Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 112-112)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قالوا : إن الخطيئة هي الشيء غير المتعمَّد ، مثال ذلك حين نعلِّم التلميذ قاعدة من قواعد النحو ، ثم نطلب منه أن يطالع نصاً من النصوص ، ونلتفت لنجد التلميذ قد نصب الفاعل ورفع المفعول ، ونصحح له الخطأ ، إنّه لم يتعمده ، بل نسي القاعدة ولم يستحضرها . ونظل نصحح له الخطأ إلى أن يتذكر القاعدة النحوية ، وبالتدريب يصبح الإعراب ملكة عند التلميذ فلا يخطئ . والخطيئة - إذن - هي الخطأ غير المتعمد . أما الإثم فهو الأمر المتعمَّد . فكيف إذا رمى واحد غيره بإثم ارتكبه أو خطيئة ارتكبها هو … ما حكم الله في ذلك ؟ { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [ النساء : 112 ] لقد ارتكب الخطيئة أو الإثم ، ويا ليته اكتفى بهذا ، لا ، بل يريد أن يصعد الجريمة بارتكاب جريمة ثانية وذلك بأن يرمي بالخطيئة أو الإثم بريئاً ، إنَّ إثمه مركب ، ولذلك قال الحق : { فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } واستخدام الحق هنا لكلمة " احتمل " وليس " حمل " تؤكد لنا أن هناك علاجاً ومكابدة وشدة ليحمل الإنسان هذا الشيء الثقيل فالجريمة جريمتان وليست واحدة ، لقد فعل الخطيئة ورمى بها بريئاً ، وفاعل الخطيئة يندم على فعلها مرة ، ويندم أيضاً على إلصاقها ببريء . إذن فهي حمل على أكتافه . ونعلم أن الإنسان ساعة يقع أسير سُعار العداوة يهون عليه أن يصنع المعصية ، ولكن بعد أن يهدأ سعار العداوة فالندم يأتيه . قال الحق : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } [ المائدة : 27 ] هابيل - إذن - يسأل قابيل : وما ذنبي أنا في ذلك ، إن الله هو الذي يتقبل القربان وليس أنا فلماذا تقتلني ؟ ويستمر القول الحكيم : { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [ المائدة : 28 ] وماذا يقول الحق من بعد ذلك : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ المائدة : 30 ] كأن مسألة القتل كانت عملية شاقة وليست سهلة ، وأخذت مغالبة . وعلى سبيل المثال : لن يقول أحد : " لقد طوعت الحبل " ولكن هناك من يقول : " أنا طوعت الحديد " . وسعار الغضب جعل قابيل ينسى كل شيء وقت الجريمة ، وبعد أن وقعت ، وهدأ سعار الغضب الذي ستر موازين القيم ، هنا ظهرت موازين القيم ناصعة في النفس . ولذلك نجد من يرتكب جريمة ما ، ويتجه بعد ذلك لتسليم نفسه إلى الشرطة ، وهو يفعل ذلك لأن سعار الجريمة انتهى وظهر ضوء موازين القيم ساطعاً . وعلى ذلك نفهم قول الحق : { فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } . وهذا يدل على أن من يصنع جريمة ثم يرمي البريء بالإثم إنما يرتكب عملأً يتطلب مشقة وتتنازعه نفسه مرة بالندم لأنه فعل الجريمة ، وتنازعه نفسه مرة ثانية لأنه رمى بريئاً بالجريمة لذلك قال الحق : { فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } وساعة نسمع كلمة " بهتان " فهي مأخوذة من مادة " بهت " . والبهتان هو الأمر الذي يتعجب من صدوره من فاعله . مثال ذلك قوله الحق في شرح قضية سيدنا إبراهيم مع النمرود ، حيث يقول سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم : { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ } [ البقرة : 258 ] فماذا كان موقف الرجل ؟ { فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ } [ البقرة : 258 ] أي أنه سمع شيئاً عجيباً يخرسه عن أن يتكلم فقد جاء له سيدنا إبراهيم بأمر عجيب لا يخطر على باله ، ولا يستطيع أن يجد منه مفراً ، فكأن الأمور المخالفة لمنطق الحق ولمطلوب القيم أمور غريبة عن الناس إنَّها هي البهتان ، والدليل على ذلك أنها أمور يستتر فاعلها عن الناس . وإذا ما نظرنا إلى القضية التي نزلت الآية بسببها . وجدنا أن سارقاً سرق وأراد أن يبرئ نفسه وأن يُدخل في الجريمة بريئاً . ويلصقها به ، وأن يرتكب المجرم الجريمة فهذا يحمِّلُه إثماً . أما أن ينقل الجريمة إلى سواه فهذا يدل على وجود طاقة أخرى حتى يحتمل ما فعله ، وهذا صعب على النفس ، ولا يتعجب أحد لسماع شيء إلا إذا كان هذا الشيء مخالفاً لما هو مألوف ومعروف . وإنّ في الحوار بين سيدنا إبراهيم والنمرود لدليلاً واضحاً وناصعاً فعندما قال النمرود : { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] قصد بذلك قدرته على أن يقتل إنساناً ، ويترك إنساناً آخر لمسعاه . وهنا عاجله سيدنا إبراهيم بالقضية التي تبهته ولا يدخل فيها هذا التماحك اللفظي . فقال : { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ } [ البقرة : 258 ] أي أن النمرود سمع قولاً عجيباً وليس عنده من الذكاء ما يحتاط به إلى دفعه ، وكذلك الرجل الذي صنع الجريمة ثم رمى بها غيره احتاج إلى طاقة تتحمل هذا ، مما يدل على أن الفطرة السليمة كارهة لفعل القبيح . فإذا ما فعل الإنسان ذنباً فقد حمل بهتاناً ، وإذا ما عَدَّى ذلك إلى أن يحمله إلى بريء ، فذلك يعني أن الأمر يحتاج إلى طاقة أخرى . إذن فقوله الحق : { فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } أي أنه احتمل أمراً عجيباً يبهت السامع ويتعجب كيف حدث ذلك . ويحتمل من يفعل ذلك الإثمَ أيضاً . والإثم - كما عرفنا - هو السيئة المتعمَّدة . ويوضح الحق سبحانه وتعالى هذه القضية : إن الله سبحانه وتعالى يحوطك يا محمد بعنايته وبرعايته وبفضله ، وإن حاول بعض من قليلي الإيمان أن يخرجوك عن هذه المسألة ، وأن يزينوا لك أن تبرئ مذنباً لتجرم آخر بريئاً وإن كان المذنب مسلماً وإن كان البريء غير مسلم ، والله لم يرسل محمداً ليحكم بين المؤمنين فقط ، ولكن صدر هذه الآية يوضح لنا أن الله أرسل رسوله ليحكم بالحق : " لتحكم بين الناس " أي ليحكم بين الناس على إطلاقهم . فإياك حين تحكم أن تقول : هذا مسلم وذلك كافر . أو تقول : هذا مسلم وذلك من أهل الكتاب ، بل كل الناس أمام قضايا الحق سواء . ولذلك أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الجرعة الإيمانية التي جاءت بها حادثة من الحوادث ليقول بعد ذلك في قصة المخزومية حينما سرقت وأراد أن يقيم عليها الحد ، وكلّمه حبيبه أسامة بن زيد في أن يرفع عنها الحد ، فقال رسول الله : " عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا : مَنْ يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : ومن يجرؤ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه أسامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشفع في حد من حدود الله ؟ ! ثم قام فاختطب فقال : " أيها الناس : إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإن سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " . هذا القول مستخلص من القضية السابقة . ويقول سبحانه وتعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ … } .