Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 46-46)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تكلّم الحق في سورة النساء عن الخلق الأول وأوضح : إنني خلقتكم من نفس واحدة وهي " آدم " وبعد ذلك خلقت منها زوجها ، ثم بثثت منهما رجالاً كثيراً ونساء والبث الكثير للرجال والنساء لتستديم الخلافة للإنسان ، لكن كيف يأتي ذلك ؟ أوضح سبحانه : أريد مجتمعاً قوياً ، وإياكم أن يضيع فيه اليتيم . وبعد ذلك ما دمت أريد استدامة هذا الاستخلاف فليأخذ الأيتام نصيباً ، وتكلم - سبحانه - عن التركة ، ثم تكلم عن السفهاء غير المؤتمنين على مالهم ، وبعد ذلك تكلم عن كيفية الزواج . إذن : فكل هذه العملية ليبني لنا نظام حياة متكاملاً لأن الخلافة في الأرض تقتضي دوام هذه الخلافة بالتكاثر ، والتكاثر لا يؤدي مراده إلا إذا كان تكاثر أقوياء ، أما تكاثر الضعاف فهو لا ينفع . فإن كان فيكم يتيم لا بد أن تلاحظوه ، وإن كان فيكم سفيه لا يستطيع أن يدبر ماله فدبروا أنتم له ماله ، واجتهدوا لتتركوا من حركة حياتكم للناس الذين سيأتون بعدكم إلى أن تقوى نفوسهم على الحركة . وأوضح سبحانه منهاج الميراث ، وأمر سبحانه : أن تزاوجوا ، لكن للتزاوج شروطه وقد أوضحها ، ثم أعطانا المنهج العام : { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً … } [ النساء : 36 ] ، ووضح هذه الأحكام كلها . وبعد ذلك ما الحكمة في أنه - سبحانه - يرجع بنا مرة ثانية لليهود ؟ الحق سبحانه وتعالى يوفي الأحكام ، وإلقاء الأحكام شيء وحمل النفس على مراد الله في الأحكام شيء آخر ، فيوضح لنا : أن هناك ناساً ستعلم الحكم لكنها لا تقدر أن تحمل نفسها عليه ، فإياكم أن تكونوا كذلك . واعلموا أن هناك أناساً عندهم نصيب من الكتاب أيضاً ، ويعلمون مثلكم تماماً ، إنما اشتروا الضلالة ، إذن فهو شَرَح لنا إنّه الواقع الملموس ولا يأتينا - سبحانه - بكلام خبري أو إنشائي ، قد تقول : يحدث أو لا يحدث ، إنّه يأتيك بأحداث من واقع الكون ، وينبهنا : إياكم أن تكونوا مثلهم ، فقال : { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ … } [ النساء : 46 ] والتحريف : أنك تأتي باللفظ الذي يحتمل معنيين : معنى خير ، ومعنى شرّ ، ولكنك تريد منه الشرّ ، مثل الذي يقول : " السام عليكم - والعياذ بالله - " هي في ظاهرها أنه يقول : السلام عليكم ، لكنه يقول : السام . يعني " الموت " ، إذن : ففي اللفظ ما يُلحظ مَلحظ الخير ، ولكن العدو يُميله إلى الشرّ . ومثل هذا ما قالوه للنبي : " راعنا " وهي من المراعاة ، لكنهم كانوا يأخذونها من الرعونة ، فيأتي الأمر : اترك الكلمة التي تحتمل المعنيين . واقطع الطريق على الكلمة التي تحتمل التوجهين لأن المتكلم ، قد يريد بها خيراً وقد يريد بها شرّاً ، فمعنى تحريف الكلام أي أن الكلام يحتمل كذا ويحتمل كذا . والمثال على ذلك : الرجل الذي يذهب لخياط ليخيط له قَباء - وكان الخياط كريم العين - أي له عين واحدة - فلم يُعجب الرجُل بِخياطة القَباء فقال : والله ما دمتُ أفتضح بهذا الثوب الذي خاطه لي أمام الناس فلا بد أن أقول فيه شعراً يفضحه في الناس ، فقال : @ خاط لي عمرو قَباء ليت عينيه سواء @@ فقوله : ليت عينيه سواء يظهر ماذا ؟ هل يا ترى يتمنى له أن تكون عينه المريضة مثل السليمة ؟ أو يتمنى أن تكون العين السليمة مثل المريضة ؟ إذن : فالكلام يحتمل الخير والشر ، ومثلما حكوا لنا أن واحداً من الولاة طلب من الخطيب أن يسب سيدنا عليّاً - كرم الله وجهه وآله - وأن يلعنهم على المنبر . فقال الخطيب : اعفني . فقال الوالي : لا ، عزمت عليك إلاَّ فعلت . فقال له الخطيب : إن كنت عزمت عليّ إلاّ فعلتُ ، فسأصعد المنبر وأقول : طلب مني فلان أن أسب عليّاً فقولوا معي : يلعنه الله . فقال له : لا تقل شيئاً . فقد فهم الوالي مقصد الخطيب وقدرته على استعمال الكلام على معنيين . والحق يقول : { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ … } [ النساء : 46 ] . وأريد أن تنتبهوا إلى أن أسلوب القرآن يأتي في بعض المواقع بألفاظ واحدة ، ولكنه يعدل عن عبارة إلى عبارة ، فيخيل لأصحاب النظرة السطحية أن الأمر تكرار ، ولكنه ليس كذلك ، مثلما يقول مرة : { ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ … } [ البقرة : 16 ] ومرة لا يأتي بالهدى كثمن للضلالة ويقول : { يَشْتَرُونَ ٱلضَّلاَلَةَ } [ النساء : 46 ] ، ولم يلتفتوا إلى أن هدى الفطرة مطموس عندهم هنا ، ومثال آخر هو قول الحق : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [ المائدة : 41 ] . وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ … } [ النساء : 46 ] ، فكأن المسألة لها أصل عندهم ، فالكلام المنزل من الله وُضع - أولاً - وضعه الحقيقي ثم أزالوه وبدَّلوه ووضعوا مكانه كلاماً غيره مثل تحريفهم الرجم بوضعهم الحد مكانه . أما قوله : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [ المائدة : 41 ] فتفيد أنهم رفعوا الكلام المقدس من موضعه الحق ووضعوه موضع الباطل ، بالتأويل والتحريف حسب أهوائهم بما اقتضته شهواتهم ، فكأنه كانت له مواضع . وهو جدير بها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب المنقطع الذي لا موضع له ، فمرة يبدلون كلام الله بكلام من عندهم ، ومرة أخرى يحرفون كلام الله بتأويله حسب أهوائهم . { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا … } [ النساء : 46 ] . فهم يقولون قولاً مسموعاً { سَمِعْنَا } [ النساء : 46 ] ثم يقولون في أنفسهم " سمعنا وعصينا " . فقولهم : " سمعنا وعصينا " ففي نيتهم { عَصَيْنَا … } [ النساء : 46 ] ، إذن فقولهم { سَمِعْنَا … } [ النساء : 46 ] يعني سماع أذن فقط . أما { عَصَيْنَا … } [ النساء : 46 ] فهي تعني : عصيان التكليف ، وهم قالوا بالفعل سمعنا جهراً وقالوا عصينا سِرّاً أو هم قالوا : سمعنا ، وهم يضمرون المعصية ، { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ . . } [ النساء : 46 ] ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يُسْمِعُكم ، بدليل أنكم قلتم : سمعنا ، فماذا تريدون بقولكم : اسمع ؟ هل تطلبون أن يسمع منكم لأنه يقول كلاماً لا يعجبكم وستردون عليه ، أو أنتم تريدون استخدام كلمة تحتمل وجوهاً فتقلبونها إلى معانٍ لا تليق ، مثل قولكم : { غَيْرَ مُسْمَعٍ … } [ النساء : 46 ] ما يسرّك ، أو { غَيْرَ مُسْمَعٍ … } [ النساء : 46 ] أي لا سمعت لأنهم يتمنون له - معاذ الله - الصمم ، وقد تكون سباباً من قولهم : أسمع فلان فلاناً إذا سبّه وشتمه ، فالكلام محتمل . { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ … } [ النساء : 46 ] لم يقولوا : { رَاعِنَا … } [ النساء : 46 ] من الرعاية بل من الرعونة ، فقال : لا ، اتركوا هذا اللفظ لأنهم سيأخذون منه كلمة يريدون منها الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و " اللي " : هو فتل الشيء ، والفتل : توجيه شقي الحبل الذي تفتله عن الاستقامة ، وهذا الفتل يعطيه القوة ، وهم يعملون هذه العمليات لماذا ؟ لأنهم يفهمون أنها تعطي قوة لهم . { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ … } [ النساء : 46 ] ، وما داموا يلوون الكلام عن الاستقامة فهم يريدون شرّاً ، لأن الدين جاء استقامة ، فساعة يلويه أحد فماذا يريد ؟ … إنه يريد { وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ … } [ النساء : 46 ] ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا … } [ النساء : 46 ] ، وبدلاً من إضمار المعصية يقولون : { وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا … } [ النساء : 46 ] بدلاً من { رَاعِنَا … } [ النساء : 46 ] ، فـ { ٱنْظُرْنَا … } [ النساء : 46 ] لا تحتمل معنى سيئاً . إذن : فمعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يخبر أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خصومه يأتون بالألفاظ محتملة لذم رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك يوضح : احذروا أن تقولوا الألفاظ التي يقولونها لأنهم يريدون فيها جانب الشر وعليكم أن تبتعدوا عن الألفاظ التي يمكن أن تحول إلى شرّ . فلو قالوا { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن … } [ النساء : 46 ] ، وساعة تسمع كلمة " لكن " فلتعلم أن الأمر جاء على خلاف ما يريده المشرع لأنه يقول : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ … } [ النساء : 46 ] ، لكنهم لم يقولوا ، إذن فالأمر جاء على خلاف مراد المشرع . { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ … } [ النساء : 46 ] و " اللعن " هو : الطرد والإبعاد ، فهل تجنَّى الله عليهم في لعنهم وطردهم ؟ لا . هو لم يلعنهم إلا بسبب كفرهم ، إذن فلا يقولن أحد : لماذا لعنهم الله وطردهم وما ذنبهم ؟ نقول : لا ، هو سبحانه لعنهم بسبب كفرهم ، إذن فالذي سبق هو كفرهم ، وجاء اللعن والطرد نتيجة للكفر . { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 46 ] . وساعة تسمع نفي حدث " لا يؤمنون " ثم يأتي استثناء " إلا " ، فهو يثبت بعض الحدث ، تقول مثلاً : لا يأكل إلا قليلاً ، كلمة " لا يأكل " نفت الأكل ، " وإلا قليلاً " أثبتت بعض الأكل ، فهو سبحانه يقول : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 46 ] . والإيمان حدث يقتضي محدثاً هو : مَنْ آمن ، إذن : فعندي حدث وفاعل الحدث ، فساعة تسمع استثناء تقول : هذا الاستثناء صالح أن يكون للحدث ، وصالح أن يكون لفاعل الحدث ، كلمة { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 46 ] تعني : فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلاً لأنهم يؤمنون قليلاً بالصلاة ، وبأنهم لا يعملون يوم السبت ، أما بقية مطلوبات الإيمان فليست في بالهم ولا يؤدونها ، أو فلا يؤمنون إلا قليلاً فقد يكون بعض منهم هو الذي يؤمن ، وهذا صحيح عندما نقوله لأن بعضاً منهم آمن بالفعل ، ونجد أيضاً أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، فيكون إيمانهم قليلاً بالحدث نفسه . وهناك أناس منهم بعدما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتُلي القرآن ورأوا صورته فوجدوه مثلما وُصف عندهم تماماً فآمنوا ، ولكن هل آمن كل يهود ، أو آمن قليل منهم ؟ آمن قليل منهم مثل : عبد الله بن سَلاَم ، وكعب الأحبار ، إنما عبد الله بن صُورْيَا ، وكعب بن أسد ، وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود فلم يؤمنوا . إذن : فإن أردت أن بعضاً " قليلاً منهم " هو الذي آمن فهذا صحيح ، ويصح أيضاً أن الكافرين منهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، وفي ذلك تعبير من الحق سبحانه وتعالى نسميه " صيانة الاحتمال " لأن القرآن ساعة ينزل بمثل هذا القول فمن الجائز - وهذا ما حدث - أن هناك أناساً من اليهود يفكرون في أنهم يعلنون الإيمان برسول الله ، فلو قال : " فلا يؤمنون " فقد لكان من الصعب عليهم أن يعلنوا الإيمان - لكن عندما يقول : { إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 46 ] فالذي عنده فكرة عن الإيمان يعرف أن الذي يخبر هذا الإخبار عالمٌ بدخائل النفوس ، فصان بالاحتمال إعلان هؤلاء القلة للإيمان . ويقول الحق بعد ذلك : { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ … } .