Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 47-47)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نعلم أن كل التشريعات التي جاءت من السماء لا يوجد فيها تضارب فالمشرع واحد ، ولن يشرع اليوم شريعة ثم يأتي رسول آخر يشرع شريعة أخرى جديدة . فأصول الأديان كلها التي جاء بها ركب الرسالات واحدة ، ولا تختلف إلا في بعض الأحكام التي تتطلبها ظروف العصور ، وفي التشريع الواحد تتطور الأحكام وخصوصاً ما يتعلق بالعادات ، وما كان الله سبحانه وتعالى الرحيم بعباده يأتي لمسألة من المسائل تعرض الناس فيها لعادة فتمكنت منهم تلك العادة ، وأصبحت تقودهم أن يفعلوها ثم يأتي لينهيها بكلمة ، لم تأت الكلمة الفصل إلا في العقيدة ، لكن المسائل التي تحتاج لينهيها بكلمة ، لم تأت الكلمة الفصل إلا في العقيدة ، لكن المسائل التي تحتاج إلى التعود فالحق يتلطف في أن يخرجها خروجاً ميسوراً ، بمعنى أنه يجعلها مرحليات كي لا توجد فجوة الانتقال . ويمكننا أن نشبه فجوة الانتقال : مثلما يكون هناك مَنْ يدخن السجائر ، ويصل معدل تدخينه في اليوم مائة سيجارة ، فإذا قلنا له : اجعله خمسين سيجارة ، ثم ثلاثين ، وهكذا ، وبذلك نكون قد وزعنا عادته على بعض الزمن ، وبدلاً من أن تكون المسافة بين السيجارة والسيجارة عشر دقائق أو نصف ساعة فلنجعلها ساعة فنكون قد كسرنا جزءاً من الاعتياد ، وكذلك مرحليات الأمور الاجتماعية التي تنشأ من رتابة التعود . إن الحق سبحانه وتعالى يقول : { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } [ النساء : 47 ] . فالحق يوضح : لم نأت بحاجة جديدة ، بل كلها مما عندكم . قد يقول قائل : ما دامت مما عندهم فما الداعي لها ؟ . نقول : لأن هناك جديداً في أقضية العصر التي لم تكن موجودة عندهم ، والذي زاد هو معالجة تلك الأقضية الجديدة ، ولكن أصل الإيمان موجود بالقرآن المعجز الذي ينزل من السماء بالمعجزة بالتوحيد ، والقضايا العقدية ، كل هذه لا يوجد فيها خلاف . { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ آمِنُواْ … } [ النساء : 47 ] ، وكلمة { أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ … } [ النساء : 47 ] إلزام لهم بالحجة ، وتعني : نحن لا نكلمكم بكلام لا تعرفونه لأنه يقول : { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } [ النساء : 47 ] إنّهم يعلمون ما معهم جيداً ، فكان من الواجب أن يقارنوا ويوازنوا ما جاء لهم من جديد على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عندهم ، فإن وجدوه مصدقاً لما عندهم فقد انتهت المسألة . ثم انظر إلى التهديد { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } [ النساء : 47 ] ، سبحانه يناديهم : بادروا ، كما نقول مثلاً : " الحق نفسك وآمن " ويقول الحق : { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ … } [ النساء : 47 ] . والطمس هو : المحو . فالشيء الذي طُمس هو الذي مُحي بعدما كان شيئاً مميزاً ، وكلمة " وجوه " وردت في القرآن بمعانٍ متعدددة ، فتطلق مرة في البدن على ما يواجه وهو " الوجه " كما في قوله : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] . ونطلق الكلمة مرة على القصد والنية والوجهة ، قال تعالى : { بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ } [ البقرة : 112 ] . و " أسلم وجهه " تعني قصده ووجهته ونيته . إذن : فمرة يطلق الوجه على الوجه الذي به المواجهة ، ومرة يطلق على القصد ، وما العلاقة بين القصد ، والنية ، والوجه ؟ لأن الإنسان إذا قصد شيئاً اتجه إليه بوجهه ، وسار له ، إذن فالوجه يطلق على هذه الجارحة " الوجه " ، ويطلق على القصد والنية ، وما دام يطلق بإطلاقين فيطلق على الوجه المعروف فينا ، ويطلق على القصد والنية التي توجهنا فالاثنان يصحان . وقوله : { نَّطْمِسَ وُجُوهاً … } [ النساء : 47 ] لأنه سبحانه أوضح : أنا مكرمكم وجعلت لكم سمات تميزكم ، بشكلها : حواجب ، وعينين ، وأنفاً جميلاً ، وفماً ، بحيث إنك لو أردت أن تخلق هذه الخلقة ، لما استطعت ، وسبحانه يعلن : أنا أقدر أن أطمس هذه الوجوه التي تميزكم ، بحيث أردها على الأدبار ، فيكون الوجه مثل القفا ، وتصبح كقطعة اللحم ، هذا إن أردنا بقوله : { نَّطْمِسَ وُجُوهاً … } [ النساء : 47 ] ، الوجه الذي في البدن . وإن أردنا بالوجه " القصد " نقول : الذين يشترون الضلالة ، والذين يريدون أن تضلوا السبيل ، والذين يحرفون الكلام عن مواضعه ، والذين يقولون : " راعنا " ، والذين يقولون : " اسمع غير مسمع " . أليس لهم وجهة ؟ وما وجهتهم في هذا الموقف وما قصدهم ؟ إن قصدهم هو صرف أنفسهم وصرف الناس عن اتباع محمد ، فكأنه يقول لهم : بادروا وآمنوا قبل أن نطمس ونمحو قصدكم فلا يصل إلى منتهاه مِنْ صدكم عن الإيمان برسول الله ، الحقوا أنفسكم قبل أن يحدث ذلك ونلعنكم ونطردكم من رحمتنا ، ولذلك نجد سيدنا عبد الله بن سلام عندما سمع الآية ، ذهب إلى رسول الله ويده على وجهه وقال : والله لقد خفت قبل أن أسلم أن يُطْمس وجهي . وهذا دليل على أنه آمن بأن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنفاذ . وفي عهد سيدنا عمر - رضي الله عنه - نجد كعب الأحبار يذهب له ، ولم تكن الآية قد بلغته ، فلما بلغته ذهب إلى سيدنا عمر وهو واضع يده على وجهه خائفاً أن يُطمس وجهه قبل أن يعلن إسلامه . وذلك دليل على يقينه من أن الذي قال هذا الكلام قادر على الإنفاذ . وقد يقول قائل : ولكنْ منهم أناس لم يؤمنوا ولم يحدث لهم هذا الطمس . نقول : أهو قال سنطمس الوجوه فقط ؟ لا ، بل قال أيضاً : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ … } [ النساء : 47 ] ويكفي أن هناك أناساً اعتقدوا أن الطمس قد يجيء وهم من وجوه أهل الكتاب ومن أحبارهم ، فالذين آمنوا برسول الله من هؤلاء كانوا يعلمون كيد اليهود ، فسيدنا عبد الله بن سلام قبل أن يسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أحب أن أُسلم ، ولكني أخشى إن أسلمت أن يقول اليهود فيَّ شرّاً فقبل أن أُسلم أسألهم عني ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبار اليهود : ماذا تقولون في عبد الله بن سلام ؟ قالوا : سيدنا وابن سيدنا وعالمنا وحبرنا ومجَّدوه ، فلما سمع ابن سلام منهم هذا الكلام قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله فقالوا : هو ابن كذا وابن كذا وسبُّوه ، فقال ابن سلام : يا رسول الله ، ألم أقل لك : إنهم قوم بهت . فقد روي " أن عبد الله بن سلام لما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فنظر إلى وجهه الكريم فعلم أنه ليس بوجه كذاب ، وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر ، فقال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول شرائط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه ؟ فقال عليه السلام : " أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وأما الولد فإن سبق ماء الرجل نزعه ، وإن سبق ماء المرأة نزعته " فقال : أشهد أنك رسول الله حقاً فقام ثم قال : يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك ، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أيُّ رجل عبد الله فيكم ؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا ، قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله ؟ قالوا أعاذه الله من ذلك ، فخرج إليهم عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا وانتقصوه ، قال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر " . قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض : إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ، وفيه نزل : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ … } [ الأحقاف : 10 ] . { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ … } [ النساء : 47 ] فإن أردنا طمس الوجه حقيقة ، فهو الأمر الذي خاف منه عبد الله بن سَلام وكعب الأحبار ، هذا ذهب إلى رسول الله وذاك ذهب إلى عمر ، وكل منهما كان يمسك وجهه خشية أن يطمس ، إذن فقوله : { نَّطْمِسَ وُجُوهاً } [ النساء : 47 ] أي نجعلها مثل " القفا " مجرد قطعة لحم من غير تمييز ، أو نحول بينهم وبين قصدهم أي لا نمكنهم من الوصول إلى ما يريدون من صدهم الناس عن الإيمان برسول الله ، { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ . . } [ النساء : 47 ] أو أن نطردهم من رحمتنا ومن ساحة إيماننا ، فيقول الحق : { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ … } [ البقرة : 7 ] . ما داموا هم قد كفروا نقول لكل منهم : ألم تكن تريد أن تكفر ؟ والله سيزيد لك الختم على قلبك وسنعينك على هذه الحكاية أيضاً ، قال تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً … } [ البقرة : 10 ] . فإذا كنت أنت تريد هذه فسنعطيك ما في نفسك { فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ … } [ النساء : 47 ] وسبحانه يخاطب اليهود ، واليهود يعرفون قصة السبت ويعرفون أنها واقعة حدثت ، وطردهم الله وأهلكهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً عظيماً . إذن فهو لا يأتيهم بمسألة وعيد بدون رصيد ، لا ، فهذا وعيد يسبقه رصيد ، أنتم - يا معشر يهود - تؤمنون به وتذكرونه وله تاريخ عندكم ، { كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ … } [ النساء : 47 ] ، وقصة أصحاب السبت معروفة وإن كانت ستأتي في سورة أخرى ، و " السْبت " وهو السكون والراحة ، ومنه السُّبات أي النوم ، فسبت يسبت يعني سكن واستقر وارتاح . { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ } [ النساء : 47 ] ، واللعن قالوا فيه : إنه الطرد والإهانة ، وقالوا في معناه : إنه الإهلاك . والذين يحاولون أن يشككوا في مفهومات آيات القرآن يقولون : أنتم لا تقفون عند معنى واحد للكلمة ، إما أن يراد كذا ، وإما أن يراد كذا . نقول لهم : أنتم ليست لكم ملكة في اللغة حتى وإن تعلمتم اللغة فتعلُّمكم للغة تعلم صنعة لا تعلم ملكة . وتعلم الصنعة يعطيك القاعدة ولكن لا يعطيك قدرة وضع اللفظ في معناه الحقيقي ولا بيان المراد منه - واللعن - إذا كان معناه الطرد - كان يجب أن تفهموا أن الطرد يقتضي طارداً ، ويقتضي مطروداً ، ويقتضي مطروداً منه . ومَنْ الذي يَطْرد ؟ ومن الذي يُطرد ؟ وعن أي شيء يُطرد ؟ حين تأخذون المعنى على هذا الوضع لا تجدون غضاضة في أن تتعدد معاني الطرد . فهب أنك تجلس للأكل ثم جاءك كلبك الذي تعتز به للحراسة ليحوم حول مائدتك ، ماذا تصنع له ؟ تطرده عن المائدة ، ذلك طرد ، وهب أنّ ابنك مثلاً صنع شيئاً وعندك ضيوف فأردت أن تخرجه من المجلس وقلت له : اذهب عند أمك ، هذا طرد . وإذا كان ذنب الابن كبيراً ولك سيطرة فأنت قد تخرجه من البيت فلا يجلس فيه ، وهذا طرد ، وإذا كان ذنب الابن لا يُحتمل فأنت تخرجه من القرية ، وهذا طرد ، فإذا كان هناك إنسان قد أذنب ذنباً كبيراً وكنت صاحب قوة نافذة فأنت تخرجه من الحياة كلها فتكون قد أبعدته من الحياة كلها . إذن : فكل ذلك طرد . فإن أردنا الخزي والهوان يتأتى اللعن ، وإن أردنا الإهلاك فقد هلك منهم الكثير في المعارك ونالوا الخزي والهوان لأننا سبينا نساءهم وبناتهم ، وقهرناهم ، وأهلكناهم ، وأخرجناهم من ديارهم إلى بلاد الشام وإلى أذرعات ، وأهلكهم الله بالموت . إذن : فكل معاني الطرد تتأتى . فقد جاء يمس كل الذي حدث لهم ، ولكنه يختلف باختلاف الطارد ، وباختلاف المطرود ، وباختلاف المطرود منه . وحين يقول الحق : { كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ } [ النساء : 47 ] فهذا يدل على أن اللعن له أشياء مختلفة ، أنا سآخذ منها لعن أصحاب السبت ، والسبت يوم من أيام الأسبوع ، أي وحدة زمنية في الأسبوع ، ونلحظ أن بقية أيام الأسبوع السبعة فيها إشارات إلى العدد ، يوم الأحد يعني واحداً ويوم الاثنين تعني اثنين . وهكذا في الثلاثاء والأربعاء والخميس ، ففيه خمسة أيام بأعداد موجودة إلا يومين اثنين لم يؤثر فيهما العدد : يوم " الجمعة " ، ويوم " السبت " ، وهذان اللفظان أخذا معاني غير العددية ، ولكنهما يأخذان معنى العددية بالبعدية أو القبلية . يعني : عندما نقول مثلاً " الخميس " فيكون يوم الجمعة يعني " ستة " ، إنما لم يقل " ستة " وقال " الجمعة " ويوم " السبت " يكون سبعة ، إذن فأنت تستطيع أن تضع العدد البعدي بعد الأعداد : واحد ، اثنين ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ، ستة ، سبعة ، لكننا نجد أن لهما اسمين مختلفين لأن في كل واحد منهما حدثاً غلب العددية . فـ " الجمعة " للاجتماع ، فتركنا كلمة " ستة " وأخذنا بدلاً منها " الجمعة " ، و " السبت " للسكون لأن مادتها في اللغة : سبت يسبت ، أي سكن وهدأ ولم يتحرك ، مثل قول الحق : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } [ النبأ : 9 ] . أي سكوناً وهدوءاً . والحق سبحانه وتعالى حين يريد ابتلاء بعض خلقه ليعْلَم منازلهم من الإيمان واليقين والانصياع لأوامر الحق ، يأتي فيحرم حدثاً في زمن وهو مباح في غير ذلك الزمن ، فقد يحرم الصيد في أحد الأيام وكان مسموحاً بأن يصطادوا في كل يوم . وكانوا يأتون بالسمك كرزق من البحر ، فجاء في هذا اليوم خصوصاً وقال لهم : لا تصطادوا في هذا اليوم ، أي أن يسكنوا عن الحركة ، هذا هو " السبت " بمعنى السكون ، و { أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ } [ النساء : 47 ] هم الجماعة الذين اجتمعوا على حادثة تتعلق بالسبت أو تتعلق بالسكون ، أي تتعلق بعدم العمل وبعدم الحركة ، وقضية أصحاب السبت شرحها الحق وتكلم عنها إجمالياً في سورة البقرة : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ … } [ البقرة : 65 ] . وقوله هنا : { كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ ٱلسَّبْتِ } [ النساء : 47 ] ، لكن القصة بالتفصيل ذكرها الحق سبحانه وتعالى وقال مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالله الآمر ، والرسول هو الذي سأله الله أن يسأل ، والمسئولون هم أصحاب الحكاية وهم اليهود ، وحين يطلب الحق خبراً مؤكداً من الأخبار ، قد يلقيه خبراً فيصدقه أهل اليقين الذين يثقون في الله ويصدقونه ، وقد لا يتركه خبراً ، بل يأتي به في صيغة الاستفهام لأنه واثق أن المستفهم منه لا يجد جواباً إلا الحق الذي يريده سبحانه وتعالى ، وعندما يقول ربنا لنبيه : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف : 163 ] . ذلك حدث لا يستطيعون إنكاره ، وكان من الممكن أن يقص الله الحدث من عنده ، ولكنه يريد أن يوثق الحدث توثيقاً لا يحتمل إنكار منكر ولا مكابرة مكابر ، فأوضح : أنا لا أقول عن الحدث ، ولكن يا محمد اسألهم أنت عن هذه الحادثة فسيكون جوابهم جواباً مطابقاً لما حدث لأنها مسألة واضحة لا تنكر . { وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ … } [ الأعراف : 163 ] وكلمة " قرية " نأخذها من " القِرَى " . والقِرَى هو أن تكرم واحداً مقبلاً عليك كضيف مثلاً ، ولكن ليس عندك ما يعطيه " قرى كاملاً " أي ما يقيم حياته لأيام أو شهور ، بل عندك " قَرية واحدة " ، أي أكلة واحدة تكفيه لوجبة واحدة ، فما دام قد مر عليك فأنت تعطيه قرية واحدة - وجبة واحدة - فإن كانت البلد " أم القرى " : فيكون فيها حاجات كثيرة أو لأنها أعظم القرى شأناً والقَرْية التي جاء ذكرها في سورة الأعراف يتم تعريفها بأنها : { حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ … } [ الأعراف : 163 ] والحاضر هو القريب . فيقال : حضر فلان أي أصبح على مقربة مني ، و " الحاضرة " أيضاً هي : التي إن طلبت فيها شيئاً وجدته ، كما قال شوقي - رحمة الله عليه : @ ليلى بجانبي كل شيء إذن حضر @@ فكذلك " الحضر " معناه : أن كل حاجة فيها موجودة ، أما البادية فحاجاتها تكون على قدر أهلها فقط ، ولذلك فـ " حضر " ضد " بادية " وأخذوا منها " الحواضر " مثل العواصم الآن ، إذن فقوله : { حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ … } [ الأعراف : 163 ] تأخذها بمعنى قريبة من البحر ، أو أنها هي البلد المتحضر على البحر ، أو الجامعة لأنواع الخير على البحر ، وهي التي كانت بين " مدين " و " الطور " واسمها " أيلة " . وقصتهم : أن الله أراد أن يبتليهم بشيء وهو : تحريم الصيد في ذلك اليوم ، وما دامت { حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ … } [ الأعراف : 163 ] ، فرزقهم على الصيد ، فقال : لا تصطادوا في هذا اليوم ، ولكن الله حين يريد أن يحكم الابتلاء ليعلمَ علم إبراز لخلقه مدى تنفيذهم للابتلاء ، وإلا فهو عالم ماذا سيفعلون . فقال : لا تصطادوا في هذا اليوم . قد يقول قائل : لماذا حرم هذا الحدث في ذلك الزمن ؟ نقول له : أنت تريد أن تعلم من الله أن كل تحريم له مضارة ، نقول لك : لا ، فقد يكون تحريم ابتلاء واختبار ، ولذلك قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ … } [ النساء : 160 ] . " الطيبات " هي الحلال ، لكنهم هم فعلوا ما يستحقون عليه العقاب ، فقلنا لهم : ما دمتم تجاوزتم حدودكم وأخذتم ما ليس حلاً ، فجعلتموه حلاً فلا بد أن أجعل من الحل الذي هو لكم حراماً عليكم ، هذه مقابل تلك ، فلماذا اجترأت على محرم فأحللته ؟ وما دمت قد فعلت ذلك ولم ترتض تحليلي وتحريمي فأنا سآخذ شيئاً من الذي كان حلاً لك وأحرمك منه . إذن : فلا يتطلب من كل تحريم أن يكون فيه مضارة ، إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يكون الإيمان له أصول ثابتة ، ولذلك يقول : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [ الحج : 11 ] . إذن : فالحق لا يريد من الناس أن يعبدوه على حرف أي على طرف من الدين بل في وسطه وقلبه أي أنهم على قلق واضطرابات في دينهم لا على سكون وطمأنينة ، كالذي على طرف العسكر والجيش ، فإن أحسّ بظفر ونصر وغنيمة سكن واطمأن ، وإلاَّ فرّ وطار على وجهه . هو يريد منك إيماناً حقاً ، ولذلك فبعض الناس يقول : سأزكي لأزيد من مالي . نقول له : أخرج من بالك ظنك أن مالك سيزيد ، بل أنت تزكي لأن الله طلب منك أن تزكي . أما أن يزيد مالك فهذا شيء آخر ، فلعل الله يبتلي إيمانك ويريد أن يرى : أأنت مقبلٍ على الحكم لأن الله قاله ، أم لأنه سيعطيك ربحاً زائداً ؟ وسبحانه حين يعطي ربحاً زائداً ستزكيه أيضاً ، لكن هو يريد مَنْ يقبل على الحكم لأنه سبحانه قد قاله . وقد حرم الحق سبحانه وتعالى عليهم الصيد يوم السبت بظلم منهم ، وكان من الجائز جداً ألاَّ يكون هناك مغريات على المخالفة ، ولكنه أراد أن يبلوهم بلاءً حقاً فيأتي في اليوم المحرم فيه الصيد ويُكْثِر من السمك ، ترى السمكة ظاهرة مثل شراع المركب ، وهذا معناه إغراء بالمخالفة ، فلو لم يظهر السمك في هذا اليوم لكانت المسألة عادية ، لكنهم حين ينظرون السمك يجدونه قد " شرع " مثل المراكب سابحاً في الماء ، { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ … } [ الأعراف : 163 ] . إذن : فالابتلاء جاء من أكثر من زاوية : يوم سبتهم تأتي الحيتان شُرَّعاً ، وفي غير يوم السبت لا تأتي ، وهذا الأمر يجعلهم في حالة قلق . فلو كانوا على اليقين والإيمان لالتزموا بالأمر . والله سبحانه وتعالى يريد أن يمحصهم التمحيص الدقيق ، فماذا هم فاعلون ؟ هم يريدون أن ينفذوا الأمر ، إنما طمعهم المادي يصعب عليهم ألا يصطادوا هاذا السمك الذي يأتيهم يوم السبت ، ولو أنهم وثقوا بعطاء الله في المنع لنجحوا في الاختبار . ذلك أن الحق قد يجعل في المنع عطاء ، لكن مَنْ الذي يتنبه لذلك ؟ لم يقولوا : ما عند الله خير من هذا السمك الشُّرع الذي يأتينا ويلفتنا . لكنهم احتالوا حيلاً ، مثلاً : صنعوا من الأسلاك والحبال " مصايد " و " جُبًى " . و " ملاقف " يحجزون بها هذا السمك الشُّرع في الماء ثم يأتون في اليوم التالي فيجدونه محبوساً ، وظنوا أنهم بذلك احتالوا على الله ولم يتفهموا معنى الصيد ، فالصيد هو جعل السمك في حيازتك ، وما دمت قد عملت بحيث تتمكن من حيازة السمك في أي وقت تكون قد اصطدت . إذن : فهم يحتالون على الله ولذلك قال سبحانه : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ الأعراف : 163 ] . وما دام الواحد منهم يفسق ويحل لنفسه شيئاً حرمه ربنا عليه ، فيوضح له ربنا : ما دمت قد فعلت ذلك فسوف أحرم عليك شيئاً أحللته لك لأنك أعطيت لنفسك حرية في أن تُحل ما حرمت ، فأنا سأحرم ما أحللت لك . { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأعراف : 164 ] . وهذا دليل على وجود عناصر خير فيما بينهم ، وقالت عناصر الخير : اتقوا الله . فقال لهم آخرون : لِمَ تعظون قوماً الله مهلكهم ، إذن فهناك ثلاث جماعات : جماعة خالفوا ، وجماعة