Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 55-55)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كلمة { فَٱصْبِرْ } [ غافر : 55 ] دليل على أنه صلى الله عليه وسلم خُوطب بها في مواطن شدَّة ، هذه المواطن قال الله فيها : { وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] . وقوله : { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } [ غافر : 55 ] الوعد هو : الإخبار بالخير قبل أوانه ، ووعد الله حق . يعني : متحقق لأن الوعد أنْ تعِدَ إنساناً وتُبشِّره بالخير والنعيم والسعادة ، فهل تقدر وتضمن أن تفِيَ بوعدك ؟ لا فربما تموت قبل أنْ يأتي أوانه ، أو تضعف قدرتك التي تفعل بها فلا تستطيع ، أما إذا جاء الوعد من القيوم القادر الذي لا يُعارَض ، وهو سبحانه بَاقٍ لا يزول ، فهو إذن وعد حَقٌّ لا بدَّ أنْ يتحقق . لذلك يُعلمنا الحق سبحانه ألاَّ نجزم بوعد ، ولا تقوله بصورة القطع لأنك من الأغيار ، يقول تعالى : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الكهف : 23 - 24 ] . فتعليق الوفاء على المشيئة يعفيك من الاتهام بالكذب لو لم تفعل فلو قلت أفعل كذا وكذا غداً ، هل تملك أسباب الوفاء ؟ هل تملك الزمن أو تضمن القوة الفاعلة ؟ أبداً لا تضمن بقاء شيء من هذه الأسباب ، إذن فَقُلْ : إنْ شاء الله ونزِّه نفسك عن الكذب لو لم تفعل . وقوله : { وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] يعني : اطلب المغفرة ، وكلمة { لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] هل تعني أن الرسول فعل ذنباً ؟ قالوا : رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يُوحَى إليه ، وله رأي ببشريته في الأمور التي لم يأتِ فيها حكم من الله ، حتى إنْ كان رأيُه صواباً فرأى الحق سبحانه أصوب . لذلك يصوب له ربه { وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] فمن أيِّ شيء يستغفر رسول الله ؟ يستغفر الله من استبطاء النصر في قوله تعالى : { حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 214 ] فالنصر آتٍ ، فلم استبطاؤه ؟ لذلك وردتْ في القرآن آيات تثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل شيئاً يُعاتَب عليه ، والحق سبحانه صحَّح له وصوَّب له فعله ، لكن كيف جاء هذا العتاب ؟ تأمل قوله تعالى : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] فقبل أن يعاتبه قدَّم العفو عنه . لكن لماذا أذن الرسول لهؤلاء ؟ قالوا : إن الذي شغل رسول الله في هذه المسألة أنه قال في نفسه أن الذي يطلب الإذن مني في ألاَّ يقاتل إما صادق العذر فلا مانع من الإذن له ، وإما كاذب العذر وهذا لا خيرَ فيه ، وعدمه أفضل من وجوده بين الصفوف ، كما قال تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ } [ التوبة : 47 ] . ثم إن هذا العتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] لم نعلمه إلا من رسول الله نفسه ، ولولا إخباره به ما علمناه ، فهو صلى الله عليه وسلم لا يستنكف أنْ يعاتبه ربه ، وأنْ يُصوِّب له اختياره . وقد أوضحنا هذه النقطة في مسألة التبني التي كانت بين سيدنا رسول الله وزيد بن حارثة ، وكيف أن الحق سبحانه لما أراد إبطالَ عادة التبني جعل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة نموذجاً لهذا الحكم الجديد . فزيد كان عبداً عند خديجة ووهبته لرسول الله ، ولما علم أهله بوجوده بمكة عند رسول الله جاءوا واستأذنوا فيه رسول الله ، فما كان من رسول الله إلا أنْ خيَّره بين البقاء معه أو الذهاب مع أهله ، فاختار زيدٌ البقاءَ مع رسول الله ، فأراد صلى الله عليه وسلم أنْ يكرم زيداً لموقفه منه وحُبه للبقاء في صحبته فتبنّاه ونسبه إليه ، فصار زيد من يومها يُعرف بزيد بن محمد . لكن أراد الحق سبحانه أنْ يبطل هذه العادة ، وأنْ يُحرّم التبني فأنزل : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } [ الأحزاب : 5 ] . فمعنى { أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 5 ] أن ما فعله رسول الله قسط وعدل ، لكن حكم الله أقسط وأعدل ، فهل هذا التصويب يُغضب رسول الله ؟ أبداً بدليل أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أخبرنا به ولو كتمه رسول الله ما عرفناه . كذلك في قوله تعالى في أسرى بدر : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } [ الأنفال : 67 ] لما اختلفوا في أخذ الفداء من الأسرى ، وعاتب الله رسوله بهذه الآية ، لكن هل تغير الحكم بعد ذلك ؟ لا بل ظل كما هو وقال تعالى : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 68 ] . فكأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينكر هذه المسألة ، خاصة وأن الحكم كما هو لم يتغير ، إذن : نحن لم نعلم معتبة الله على رسوله إلا من الرسول نفسه ، والمتأمل في عتاب الحق سبحانه لرسوله يجد أنه إما عتاب لمصلحته هو صلى الله عليه وسلم ، أو عتاب لأن جانبَ الصواب الذي حكم به الحق سبحانه ، كما في هذه المسألة التي ذكرناها . أما العتاب لمصلحته صلى الله عليه وسلم فمثل قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } [ التحريم : 1 ] وهذا كما تعاتب ولدك على كثرة سهره في المذاكرة وإجهاده لنفسه ، كذلك الحق سبحانه يعاتب رسوله أنه ضيَّق على نفسه وشقَّ عليها طلباً لمرضاة أزواجه . كذلك عاتبه في مسألة الأعمى فقال : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ * أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ * وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ } [ عبس : 1 - 10 ] . والعتاب هنا لأنه صلى الله عليه وسلم شقَّ على نفسه حين ترك هذا الأعمى وانصرف عنه لأنه مؤمن ، وذهب إلى صناديد الكفر يدعوهم ، ورأى أنهم أوْلَى بالدعوة منه . بعض العلماء أخذوا من قوله تعالى { وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] دليلاً على عدم عصمة الأنبياء ، وقالوا آخرون : إن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال في دعائه : " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك " . والبعض له في الآية ملحظ آخر قال : { وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] لا تدل على وقوع الذنب منه بالفعل ، والمعنى : إنْ فعلتَ ذنباً . أي في المستقبل استغفر ، مثل قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ } [ الأحزاب : 1 ] فهل معنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ يتقي الله ؟ لا بل هو أمر ابتدائي بالتقوى . ولا يعني أنه صلى الله عليه وسلم خالف منهجه فأمره الله بتقواه ، كما نرى نحن الآن مخالفاً لمنهج الله فنقول له : يا فلان اتق الله ، يعني : استقم على منهجه ، واترك المخالفة ، واجعل بينك وبين الله وقاية . لذلك قال : الأمر في : { وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] أمر تعبُّدي ، كما جاء في قوله سبحانه : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } [ آل عمران : 194 ] الأمر هنا أمر تعبُّدي لأننا نقول آتنا ، وهو سبحانه قد وعد رسله بذلك ، فهو أمر متحقق واقع . ثم نقول للذين يقولون بوقوع الذنب من الرسل : هل خلعهم الله من الرسالة لأنهم ارتكبوا الذنب ؟ أم تركهم رسلاً ؟ بل تركهم وأبقى على رسالاتهم ، إذن : ما قولك أنت إذا كان ما فعله الرسولُ لا ينافي رسالته ، وهو مرضيٌّ عند مَنْ خالفه وأذنب في حقه ؟ وقوله : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ } [ غافر : 55 ] العشي : الوقت من بعد صلاة الظهر إلى آخر النهار ، والإبكار من الفجر إلى الضحى ، فالمعنى : كُنْ دائماً مُسبِّحاً بحمد ربك . وإذا كان الأمر هنا للرسول صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه من المؤمنين الذين اشتركوا معه في العشيِّ والإبكار ، فهو من ناحية أخرى أمرٌ للناس كافَّة في الزمان وفي المكان لعموم رسالته صلى الله عليه وسلم . إذن : فالعشيُّ والإبكار هنا شائع في الزمان كله والمكان كله ، فكلٌّ له عشيٌّ وإبكار يناسب زمانه ومكانه ، وهذا يعني أنْ يظلَّ تسبيحُ الله شائعاً في الزمان والمكان مستمراً لا ينقطع أبداً ، هذا إذا نظرنا إلى اختلاف الأوقات من مكان لمكان . لذلك قلنا : إن رَبْط التكاليف والعبادات بدورة الهلال يُراد بها استدامة دورة العبادة لله تعالى ، فلو كانت مرتبطة بالشمس كانت تتحد الأوقات عند الناس ، إنما بحساب الهلال ترى أن هذا يصلي الصبح ، في نفس الوقت الذي يصلي فيه آخرُ الظهر ، وآخرُ العصرَ ، وآخر المغرب ، وهكذا ، إذن : فالحق سبحانه معبود في كلِّ وقت بكل وقت . ومعنى { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } [ غافر : 55 ] يعني : تسبيحاً موصولاً بالحمد ، لأن التسبيحَ تنزيهٌ لله تعالى ، وما دام الحق مُنزَّهاً عن كل النقائص فثمرة هذا التنزيه عائدة عليك أنت ، أنت المستفيد من كوْن ربك الذي آمنت به واحداً مُنزَّهاً عن النقائص .