Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 27-27)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

سبحانه قال في الآية السابقة : { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ … } [ النساء : 26 ] ، وبعد ذلك يقول : { وَيَهْدِيَكُمْ … } [ النساء : 26 ] ، وبعد ذلك : { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ … } [ النساء : 26 ] ، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها : { وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ … } [ النساء : 27 ] ، فلماذا جاء أولاً بـ { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ … } [ النساء : 26 ] وجاء هنا ثانياً بـ { وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ … } [ النساء : 27 ] ؟ نقول : التوبة لابد أن تكون مشروعة أولاً من الله ، وإلا فهل لك أن تتوب إلى الله من الذنب لو لم يشرع الله لك التوبة ؟ أتصحُّ هذه التوبة ؟ إنه سبحانه إذن يشرع التوبة أولاً ، وبعد ذلك أنت تتوب على ضوء ما شرع ، ويقبل هو التوبة ، وبذلك نكون أمام ثلاث مراحل : أولاً مشروعية التوبة من الله رحمة منه بنا ، ثم توبة العبد ، وبعد ذلك قبول الله التوبة ممن تاب رحمة منه - سبحانه - إذن فتوبة العبد بين توبتين من الرب : توبة تشريع ، وتوبة قبول . { وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ … } [ النساء : 27 ] ، ما دام سبحانه قد شرع التوبة أيشرعها ولا يقبلها ؟ ! لا ، فما دام قد شرع وعلمني أن أتوب فمعنى ذلك أنه فتح لي باب التوبة ، وَفَتْحُ باب التوبة من رحمة العليم الحكيم بخلقه لأن الحق حينما خلق الإنسان زوده دون سائر الأجناس بطاقة من الاختيارات الفاعلة ، أي أن الإنسان يستطيع أن يفعل هذه أو يفعل تلك ، وجعل أجهزته تصلح للأمر وللنهي ، فالعين صالحة أن ترى آية في كون الله تعتبر بها ، والعين - أيضاً - صالحة أن تمتد إلى المحارم . واللسان صالح أن تسب به ، وصالح أن تذكر الله به قائلاً : لا إله إلا الله وسائر أنواع الذكر . واليد عضلاته صالحة أن ترفعها وتضرب بها ، وصالحة لأن تقيل وترفع بها عاثراً واقعاً في الطريق . هذا هو معنى الاختيار في القول وفي الفعل وفي الجوارح ، فالاختيار طاقة مطلقة توجهها إرادة المختار ، وإذا نظرت إلى اليد تجد أنك إذا أردت أن ترفعها ، فإنك لا تعرف شيئاً عن العضلات التي تستعملها كي ترفع اليد . فالذي يرفع يده ماذا يفعل ؟ وما العضلات التي تخدم هذا الرفع ؟ وأنت ترى ذلك مثلاً في الإنسان الميكانيكي أو تراه في رافعة الأثقال - الونش - التي ترفع الأشياء ، انظر كم عملية لتفعل ذلك ؟ أنت لا تعلم شيئاً عن هذه المسألة في نفسك ، لكنك بمجرد أن تريد تحريك يدك فأنت تحركها وتطيعك . وعندما يريد المهندس أن يحرك الإنسان الآلي فهو يوجهه بحسابات معينة ليفعل كذا وكذا ، أما الإنسان فيحرك اليد أو القدم أو العين بمجرد الإرادة . والحق حين يسلب قدرة الإنسان - والعياذ بالله - يصيبه بالشلل ، إنه يريد فلا تنفعل له اليد أو غيرها ولا يعلم ما الذي تعطل إلى أن يذهب إلى الأطباء ليبحثوا في الجهاز العصبي ، ويعرفوا لماذا لم