أرادوا أن يعظوهم كي لا يقعوا في المخالفة ، وجماعة لاموا من يعظونهم وقالوا : دعوهم ليهلكهم الله أو يعذبهم ، { ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً … } [ الأعراف : 164 ] ، فقالت الجماعة التي تعظ : نحن نريد بالوعظ أن يكون لنا عذر أمام الله بأننا لم نسكت على المنكر ونحن نعمل لأنفسنا . { قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ … } [ الأعراف : 164 ] وأيضاً فلعلهم يتقون ربّهم بترك ما هم فيه من المعصية والفسق . فماذا حدث ؟ يقول الحق : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [ الأعراف : 165 ] . وما دام قد قال : " أنجينا " ، فهناك مقابلها وهو " أهلكنا " ، إذن فجاء هنا " اللعن " بمعنى الهلاك . ويختم الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها : { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } [ النساء : 47 ] نعم لأن الحق سبحانه وتعالى بقدرته الشاملة وصفات جلاله الكاملة ، لا يتخلف شيء في وجوده عن أمره ، فإذا وعد بشيء فلا بد أن يحدث ، فأمر الله غير أوامر البشر ، فأوامر البشر هي التي تتخلف أحياناً سواء أكانت وعداً أم وعيداً ، لأنك قد تعد إنساناً بخير ، ولكنك ساعة آداء الخير لا تستطيعه ، فتكون قدرتك هي التي تحتاج إلى أداء الخير . أو توعد إنساناً وتهدده بشرّ ، وستعمل فيه كذا غداً ، وقد يأتيك غداً مرض يقعدك فلا تستطيع إنفاذ وعيدك . إذن : فأنت قد لا تستطيع إنفاذ شيء من وعدك ولا شيء من وعيدك لأن قدرتك من الأغيار ، وما دامت قدرتك من الأغيار فقد توجد أو لا توجد . لكن الحق سبحانه وتعالى إذا قال بوعد أو قال بوعيد أيوجد شيء يغير هذا ؟ لا ، إذن فساعة يقول ربنا بوعد أو بوعيد فاعرف أن هذا سيحدث في الوعد ، أما في الوعيد فإن الله قد يتجاوز عنه كرماً وفضلاً ما عدا الشرك بالله . ونعرف أن الحق سبحانه وتعالى يوزع الأحداث على الزمن ، فلا زمن يقيده لأنه يملك كل الزمن ، أما أنت كواحد من البشر فتتكلم عن الحدث حسب زمانه . فإن كان هناك حدث قد حصل قبل أن تتكلم أنت عنه ، فتقول : فعل " ماض " . أي أن الحدث قد وقع في زمن قبل زمن تكلمك ، وإن كان الحدث يقع في وقت تكلمك ، كان الفعل " مضارعاً " ، والمضارع صالح للحال وللاستقبال ، تقول : فلان يأكل . وذلك يعني أنه يأكل الآن . وإن قلت : " سيأكل " أي : أنه سيأكل بعد قليل ، فإذا قلت عن أمر مستقبل إن هذا الأمر سيحدث ، أتملك أنت أن يحدث ؟ لا . إذن فالكلام منك على الاستقبال قد يكذب وقد يصدق ، لكن إذا قال الحق وأخبر عن أمر مستقبل وعبّر عنه بالفعل الماضي فمعنى ذلك أنه حادث لا محالة ولذلك فالزمن عند ربنا مُلغى . وعندما نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النحل : 1 ] . و " أتى " هذه فعل ماض ، وقوله : " أتى " يدل على أنه أمر قد حدث قبل أن يتكلم ، وقوله : " فلا تستعجلوه " دلّ على أنه لم يحدث ، فالذي يشكك في القرآن يقول : ما هذا الذي يقوله القرآن ؟ يقول : " أتى أمر الله " وهو لم يأت ؟ نقول له : هذا الكلام عندك أنت . لكن إذا قال الله : إنه " أتى " فهو آتٍ لا محالة ، فاحكم على الحدث المستقبل من الله على أنه أمر كائن كما يكون كائناً ماضياً ، ما دام قال فلا رادّ لأمره . " أتى أمر الله " فهي تعني سيأتي . ولا توجد قدرة في خلقه تصرف مراده أو تعجزه عن أن يفعل . وقوله سبحانه : { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } [ النساء : 47 ] جاء لأنه قال من قبل { أَوْ نَلْعَنَهُمْ … } [ النساء : 47 ] هذه مستقبل . وقد يقول قائل : أن { نَلْعَنَهُمْ … } [ النساء : 47 ] تعني أن اللعنة لم تأت وقد لا تحدث ، ونقول : لا لأن أمر الله كان مفعولاً ، فإياك أن تأخذ " نلعن " هذه التي للمستقبل كي تطبقها عند ربنا ، لأن الحق سبحانه وتعالى يوضح لك : أنت الذي عندك المستقبل ، والمستقبل قد يقع منك أو لا يقع لأنك لا تملك أسباب نفسك ، تقول : سأعمل الشيء الفلاني غداً . وقد يأتي غداً وتكون أنت غير موجود هذه واحدة ، أو تقول : سأقابل فلاناً . وفلان هذا قد لا يكون موجوداً فقد يموت ، أو قد يتغير رأيك ويأتيك الشيء الذي كنت تطلبه قبل أن تتكلم مع ذلك الإنسان ، أو قد تقول : أنا سأنتقم من فلان ، وعندما يأتي وقت الانتقام يهدأ قلبك . إذن : فأنت لا تملك شيئاً من هذا ، فلا يصح أن تجادل ولذلك يعلمنا الله الأدب مع الأحداث ومع الكون ومع المكوِّن ، ويخرجنا عن أن نكون كذابين فيقول لرسوله : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ … } [ الكهف : 23 - 24 ] . يعلمك الحق ذلك حتى لا تكون كذاباً ، فإن قلت : أنا فاعل ذلك غداً ثم لا تفعله ، وما دمت لا تفعله فتكون كذاباً مجترئاً لأنك افترضت في نفسك القدرة على الوجود . وكل حدث من الأحداث مثلما قلنا : يحتاج إلى " فاعل " ، ويحتاج إلى " مفعول " يقع عليه ، ويحتاج إلى " زمن " ويحتاج إلى " سبب " ، ويحتاج إلى " قدرة " تبرزه في المستقبل ، قل لي بالله عليك : ماذا تملكه من عناصر الفعل ؟ أنت لا تملك وجود نفسك ولا تملك وجود المفعول ولا تملك السبب ، ولا تملك القدرة ، ولا تملك شيئاً ، فأدباً منك عليك أن تقول : " إن شاء الله " فإن لم يحدث تقول : أنا قلت إن شاء الله وهو لم يشأ ، فتكون قد خرجت من التبعة ، ولم تكن كذاباً . إذن : فقول الحق : { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } [ النساء : 47 ] لأنه قال : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ … } [ النساء : 47 ] . و " نلعن " هذا فعل مضارع ويأتي من بعد ذلك ، فواحد قد يقول : إنه سبحانه قال : سيلعن ، فهل ستتحقق اللعنة ؟ نقول له : نعم لأنه قال : { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } [ النساء : 47 ] . وكذلك ساعة تقرأ أو تقول : { وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } [ النساء : 99 ] . فعليك أن تضيف : ولا يزال غفوراً رحيماً ، لأن صفة الرحمة لم توجد له ساعة وجد المرحوم ، لا ، بل معنى " رحيم " أنه سبحانه يرحم غيره والذي وُجد ليتلقى رحمته سبحانه إنما جاء بعد أزليَّة رحمة الله ومغفرته . فسبحانه أزليّ قديم . والصفة أزلية وقديمة بقدمه سبحانه قبل أن يوجد من يرحمه ، وهو لا تأتيه أغيار . وما دام سبحانه رحيماً قبل أن يُوجِدَ مرحوماً له فإذا أوجد مرحوماً له ، أتنحلّ الصفة أم تبقى ؟ إنها باقية دائماً فكان الله ولا يزال غفوراً رحيماً ، { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } [ النساء : 47 ] نعم ، لأنه قد يفعله بأسبابه وقد يفعله بدون أسباب فالأمر متروك لمشيئته فإما أن يوجد الشيء من غير سبب أو يوجده بسبب ، والشيء الموجود بالسبب مخلوق بالمسبّب فسبحانه خلق الأسباب . وبعد ذلك ينقلنا الحق سبحانه إلى قضية عقدية أساسية في صلة الإنسان بالحق سبحانه وتعالى . فيقول : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ … } .