Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 113-113)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهنا نتساءل : هل هَمَّ أحد بإضلال رسول الله ؟ علينا أن نفهم أن " الهمّ " نوعان : هم إنفاذ ، وهم تزيين . وقد رفض رسول الله هم الإنفاذ ، ودفعه الله عنه لأنه سبحانه وتعالى يحوط رسوله بفضله ورحمته ويأتي بالأحداث ليعلمه حكماً جديداً . وفضل الله على رسوله ورحمته جعل الهم منهم هم تزيين فقط وحفظ الله رسوله منه أيضا . وعندما تعلم الرسول هذا الحكم الجديد ، صار يقضي به من بعد ذلك في كل قضايا الناس . فإذا ما جاء حدث من الأحداث وجاء له حكم من السماء لم يكن يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فالفضل لله لأنه يزيد رسوله تعليما . { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [ النساء : 113 ] وكان قصد الذين دافعوا عن " ابن أبيرق " أن يزينوا لرسول الله ، وهذا هو هم التزيين لا هم الإنفاذ . وكان الهدف من التزيين أن يضروا الرسول ويضلوه والعياذ بالله ، ليأخذوه إلى غير طريق الحق وغير طريق الهدى ، وهذا أمر يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو أن رسول الله برأ المذنب الذي يعلم أنه مذنب لاسْتقرّ في ذهن المذنب أن قضايا الدين ليست جادة ، أما البريء الذي كان مطلوباً أن يدينه رسول الله ماذا يكون موقفه ؟ لا بد أن يقول لنفسه : إن دين محمد لا صدق فيه لأنه يعاقب بريئاً . إذن فَهَمُّ التزيين يضر بالرسول عند المبرأ وعند من يراد إلصاق الجريمة به . لكن الله صان رسوله بالفضل وبالرحمة عن هذا أيضا . { لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ النساء : 113 ] لقد أنزل الحق كتاباً ليفصل في القضية . ونزول الحكم بعد وقوع تلك الحادثة إنما جاء ليبين ضمن ما يبين سر نزول القرآن منجماً لأن القرآن يعالج أحداثاً واقعية ، فيترك الأمر إلى أن يقع الحدث ثم يصب على الحدث حكم الله الذي ينزل من السماء وقت حدوث الحدث ، وإلا كيف يعالج القرآن الأحداث لو نزل مرة واحدة بينما الأحداث لم تقع ؟ لذلك أراد الله أن تنزل الأحداث أولاً ثم يأتي الحكم . وقد سبق أن قال الكفار : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [ الفرقان : 32 ] لا فقد أراد الله القرآن منجماً ومتفرقاً ومُقَسَّطاً لماذا ؟ { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] فكلما حدثت هزة للفؤاد من اللّدَد والخصومة الشديدة ومن العناد الذي كان عليه الكفار وردّهم للحق - وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم - ينزل نجم من القرآن ، وفي شغب البشر مع الرسول تنزل رحمة السماء تُثَبِّت الفؤاد فإن تعب الفؤاد من شغب الناس فآيات اتصال الرسول بالسماء وبالوحي تنفي عنه هذه المتاعب . ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الدعوة كانت تحدث له كل يوم هزات لذلك كان في كل لحظة يحتاج إلى تثبيت . وعندما ينزل النجم القرآني بعد العراك مع الخصوم فإن حلاوة النجم القرآني تُهَوِّنُ عليه الأمر ، وإذا ما جاء للرسول صلى الله عليه وسلم أمر آخر يعكر صفوه ، فهو ينتظر حلاوة الوحي لتنزل عليه ، وهذا معنى قوله تعالى : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [ الفرقان : 32 ] أي أنزلناه منجماً لنثبت به فؤادك . ولو نزل القرآن جملة واحدة لقلل من مرات اتصال السماء بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهو يريد مداومة اتصال السماء به . بدليل أن الوحي عندما فتر جلس الرسول يتطلع إلى السماء ويتشوق . لماذا ؟ ففي بداية النزول أرهقه الوحي ، لذلك قال الرسول : " فضمني إليه حتى بلغ مني الجهد " . ورأته خديجة - رضي الله عنها - " وإن جبينه ليتفصد عرقاً " فاتصال جبريل بملكيته ونورانيته برسول الله صلى الله عليه وسلم في بشريته لا بد أن يحدث تغييراً كيميائيا في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم . " عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول . قالت عائشة رضي الله عنها : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا " . إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يواجه المتاعب وأراد الله بفترة الوحي أن يحس محمد حلاوة الوحي الذي نزل إليه ، وأن يشتاق إليه ، فالشوق يعين الرسول على تحمل متاعب الوحي عندما يجيء ، ولذلك نجد أن عملية تفصد العرق لم تستمر كثيرا لأن الحق قال : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } [ الضحى : 4 ] أي أن الحق أوضح لرسوله : إنك ستجد شوقا وحلاوة ولذة في أن تستقبل هذه الأشياء . { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] وهكذا كان القرآن ينزل منجماً ، على فترات ، ويسمع الصحابة عدداً من آيات القرآن . ويحفظونها ويكتبها كُتَّابُ الوحي ، وبعد ذلك تأتي معجزة أخرى من معجزات القرآن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنزل سورة كاملة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد أن يُسرى عنه يقول للكتبة : اكتبوا هذه . ويرتب رسول الله الآيات بمواقعها من السورة . ثم يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة في الصلاة ويسمع المصلون الترتيل الذي تكون فيه كل آية في موقعها ، وهذا دليل على أن المسألة مدروسة دراسة دقيقة ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يحكي إنما يحكي صدقاً . وإلا فَقُولُوا لي : كيف ينزل الوحي على رسول الله بسورة بأكملها ويمليها للكتبة ، ثم يقرؤها في الصلاة كما نزلت وكما كتبها أصحابه ، كيف يحدث ذلك إن لم يكن ما نزل عليه صدقاً كاملاً من عند الله ؟ ونحن قد نجد إنساناً يتكلم لمدة ربع ساعة ، لكن لو قلنا له : أعد ما تكلمت به فلن يعيد أبداً الكلمات نفسها ، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الآيات كما نزلت . مما يدل على أنه يقرأ كتاب الله المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنه تنزيل من حكيم حميد . ولذلك يقول الحق : { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [ الفرقان : 33 ] أي لا يأتونك بحادثة تحدث إلا جئناك بالحق فيها . إذن لم يكن للقرآن أن ينزل منجماً إلا ليثبت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من تتابع الهزات التي يتعرض لها ، وأراد الله أن ينشر اتصال السماء برسول الله صلى الله عليه وسلم على الثلاثة والعشرين عاماً التي استغرقتها الرسالة . والترتيل هو التنجيم والتفريق الذي ينزل به القرآن فيقرأه الرسول في الصلاة مثلما نزل عليه قبل ذلك دون تحريف أو تبديل ، والحق يقول : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [ الأعلى : 6 ] وكل حادثة تحدث ينزل لها ما يناسبها من القرآن . كما حدثت حادثة سرقة ابن أبيرق فنزل فيها الحكم والحق يقول : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } . فإذا ما علمك الله - يا رسول الله - ما لم تكن تعلم بنزول الكتاب ، فهل أنت يا سيدي يا رسول الله مشرع فقط بما نزل من الكتاب ؟ لا فالكتاب معجزة وفيه أصول المنهج الإيماني ، ولكن الله مع ذلك فوض رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشرِّع وتلك ميزة لم تكن لرسول قبله ، بدليل قوله الحق : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] فالرسل من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم يتناولون ما أخذوه عن الله ، وميز سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم بتفويض التشريع . وأوضح الحق أنه عَلَّمَ رسوله الكتاب والحكمة . والحكمة مقصود بها السنة ، فسبحانه القائل : { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ } [ الأحزاب : 34 ] وسبحانه صاحب الفضل على كل الخلق وصاحب الفضل على رسوله : { وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } ولنا أن نلحظ أن { فَضْلُ ٱللَّهِ } تكرر في هذه الآية مرتين . ففضل الله الأول في هذه الآية أنه عصمه من أن تضله طائفة وتنأى به عن الحق ، ثم كان فضل الله عليه ثانيا أنه أنزل عليه الكتاب بكل أحكامه وأعطاه الحكمة وهي التفويض من الله لرسوله أن يشرّع . إذن فالحق سبحانه وتعالى جعل من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم امتداداً لوحيه . ولذلك إذا قيل من قوم يحاولون التشكيك في حديث رسول الله : إن الصلاة لم تأت في القرآن . نقول سائلين الواحد منهم : هل تؤدي الصلاة أم لا . ؟ فيقول : إنني أصلي … فنقول له : كم فرضاً تصلي ؟ . فيقول : خمسة فروض . فنقول : هات هذه الفروض الخمسة من القرآن . ولسوف يصيبه البهت ، وسيلتبس عليه أمر تحديد الصبح بركعتين والظهر بأربع ركعات ، والعصر بمثلها ، والمغرب بثلاث ، والعشاء بأربع ركعات . وسيعترف أخيراً أنه يصلي على ضوء قول الرسول : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وهذه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } وقد نجد واحداً من أهل السطحية واللجاجة يقول : القرآن يكرر الكلمات في أكثر من موقع ، ولماذا يذكر فضل الله في صدر هذه الآية ، ويذكره مرة أخرى في ذيل نفس الآية ؟ . نقول : أنت لم تلحظ فضل الله في الجزئية الأولى لأنه أنقذ رسوله من همّ التزيين بالحكم على واحد من أهل الكتاب ظلماً ، وفي الجزئية الثانية هو فضل في الإتمام بأنه علم رسوله الكتاب والحكمة وكان هذا الفضل عظيماً حقاً . وساعة يذهب هؤلاء الناس ليحدثوا الرسول في أمر طعمة ابن أبيرق ، ألم يجلسوا معا ليتدارسوا كيف يفلت طعمة بن أبيرق من الجريمة ؟ . لقد قاموا بالتداول فيما بينهم لأمر طعمة واتفقوا على أن يذهبوا للرسول فكانت الصلة قريبة من النجوى . ولذلك حرص أدب الإسلام على أن يحترم كرامة أي جليس ثالث مع اثنين فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما لأن ذلك يحزنه . وقد يكون الأمر جائزاً لو كان الجلوس أربعة ، فواحد يتحدث مع آخر ، وهناك يستطيع اثنان أن يتناجيا . إذن فالنجوى معناها المسارّة ، والمسارّة لا تكون إلا عن أمر لا يحبون أن يشيع ، وقد فعل القوم ذلك قبل أن يذهبوا إلى الرسول ليتكلموا عن حادثة طعمة بن أبيرق ، ولذلك يفضح الحق أمر هذه النجوى ، فينزل القول الحق : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ … } .