Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 15-16)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كلمة رَفيع على وزن فعيل من الفعل رفع ، وهذا الوزن يأتي بمعنى فاعل مثل رحيم مبالغة من راحم ، وتأتي بمعنى مفعول مثل قتيل يعني مقتول ، كذلك كلمة رفيع يصح أنْ تكون بمعنى رافع . أي : أنه سبحانه رافع لغيره ، كما يرفع سبحانه بعض الخلق على بعض . ويصح أنْ تكون رفيع بمعنى مفعول أي مرتفع في ذاته ، والرافع لا يرفع غيره إلا إذا كان مرتفعاً في ذاته ، فرفيع هنا بمعنى مرتفع عن كل شيء ، كما نقول : الله أكبر والله أعلى وأجلّ . فالله تعالى مرتفع الوجود لأن وجوده أزليٌّ لا عن عدم ، أما وجودنا نحن فعن عدم ، ووجوده سبحانه إلى دوام ووجودنا إلى عدم ، وهو موجود سبحانه بذاته ووجودنا نحن به سبحانه ، إذن : فهو سبحانه أحسن مرتفع في الوجود ، نعم . والله سبحانه مرتفع في قيوميته ، فنحن نعمل ونتعب وننام لنرتاح ، أما هو سبحانه فلا يُتبعه عمل ولا ينام ليستريح ، لذلك قال سبحانه : { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ البقرة : 255 ] وكأن الحق سبحانه يقول لنا : ناموا أنتم مِلْءَ جفونكم لأني لا تأخذني سِنَةٌ ولا نوم ، يريد أنْ نطمئن ونحن في معيته سبحانه . وبهذه القيومية يرفع الله مَنْ يشاء ، وبطلاقة قدرته سبحانه يُبقي مَنْ يشاء في الرفعة ويُنزل مَنْ يشاء إلى الضِّعَة { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] . وقوله : { رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ } [ غافر : 15 ] لأن الرفع يقتضي منزلة أعلى من منزلة ، وهذه هي الدرجات أي : ما بين كل منزلة وأخرى ، والدرجات لا تكون إلا في العُلُو ، أما النزول إلى أسفل فتسمى مراحله دركات . والحق سبحانه يرفع من خَلْقه ما يشاء على ما يشاء ، كما رفع من الزمان رمضان على غيره من الشهور ، ورفع من المكان البيتَ الحرام وبيت المقدس ، ورفع من الملائكة كما في قوله تعالى على لسان الملائكة : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] . ورفع من الرسل أُولي العزم منهم ، كما قال تعالى : { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [ البقرة : 253 ] ويرفع من عامة الخَلْق كما قال سبحانه : { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [ المجادلة : 11 ] وكما رفع الله سبحانه أُولِي العلم كذلك رفع أصحاب الحركة في الحياة الذين ما أُوتوا علماً ، إنما عندهم حركة تنفذ هذا العلم وتُطبِّقه وتحقق مطلوبه في الحياة ، فالعلم يحتاج في تنفيذه ليد عاملة كأصحاب الحِرَف والعمال والصُّناع ، لذلك قال سبحانه : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الأنعام : 165 ] . إذن : عندنا رفعةٌ للزمان ، ورفعة للمكان ، ورفعة للملائكة ، ورفعة للأنبياء ، ورفعة للمؤمنين ، ورفعة لأُولي العلم ، وأخيراً رفعة للخلائق في الأرض ، وتأمل العدالة الإلهِية في رفعة الخلائف بعضهم على بعض . فالحق سبحانه لم يَقُل لنا أيَّ بعض مرفوع وأيَّ بعض مرفوع عليه ، ليبين لنا أن كل بعض مرفوع في شيء ومرفوع عليه في شيء آخر ، إذن : لا يرفع الغني على الفقير ، ولا الجميل على القبيح ، ولا الذكي على الغبي ، إنما يُرفع كلٌّ بحسْب عمله ، كما ورد في قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13 ] . فكل الخَلْق غير ما تقدم ممَّنْ رفعهُ الله مرفوعٌ في شيء ومرفوع عليه في شيء آخر ، فالنجار الذي يصنع لي المكتب مرفوع عليَّ في هذا العمل ومُفضَّل عليَّ فيه ، لأنه يعرف هذه الصَّنعة ويتقنها وأنا لا أعرفها . فإذا ما جاء هذا العامل يسألني في مسألة كنت أنا مرفوعاً عليه فيها ، لأنني أعرفها وهو لا يعرفها ، وقلنا : إن الحق سبحانه أراد لحركة الحياة بين الخلق أنْ تُبْنى على الحاجة لا على التفضل ، فكُلٌّ منا يحتاج الآخر ولا تكتمل حركةُ حياته إلا به . ولو قامتْ حركة الحياة على التفضّل لتعطلتْ أكثر المصالح ولما استقامتْ الحياة ، وتصور أننا جميعاً تخرَّجنا في الجامعة وصرْنا علماء ، مَنْ سيؤدي لنا الأعمال الأخرى ؟ مَنْ يكنس الشارع ؟ ومَنْ يعمل في المجاري ؟ ومن يبيع في الأسواق ؟ … إلخ وهذا هو مقصود الشاعر الذي قال : @ النَّاسِ للنَّاسِ مِن بَدْوٍ وَحَاضِرَةٍ بَعْضٌ لِبَعْضٍ وإنْ لَمْ يَعْلَمُوا خَدَمُ @@ فليس منا مَنْ هو مُسخَّر فقط ، بل كل منا مُسخَّر في شيء ومُسخر له في شيء آخر ، لذلك يقول تعالى وهو يُعلِّمنا هذا الدرس : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } [ الحجرات : 11 ] . لذلك لا تنظر إلى عمل على أنه أفضل من عمل ، إنما هناك عامل أفضل من عامل ، والأفضل هو الذي يتقن عمله أكثر ، فالعامل الذي يتقن عمله في الأدنى أفضل من العامل الذي لا يتقن عمله في العمل الأعلى . لذلك قال الإمام علي كرَّم الله وجه : قيمة كل امرئ ما يُحسنه فمَنْ أراد من العلو الأفضلية فليتقن عمله مهما كان هذا العمل حقيراً - أي : في نظر البعض منا - فليس في الإسلام عمل حقير ، إنما هناك عامل حقير ، وهو المتهاون الذي لا يجيد ولا يتقن ما في يده ولا يخلص فيه . وسبق أنْ ضربنا مثلاً من فرنسا ومن مناقشات مجلس الشعب الفرنسي ، وقد كانوا يعرضون علينا بعض المواقف الحاسمة في هذه المناقشات ، منها أن نقيب العمال كان كثير المطالب لصالح العمال ، وكان يسرف في ذلك ، لكن كان الوزير المسئول عن تنفيذ هذه المطالب تحكمه ميزانية وأرقام وحسابات . ومرَّت الأيام وصار نقيب العمال هذا وزيراً للعمل ، ووقف نقيب العمال الجديد يقول له : لا أطلب منك إلا ما كنت تطلبه أنت من سابقك ، فقال : لكن تحكمني ميزانيات وحسابات ، فأراد أن يثير عاطفته نحو العمال ، أو أراد أنْ يحرجه فقال له : لا تنْسَ أنك كنتَ في يوم من الأيام ماسح أحذية ، فأخذها الوزير بصدر رَحْب وروح رياضية وردَّ عليه : نعم نعم لكنني كنتُ أجيدها . إذن : العظمة ليست في العمل إنما في إجادته . لذلك نقول : لو علم العامل المخلص في عمله والمتقن له عن غيب من صاحب العمل يعني يتقنه ويجيده لله ، لو علم هذا العامل ما أدَّاه لمواجيد الإيمان بالله لافتخر بهذا العمل على العلماء . قالوا : كيف ذلك ؟ وماذا يؤدي العامل لمواجيد الإيمان ؟ نقول : لأن كل مَنْ يرى عمله المتقن يقول : الله ، فكأن العمل المتقن يُشيع كلمة الجمال في الكون ، ويؤدي إلى ذكر الله ، وفي هذا من الثواب ما لا يَخْفى على أحد . وقوله تعالى : { ذُو ٱلْعَرْشِ } [ غافر : 15 ] يعني : الذي يملك كوناً استقر له بدون شغب عليه ، وهو المستقر في كمال قدرته وألوهيته ، والملك لا يُتاح له الجلوس والاستواء على عرشه إلا بعد أن يستتبَّ له الأمر مع الفارق بين جلوسه سبحانه واستوائه على عرشه وبين جلوس ملوك الدنيا على عروشهم ، فنحن نؤمن بهذا الجلوس دون تكييف أو تشبيه ، وما دام وجوده تعالى ليس كوجودنا فكذلك جلوسه ليس كجلوسنا ، وقلنا : إننا نأخذ هذه المسائل في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] . والحق سبحانه وتعالى استتبَّ له الأمر في الكون دون منازع ، بدليل قوله سبحانه : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . ولأنه سبحانه رفيع الدرجات ، وهو سبحانه ذو العرش أراد سبحانه أنْ يضفي من رفعته على المؤمنين به ، وأن يرفعهم على غيرهم ، وألاَّ يتركهم هَمَلاً وهمجاً بدون منهج ، لذلك أنزل عليهم رُوحاً منه سبحانه : { يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ غافر : 15 ] . فما كان سبحانه ليستعبد الخَلْق ثم يتركهم ، إنما أنزل لهم المنهج الذي يحكم حركتهم في الحياة بافعل كذا ، ولا تفعل كذا ، وهذا هو قانون الصيانة الذي يضمن للبشر الصلاح والرِّفْعة وعُلُوَّ المنزلة ، وجعل هذا المنهج اختياراً ، مَنْ شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، مَنْ شاء أطاع ومَنْ شاء عصى ، ليرى المؤمن أثر رفعة الله له في الآخرة حين يُدخِله الجنةَ دار النعيم الباقي ، حيث لا فَوْتَ للنعمة ، ولا مَوْتَ للوجود . وهذا المنهج جاءنا في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ينظم حركة حياتنا حتى تتكامل الحركات ولا تتصادم ، فحين ترى شرع الله يقيد حركتك في شيء ، فاعلم أنه قيَّد حركات الملايين من أجلك ، فحين ينهاك عن السرقة مثلاً يُقيّد حركتك وأنت فرد ويمنع يدك أنْ تمتد لما لا تملك ، وفي المقابل قيَّد ملايين الأيدي حتى لا تمتد إلى مالك أنت ، حين أمرك بغضِّ البصر وحفظ المحارم أمر الخَلْق جميعهم أنْ يغضُّوا أبصارهم عن محارمك . . إلخ فتأمل مَنِ المستفيد من تطبيق هذا المنهج ؟ وقوله : { يُلْقِي ٱلرُّوحَ } [ غافر : 15 ] الروح لها معَانٍ عدَّة . فالذي يتبادر إلى الذِّهْن أنها هي الروح التي تدبّ في المادة فتمنحها الحياة والحركة ، وهذه هي الروح التي ألقاها الخالق سبحانه في آدم فتحرَّك وأدت كل الجوارح وظائفها بعد أنْ كانت طيناً . ثم أراد سبحانه أنْ يحرس حركة المادة حتى لا تنطق في شهواتها ، فأنزل روحاً أخرى من عنده سبحانه هي المنهج القيمي في القرآن الكريم لذلك قال سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] . كيف يُحييهم وهم أحياء مخاطبين بهذا الكلام ؟ نعم هم أحياء حياةَ المادة بالروح التي دبَّتْ في أجسامهم فتحركوا بها ، إنما المراد هنا حياة أرقى من حياة المادة هي حياة القيم التي تُرقِّي حركة الإنسان وتجعلها دائماً في الخير لنفسه ولمن حَوْله ، وكما أن حياة المادة لها روح كذلك حياة القيم لها روح . لذلك سمَّى القرآنَ روحاً ، وسمَّى الذي نزل به من الملائكة رُوحاً ، فقال سبحانه : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] . وقال : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] . هذه هي حياة القيم والمثُل الرفيعة ، الحياة التي تُؤهلك لحياة أخرى باقية لا تفنى ، ولك أنْ توازن بين حياة تُؤهِّلك للدنيا الفانية وحياة تؤهلك للآخرة الباقية ، لابدَّ أنك ستجد الروح الثانية أعظم وأفضل من الأولى . ويكفي في التفريق بينهما أن الروح الأولى ، وهي روح المادة تسري في المؤمن والكافر ، وبهذه الروح يأتي كفر الكافر ومعصية العاصي ، أمَّا روح المنهج والقيم فلا تكون إلا للمؤمن ، ولا تُحرِّكه إلا في الخير حركةً سويّة تُسعده وتسعد مَنْ حوله في الدنيا قبل الآخرة . لذلك قال سبحانه : { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] ومعنى الحيوان يعني : الحياة الحقيقية الدائمة الباقية التي لا ينتهي نعيمها ولا يدركها فناء ، وإنْ كان نعيم البشر في الدنيا على قَدْر حركتهم وإمكاناتهم فنعيمهم في الآخرة على قدر المنعم سبحانه . ثم أنت تعيش في الدنيا عُرْضة للموت يهددك في كل لحظة ، وربما يهجم عليك بغتة فليس له وقتٌ ولا سِنٌّ معين ، وليس له سبب يرتبط به ، فمنا مَنْ يموت بعد عام ، ومنا مَنْ يموت بعد مائة عام ، ومنا مَنْ يموت وهو في بطن أمه ، الموت لا يفرق بين كبير أو صغير ، ولا بين مريض أو سليم . لذلك أبهمه الله ، لماذا ؟ لِنظلَّ دائماً ذاكرين له منتظرين هجمته ، فكأن الإبهام هنا هو عَيْن البيان . لذلك الحق سبحانه ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى : { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 1 - 2 ] . تأمل { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } [ الملك : 2 ] فبدأ بالموت وقدَّمه على الحياة ، وكأنه سبحانه يقول لنا : لا تستقبلوا الحياة إلا وفي أذهانكم الموت ، لماذا ؟ لأن ذكر الموت يمنع الغرور بالدنيا والركون إليها ويضبط سلوك الإنسان ، فلا يتحرك إلا في الخير لأنه دائماً يعمل حسابَ العواقب التي تنتظره . وقوله سبحانه : { عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ غافر : 15 ] يعني : على مَنْ يختاره ويصفيه لهذه المنزلة ، وهذا مثل قوله تعالى { ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ } [ الحج : 75 ] . وقوله تعالى : { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] . ثم يوضح الحق سبحانه العلة من قوله : { يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ غافر : 15 ] لماذا ؟ { لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ } [ غافر : 15 ] يعني : إياك أنْ تفهم أن المسألة تنتهي بنهاية الحياة الدنيا ، ويفلت أهل المعاصي بمعاصيهم وأهل الظلم بظلمهم لا ، إنما هناك مرجع ومردٌّ إلى هذا الإله الذي كفرت به أو الذي عصيته وتجرأت على محارمه ، تذكّر هذه الحقيقة مهما نفرت عنه بالكفر أو نَبَا جانبك عن جانب ربك ، فأنت مردود إليه رغماً عنك ، موقوفٌ بين يديه ، لا مهربَ لك منه أبداً ، ولا مفرَّ . وقلنا : إن الإنذار يعني التخويف من شرٍّ قبل أوانه لتستعدَّ له بأنْ تتجنب دواعي ما يخيف لتسلم منها ، ولا معنى للأنذار ساعة وقوع الحدث ، لابدَّ أنْ يكون قبل الحدوث بفترة كافية تمكنني من أن أتدارك الأمر وأعمل حسابي . وقوله { يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ } [ غافر : 15 ] أي : التلاقي ، والتلاقي لا ينشأ إلا عن تباعد كان موجوداً بين شيئين ، فبين أيِّ الأشياء يكون هذا التلاقي ؟ قالوا : التلاقي هنا والمراد يوم القيامة سيكون في عدة صور ، ففي الآخرة سترى الملائكة الذين آمنتَ بهم في الدنيا إيماناً غيبياً وتلتقي بهم مشهداً . وفي الآخرة سترى رحمك وأسرتك الكبيرة من لَدُنْ أبيك آدم حتى آخر ولد له في الدنيا ، ستلتقي بهم جميعاً ، وسترى هذا الرحم الذي قطعته في الدنيا ، ستتمثل لك هذه الشجرة الكبيرة متشابكة الأغصان متداخلة الفروع ، وعندها ستقول : كيف قطعتُ هذه الرحم ؟ وكيف جفوتُ هذه القربات لسبب وبدون سبب ، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " كلكم لآدم ، وآدم من تراب " . ويقول الحق سبحانه في الحديث القدسي : " أنا الرحمن ، وهذه الرحم اشتققتُ لها اسماً من اسمي ، فمَنْ وصلها وصلْتُه ، ومَنْ قطعها قطعتُه " . وسيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه دخل عليه حاجبه في يوم من الأيام وقال : يا أمير المؤمنين رجل بالباب يقول أنه أخوك ، فقال له : أَلاَ تعرف إخوتي ؟ قال : هكذا يقول الرجل ، قال أدْخِلْه ، فلما دخل على معاوية قال له : أيّ إخوتي أنت ؟ قال : أنا أخوك من آدم ، فضحك معاوية ، وقال : رحمٌ مقطوعة ، والله لأكُوننَّ أول مَنْ وصلها ، ثم قرَّبه وأعطاه ما يريد . ومن التلاقي الذي سيكون في الآخرة أنْ يلتقي المظلومُ بظالمه ، والخصمُ بمخصومه ، نعم وعند الله تجتمع الخصومُ ، وعلى العاقل أن يحسب لهذا اللقاء ألف حساب ، ومَنْ تدبَّر العواقب نجا . ومن التلاقي في الآخرة أنْ يلتقي الإنسان بصحيفة أعماله التي أحصتْ عليه كل صغيرة وكبيرة { أَحْصَاهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ } [ المجادلة : 6 ] . { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [ آل عمران : 30 ] . يوم يقول لك ربك : { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] . ثم يرتفع التلاقي إلى قمته ، فيلتقي المؤمنون بربهم عز وجل حين يتجلَّى عليهم سبحانه فيروْنَه ، وتكون هذه أعظم النعم تفضلاً من الله وكرماً واقرأ : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 25 ] . وإذا كانت رؤية الحق سبحانه هي أعظم النعم للمؤمنين فهي أشدّ ألوان العذاب للكافرين لأنهم سيُحرمون منها { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] يومها ستشتد حسرتهم وأسفهم : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] . وجد اللهَ الذي كفر به في الدنيا ، ووجد العاقبة التي طالما حذَّرناه منها وذكّرناه بها . وقوله تعالى : { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } [ غافر : 16 ] أي : في هذا اليوم يوم التلاقي يأتون بارزين علانية بعد أن كانوا مُستترين بسيئاتهم في الدنيا ، اليوم يُفتضح أمرهم ويُكشف سترهم { لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } [ غافر : 16 ] الجميع في ساحة واحدة : الملوك والسُّوقة ، السادة والعبيد ، الرؤساء والمرؤوسون ، الجميع في مقام العبودية . لذلك سينادي الحق سبحانه : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [ غافر : 16 ] يقولها الحق سبحانه لأنه تعالى كان يُملِّك بعضنا في الدنيا ، أما في الآخرة فلا مُلْك إلا لله وحده ، لذلك يجيب على هذا السؤال المؤمن والكافر ، الجميع يقولون { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] نعم لأنه إله غيره ولا ملك سواه . ومعنى { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [ غافر : 16 ] أن المُلْك لله اليوم وقبل اليوم ، فهذه الحقيقة التي أنكرها الكفار في الدنيا اعترف بها المؤمنون الذين رضوا بالله رباً ، يُؤتي الملك مَنْ يشاء ، وينزع الملْك ممَّنْ يشاء ، ويُعز من يشاء ويُذلُّ مَنْ يشاء . فكلمة { ٱلْيَوْمَ } مُوجَّهة هنا إلى الكافرين الذين أنكروا هذه الحقيقة في دنياهم ، لكنهم اعترفوا بها في الآخرة فأقرّوا { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] .