Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 17-17)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ ٱلْيَوْمَ } يعني : يوم القيامة { تُجْزَىٰ } تُحاسب { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ } [ غافر : 17 ] قلنا : إن كسب تأتي للخير واكتسب للشر ، وعلماء اللغة يقولون : إن كل زيادة في بنية الكلمة لابدَّ أن يقابلها زيادة في المعنى ، لذلك كسب غير اكتسب . كسب على وزن فعل أيْ يأتي الفعل منك طبيعياً لا تكلّف فيه ، إنما اكتسب يعني افتعل ففيه افتعال ومحاولة . فالخير لا يحتاج منك إلى تعب ، على خلاف الشر فيحتاج إلى تعب ومشقة وتلصُّص ، يقول تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] وقد أوضحنا هذه المسـألة بالرجل الذي يجلس بين أهله وفيهم جميلات زوجته وبناته وخالاته وعماته … إلخ فينظر إلى هذا الجمال دون تكلُّف ولا تحرّج ، أمّا في غير المحارم فإنه يختلس النظرة وينفعل لها ويحاول ألاَّ يراه أحد . كذلك نلحظ هذه المسألة في المرأة تحمل من حلال والأخرى من الحرام ، وكيف أن الأولى تُدِلّ بحملها وتتباهى به ، أما الأخرى فتحاول جاهدة أنْ تُخفيه وأنْ تتخلص منه ، ففرحة الأولى وحسرة الأخرى هو الفرق بين الحلال والحرام . كذلك الإنسان إذا أخذ شيئاً من بيته يأخذه علانية بلا تكلّف وبلا تخطيط ، إنما إنْ أراد أنْ يسرق من بيوت الآخرين فإنه يحتال لذلك ويخطط له ، إذن : نقول الحلال لا يُتعب صاحبه إنما الحرام هو الذي يتعب الدنيا كلها . أما في قوله تعالى : { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً … } [ البقرة : 81 ] فقد استعملت كسب هنا في الشر ، فلماذا ؟ قالوا : هذا حين تصير السيئةُ عند صاحبها إلْفاً وعادة يفعلها بلا تكلُّف وبلا مشقة على نفسه وكأنها حسنة ، فلما تعوَّد عليها صارتْ في حقه كسْباً لا اكتساباً ، وهذا الذي نسميه الفاقد أي : الذي تجرّأ على الحرام وألِفَ المعصية حتى صارتْ له عادة . ومثل ذلك في النظر في قوله تعالى : { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ } [ غافر : 19 ] إذن : هناك خائنة أعين ، وهناك أمينة أعين ، أمينة أعين حين تنظر إلى الحلال ، وخائنة أعين حين تنظر إلى المحرم . حتى في الناحية الاقتصادية التي تحكم الشعوب وبها يُقاس تقدُّم الأمم ورُقيها نقول : الحلال لا يكلِّف إنما الذي يكلف الحرام - هذا من الناحية الاقتصادية - لأن الأصل في الحلال { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ } [ الأعراف : 31 ] وفي الحديث الشريف : " نحن قوم لا نأكل حتى نجوع ، وإذا أكلنا لا نشبع " . ولو عِشْنا على هذه الأصول لكفَانا القليل ، ولك أنْ تجرب نفسك فلا تأكل إلا على جوع ، وساعتها ستجد اللقمة لذيذة ولو كانت بملح ، فكأن استقامتك على دين الله تُريحك وتسترك ولا تتعبك في حركة الحياة ، ولا تحتاج منك لمزيد من العمل ولمزيد من المال . كذلك إذا أكلنا لا نشبع ، وأنتم تروْنَ الذي يأكل حتى التخمة وحتى يحتاج إلى مهضم ، فشقَّ على نفسه وكلفها في الطعام وفي تصريف الطعام . ثم يقول سبحانه : { لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ } [ غافر : 17 ] نعم لأن الحاكم في هذا اليوم هو الله العدل المطلق ، وكأن الحق سبحانه يقول : الظلم عندكم أنتم أيها البشر ، فقد أمهلناكم في الدنيا تربعون فيها بالظلم . يظلم القوي الضعيف ، ويظلم الغني الفقير ، ويظلم الحاكم المحكومين إنما اليوم { لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ } [ غافر : 17 ] لقط وصل بكم الظلم في الدنيا إلى غايته حين أشركتم بالله . لذلك قال سبحانه : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] نعم ظلم بيِّنٌ واضح لأن الظلم معناه أنْ تأخذ حقَّ الغير لك ، أو تأخذ الحق من صاحبه وتعطيه لغير صاحبه ، وهذا هو ما حدث منكم حين أشركتم بالله فأخذتم منه سبحانه الألوهية ، وجعلتموها للأصنام . الظلم يأتي من عدة وجوه . فمن الظلم أنْ تعمل خيراً ولا تجزي به خيراً ، ومن الظلم أنْ تعمل الحسنة تستحق عليها عشرة فيعطيك خمسة ، ومن الظلم أن تعمل السيئة ولا تُحاسب عليها ، ومن الظلم ألاَّ تعمل سيئة وتُحاسب عليها . إذن : كل اختلال في موازين الملكية والنفعية من العمل تُعَد ظلماً لذلك قال تعالى في الحديث القدسي : " يا عبادي ، إني حرمتُ الظلم على نفسي فلا تظالموا " . كان هذا في الدنيا ، أما في القيامة فأنتم أمام الحاكم العادل وفي رحاب العدل المطلق الذي لا يُحابي أحداً على حساب أحد ، وليس له ولد ولا صاحبة فيميل عن الحق لأجلهما . لذلك قلنا : إن الجن كانوا أصدق استقبالاً منا حين قال : { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } [ الجن : 3 ] لأن معظم الفساد يأتي من هذين : الصاحبة والولد . وقوله سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ غافر : 17 ] إشارة إلى طلاقة قدرته تعالى في الفصل بين الناس وفي مجازاتهم على أعمالهم ، وكأنه يقول لنا : إياكم أنْ تظنوا أن موقف الحساب يشقّ علينا ، أو أنه سيأخذ وقتاً طويلاً ، لا فعندنا حسابات أخرى ليس عندنا جلسة تطول ولا جلسة تتأجل . { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ غافر : 17 ] لأن الله تعالى فعلَ فِعْله بكُنْ لا يفعل بعلاج كما تفعلون ، والدليل على ذلك أن في دنيا الناس آلاف وملايين القضاة يحكمون بين الناس بالحق في آلاف وملايين البلاد في وقت واحد في بلاد مختلفة ومحاكم مختلفة ، والحق الذي يحكمون به ليس حقاً يتنقّل بين القضاة من قاض لآخر ، إنما هو موهبة ذابتْ في نفوسهم جميعاً وصبغة صبغتْ أحكامهم جميعاً . فإذا كان المخلوق لله وهو الحق يمكنه أنْ يستولي على نفوس القضاة في مختلف الأرض في وقت واحد ، فالذي خلق هذا الحق أَوْلَى بأنْ يحكم بين الخلائق في وقت واحد . لذلك لما سُئل الإمام علي رضي الله عنه هذه المسألة : كيف يُحَاسب الناس في وقت واحد على كثرتهم ؟ قال : كما يرزقهم جميعاً في وقت واحد .