لم تقدر على رؤيته ، فرأينا النظارة والنظارة المعظمة والتليسكوبات … إلخ . إذن : فالحق سبحانه من باب أَوْلَى قادر على أنْ يجعلك ترى ما لم تكُنْ تراه من قبل . ثم يقول سبحانه في تمام هذه القصة : { وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [ الأعراف : 143 ] الحق سبحانه يريد أنْ يؤكد لموسى عليه السلام هذه القضية لا بالقول إنما بالفعل { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً } [ الأعراف : 143 ] . وكأن الحق سبحانه يقول لنبيه موسى : إذا كنت صُعِقْتَ - يعني : فقدتَ الوعي - من رؤية المتجلَّى عليه وهو الجبل ، فكيف بك إذا رأيتَ المتجلِّي سبحانه ؟ وقوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } [ الزمر : 68 ] أي : شاء ألاَّ يُصعق ، وهذه المشيئة مؤقتة لأن من لم يَمُتْ في هذه النفخة الأولى لابدَّ وأنْ يموت فيما بعد ، وآخر مَنْ يموت هو ملك الموت حيث يقول له الحق سبحانه : مُتْ يا مَلَك الموت فيموت . بعدها يصير الخلود بلا انتهاء . قالوا : الذين استثناهم الله من هذه النفخة هم الملائكة الموكَّلون جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام فيمَنْ استثنى من هذه الصعقة ، فقد ورد في الحديث أنْ الصَّعْقة حدثتْ وحصل للناس غَشْيَة ، وكان رسول الله أول مَنْ أفاق منها فوجد أخاه موسى عليهما السلام ممسكاً بالعرش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدْر أَصُعِق موسى فيمن صُعِق وأفاق قبلي ، أم لم يُصعق . وما دام أنه أفاق فوجد موسى بجوار العرش إذن هو لم يُصعق ، ويدخل في هؤلاء الذين استثناهم الله في قوله { إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } [ الزمر : 68 ] أو أنه صُعِق لكنه أفاق من الصَّعْق قبل غيره ، وهنا قال العلماء : لماذا لم يُصعَق سيدنا موسى ؟ أو لماذا قَصُرَتْ مدة صَعْقته عن مدة الآخرين ؟ قالوا : لأنه عليه السلام سبق أنْ صُعِقَ في الدنيا لما تجلَّى ربُّه للجبل ، فشاء الله أنْ تُحتسبَ له هذه الصعقة ، وأنْ تُخفَّفَ عنه صَعْقةُ القيامة . وقوله { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ } [ الزمر : 68 ] أي : نفخة البعث ، فالنفخة الأولى أماتت مَنْ لم يكُنْ قد مات ، والنفخة الثانية هي البعث والخروج من القبور { فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [ يس : 51 ] هذا تصوير لهيئة الصعقة ، وكيفية الخروج من القبور { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] . وكلمة ينسلون دلَّتْ على تفرُّق بعد اجتماع ، كما نقول للقماش نسِّل يعني : بعد أنْ كانت خيوطه مُتضَامَّة متماسكة تفككتْ ، وهذا تصوير دقيق وتعبير بليغ يُصوِّر الحالة التي كانت تُوجد في القبور حين يلتقي الأموات في باطن الأرض ، لأن الناس في الدنيا وهم في سَعة الحياة دائماً ما يتخاصمون ويتشاجرون وتكثر بينهم العداوات والمنافسات . وقد عبَّر الشاعر عن هذا المعنى فقال : @ رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مِرَاراً ضاَحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأَضْدَّادِ @@ فإذا ما ماتوا وضمتهم الأرض امتصَّتْ ما كان بينهم من أحقاد وعداوات ، فخلصت عناصرهم خُلُوصاً مَكَّنهم من اللقاء والاجتماع ، فيقولون : ما ألذَّ العناق قبل دقَّات الفراق . وكأنهم يفرحون بهذا الاجتماع وبهذا العناق لأنه يُعوِّضهم ما كان بينهم من شقاق في الدنيا ، فإذا ما جاءتْ النفخة الثانية تفكَّك هذا الاجتماع وتفرَّق ، هذا معنى { يَنسِلُونَ } [ يس : 51 ] أي : كُلٌّ على حدة بمفرده وشخصه كما ينسلّ الخيط من مكانه في النسيج ذلك لأن الجزاء أمر شخصي وكُلٌّ مُرْتهن بعمله . ومعنى { يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] أي : ينتظرون ما يقع بهم ، أو ينظرون ما حولهم من أهوال تشخَصُ لها الأبصار ، كما قال تعالى في آية أخرى حكايةً عنهم : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } [ السجدة : 12 ] قالوا : هذه هي الآية الوحيدة التي تقدم فيها البصر على السمع ، لماذا ؟ لأن الموقف هنا في الآخرة حين يُبعث الناس من القبور ، وحين تحيط بهم الأهوال والكروب من كل ناحية ، وهذه الحالة تسبق فيها الأبصار الأسماع فيبصرون قبل أنْ يسمعوا . وبنفخة البعث تبدأ أهوال القيامة ويشتد الكرب على الكافرين فيرتعدون ، فإذا ما صَدَق اللهُ وعده ووعيده في قيام الساعة بأول مراحلها عندها يعلمون صدق ما كذبوه وكفروا به ، هؤلاء الذين طالما كذَّبوا بالبعث وقالوا : { أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } [ الصافات : 16 - 17 ] . إذن : صدق الله في البعث وفي إحياء الموتى ، وسيصدق سبحانه فيما يتلو ذلك من حساب وجزاء ، والويل لكم أيها الكافرون المكذِّبون .