تنفذ أعصابه الأوامر ، إنها عملية طويلة . إذن فالإنسان - عندما يريد الحركة - يوَجِّه الطاعة المخلوقة لله فقط ، فليس له فعل في الحقيقة ، فأنا إنْ أثابني الله وجازاني على طاعة فذلك لأنيّ وجهت الآلة الصالحة للفعل إلى عمل الخير ، وعندما تسمع أنه لا أحد بيده أن يفعل شيئاً فهذا صحيح لأن أحداً لا يعرف كيف يفعل أي شيء ، إنه فقط يريد ، فإن وجهت الطاقة للفعل فهذا عملك أنت . فمعنى الاختيار - إذن - أن تكون صالحاً للفعل ومقابل الفعل وهو الانتهاء والترك . وعندما يبين الحق سبحانه وتعالى لك وينزل لك المنهج الذي يقول لك : وجه طاقتك لهذه ولا توجهها لهذه ، معنى ذلك أن طاقتك صالحة للاثنين . إذن فأنت مخلوق على صلاحية أن تفعل وألا تفعل ، وما تركه المنهج دون أن يقول لك فيه " افعل " ولا " تفعل " فإن فعلته على أي وجه لا يفسد به الكون ولا تفسد به حركة حياتك فهذا هو المباح لك . وحينما شرع الحق سبحانه التوبة أوضح : أنه إذا انفعل مريد لعمل شيء فوجه طاقته لعمل شيء مخالف ، قد تكون شهوته أو شِرّته قد غلبت عليه ، فتوجه في ساعة ضعف إلى عمل شرّ لذلك شرعت التوبة لماذا ؟ لأننا لو أخرجنا هذا الإنسان من حظيرة المطيعين بمجرد فعل أول عمل شرّ لصارت كل انفعالاته من بعد ذلك شروراً ، وهذا هو الذي نسميه " فاقداً " ، فيشرع الحق : إن فعلت ذنباً فلا تيأس ، فنحن سنسامحك ونتوب عليك . فساعة شرع الله التوبة رحم المجتمع من شراسة أول عاصٍ ، فلو لم تأت هذه التوبة لكثرت المعاصي بعد أول معصية . ومقابل قول الحق : { وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ … } [ النساء : 27 ] وتنبيهه أن الذنوب التي فعلتها قبل ذلك يطهرك منها بالتوبة ، مقابل ذلك الذين يتبعون الشهوات ويريدون منك أن تأتي بذنوب جديدة لذلك يقول الحق سبحانه : { وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ … } [ النساء : 27 ] والميل هو مطلق عمل الذنوب . إنّك بذلك تميل عن الحق لأن الميل هو انحراف عن جادة مرسومة لحكيم ، والجادة هي الطريق المستقيم . هذه الجادة مَنْ الذي صنعها ؟ إنه الحكيم ، فإذا مال الإنسان مرّة فربنا يعدله على الجادة مرّة ثانية ، ويقول له : " أنا تبت عليك " ، إنه - سبحانه - يعمل ذلك كي يحمي العالم من شرّه ، لكن الذين يتبعون الشهوات لا يحبون لكم فقط أن تميلوا لمرّة واحدة ، بل يريدون لكم ميلاً موصوفاً بأنه ميل عظيم . لماذا ؟ ، لأن الإنسان بطبيعته - كما قلنا سابقاً - إن كان يكذب فإنه يحترم الصادق ، وإن كان خائناً فهو يحترم الأمين ، بدليل أنه إن كان خائناً وعنده شيء يخاف عليه فهو يختار واحداً أميناً ليضع هذا الشيء عنده . إذن فالأمانة والصدق والوفاء وكل هذه القيم أمور معترف بها بالفطرة ، فساعة يوجد إنسان لم يقو على حمل نفسه على جادة القيم ، ووجد هذا الإنسانُ واحداً آخر قدر على أن يحمل نفسه على جادة القيم فهو يصاب بالضيق الشديد ، وما الذي يشفيه ويريحه ؟ إنه لا يقدر أن يصوِّب عمله وسلوكه ويقوّم من اعوجاج نفسه لذلك يحاول أن يجعل صاحب السلوك القويم منحرفاً مثله ، وإن كانت الصداقة تربط بين اثنين وانحراف أحدهما فالمنحرف يستخذي أمام نفسه بانحرافه ، ويحاول أن يشد صديقه إلى الانحراف كي لا يكون مكسور العين أمامه . وهو لا يريده منحرفاً مثله فقط بل يريده أشد انحرافاً ليكون هو متميزاً عليه . إذن فالقيم معترف بها أيضاً حتى لدى المنحرفين ، واذكروا جيداً أننا نقرأ في سورة يوسف هذا القول الحكيم : { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 36 ] . هم في السجن مع يوسف ، لكن لكلٍ سبب في أنَّهم سجنوه ، فسبب هؤلاء الذين سألوا يوسف هو أنهم أجرموا ، لكن سبب وجود يوسف في السجن أنه بريء والبريء كل فكره في الله ، أما الذين انحرفوا ودخلوا معه السجن عندما ينظرون إليه يجدونه على حالة حسنة ، بدليل أن أمراً جذبهم وهمّهم في ذاتهم بأن رأوا رؤيا ، فذهبوا لمَنْ يعرفون أنه إنسان طيب برغم وجوده معهم في السجن ، فقد أعجبوا به بدليل أنهم قالوا له : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 36 ] . ومن يقول : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 36 ] لابد أن تكون عنده قدرة على تمييز القيم ، ثم قاسوا فعل يوسف عليها فوجدوها حسنة ، وإلا فكيف يُعرف ؟ . إذن فالقيم معروفة عندهم ، فلما جاء أمر يهمهم في ذاتهم ذهبوا إلى يوسف . ومثال ذلك : هناك لص لا يمل من السرقة ولا يكف عنها ، وبعد ذلك جاء له أمر يستدعيه للسفر إلى مكان غير مأمون ، فاللص في هذه الحالة يبحث عن إنسان أمين ليقضي الليل عنده ولا يذهب للص مثله . إذن فالقيم هي القيم ، وعندما قال أصحاب يوسف في السجن : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 36 ] ، استغل سيدنا يوسف هذه المسألة ووجدهم واثقين فيه فلم يقل لهم عن حكايتهم ابتداء ويؤول لهم الرؤيا ، بل استغل حاجتهم إليه وعرض عليهم الإيمان قال : { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } [ يوسف : 39 ] . لقد نقلهم من حكايتهما لحكايته ، فما داما يريدان استغلال إحسانه فلماذا لا يستغل حاجتهما له ويعظهما ويبشرهما بدين الله ؟ وكأنه يقول لهما : أنتما جئتما إليّ لأنكما تقولان إنني من المحسنين . وأنتما لم تريا كل ما عندي بل إن الله أعطاني الكثير من فيضه وفضله ، ويقول الحق على لسان يوسف : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ … } [ يوسف : 37 ] . أي أن يوسف الصديق عنده الكثير من العلم ، ويقر لهما بفضل الله عليه : فليس هذا العلم من عندي : { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي … } [ يوسف : 37 ] . وبعد ذلك يدعوهما لعبادة الواحد كي يستنجدا به بدلاً من الآلهة المتعددة التي يتخذانها معبوداً لهما وهي لا تضر ولا تنفع . { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } [ يوسف : 39 ] . إذن فالقيم واحدة ، والله يريد أن يتوب عليكم ، ولكن الذين يتبعون الشهوات يريدون أن تميلوا ميلاً عظيماً ، حتى لا تكونوا مميزين عليهم تميزاً يحقّرهم أمام أنفسهم ، فهم يريدون أن تكونوا في الانحراف أكثر منهم ، لأنهم يريدون أن يكونوا متميزين في الخير أيضاً ويقولون لأنفسهم : " إن كنا شريرين فهناك أناس شرٌّ منا " . ثم يقول الحق سبحانه : { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ … } .