Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 56-56)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الجدل : هو المراء والأخذ والردّ ، مأخوذ من جَدْل الحبل وفَتْله ، والفتْل عملية تتماسك فيها الخيوط ، وتتداخل بعضها في بعض بعد أنْ كانت هشَّة متفرقة ، فالجَدْل يحمل معنى التقوية ، تقوية الرأي بالرأي . والجدل منه جدل بنَّاء يهدف للوصول إلى الحق ، وجدل مِراء لا فائدةَ منه ، جدل الحق جدل بسلطان يعني : حجة وبرهان ، وجدل المِرَاء بالباطل . يعني : بدون سلطان ولا حجة ، والسلطان إما أن يكون سلطانَ قهر يحملك ويُرغمك ويقهرك على الشيء ، وإما سلطان حجة وإقناع ، سلطان القهر يجعلك تفعل وأنت كاره مُجبر ، وسلطان الإقناع والحجة يجعلك تفعل وأنت رَاضٍ مقتنع . لذلك قال عدو الله إبليس : { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] . يعني : لم يكن عندي سلطان قهر أقهركم به على المعصية ، ولا سلطان حُجة وإقناع أقنعكم به . لذلك قلنا في آية السجود لآدم أن الحق سبحانه قال مرة { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ ص : 75 ] وفي موضع آخر قال : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] فواحدة بالإثبات والأخرى بالنفي ، كيف ؟ يعني : هل جئتَ لتسجد فجاءت قوةٌ منعتك من السجود ؟ أم قوةٌ أقنعتك بعدم السجود فلم تسجد وأنت رَاضٍ مُقتنع بذلك ؟ ومعنى { فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ } [ غافر : 56 ] قلنا : إنها على ثلاثة أقسام : آيات كونية لإثبات الوجود الأعلى وقدرته وبديع صنعه ، ومن هذه الآيات الكونية الشمس والقمر والنجوم والأرض والهواء والماء … إلخ . الثانية : هي المعجزات التي يجعلها الله للرسل لإثبات صدق الرسول في البلاغ عن الله . والثالثة : هي آيات القرآن الكريم التي تحمل أحكام الله إلى الناس ، وتحمل منهج الله بافعل ولا تفعل . ففي أيِّ هذه الأنواع يجادلون ؟ قالوا : يجادلون في المعجزات ، وفي آيات الأحكام ، أما الآيات الكونية فليستْ مجالاً للجدل . وقوله : { بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } [ غافر : 56 ] هل يعني هذا أن هناك جدلاً في آيات الله بسلطان ؟ قالوا : بل المعنى أنه ممتنع أي : ليس في آيات الله جدل ، المسألة { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ } [ غافر : 56 ] هذا هو السبب ، ومصدر الجدل في آيات الله ، كِبْر في صدورهم يمنعهم من قبول الحق ، ويمنعهم أنْ ينقادوا لرجل منهم ربما ظنوا أنهم أفضل منه . لذلك في بعض الآيات يوضح الحق سبحانه أنهم يؤمنون بالقرآن ، لكن اعتراضهم هو على رسول الله كشخص جاء بالرسالة ، وهو واحد من عامة القوم ليس بأعظمهم ولا أغناهم ، يقول تعالى يحكي على لسان الكفار : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . وفي موضع آخر ينكرون الجميع ويقولون : { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] وكان المنطق أن يقولوا : فاهدنا إليه . وهذا القول منهم دليلٌ على أنهم كارهون للدين جملة ، لأن قلوبهم مشغولةٌ بقضية مخالفة هي شركهم بالله وعبادتهم الأصنام ، هذه العبادة التي شبُّوا عليها وتوارثوها ، وإذا شُغِل الإنسان بالباطل لا يمكن أن يهدي للحق إلا إذا أخرجتَ القضية الباطلة من قلبه أولاً ، عندها يسمح للحق أنْ يدخل . لذلك يوضح لنا الحق سبحانه أن مسألة العقائد لا تُناقش في جمهرة الناس ، إنما تتأملها بينك وبين نفسك ، وإنْ كان لا بدَّ من المشاركة ، فواحد فقط ، لماذا ؟ لأنك حين تجلس بمفردك أو مع شخص واحد معك يثمر النقاش ولا تتسع دائرة الخلاف ، فيكون أدْعَى للوصول إلى الصواب ، وإذا انهزم واحدٌ منكما فلن ينهزم أمام جمهرة الناس ، وساعتها لن يكابر ولن يعاند وسيعود إلى الحق ويرجع إليه دون حرج . لذلك يقول سبحانه : { إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } [ سبأ : 46 ] يعني : لا تبحثوا مسائل العقيدة جماهيرياً لأن الجماهير لا ضابط لها ، وتفكيرها الجماعي يؤدي إلى الخَلْط والغوغائية ، فكُنْ بمفردك حتى لا يداخلك هَوَىً فتميل معه . والكبر في قوله تعالى : { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ } [ غافر : 56 ] إنْ بمعنى ما في صدورهم إلا كِبْر . يعني : تَعَالٍ على الحق الذي يأتي به الرسول ، هذا الكبر أو التكبر هو الذي منعهم من الاستماع للرسول ، وجعلهم يتعالوْنَ عليه ، ذلك لأنهم كانوا في مجتمعهم سادةً ، واستماعهم لرسول الله وطاعتهم له سيجعلهم مسُودين لمن يسمعون منه ويطيعونه . ومعلوم أن قريشاً كان لها السيادة على كافة العرب ، هذه السيادة جعلتهم متمكنين من رحلاتهم التجارية بالشتاء والصيف ، وينتقلون بها دون أنْ يتعرَّض لهم أحد ، لماذا ؟ لأن قبائل العرب جميعها تأتي إلى قريش في مكة موسم الحج ، ويكونون في ضيافة قريش ورعايتها وفي باطنها ، فالبيت الحرام وحجه هو الذي أعطى قريشاً هذه المكانة وهذه المهابة لذلك قال سبحانه : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 1 - 4 ] . وقال سبحانه : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ … } [ العنكبوت : 67 ] . والدليل على ذلك أنهم لما رأوا في الأصنام آلهةً لا أوامرَ لها ولا تكاليفَ رَضُوا بها وعبدوها من دون الله ، ومع ذلك لما أرادوا مكاناً يكرمون به هذه الآلهة لم يجدوا إلا الكعبة يضعون أصنامهم حولها ، إذن : فالكعبة لها قداسة عندهم رغم كفرهم بالله . هذا هو الكبْر الذي منعهم من قبول الحق ، وهذا الكبر وصفه الله بقوله { مَّـا هُم بِبَالِغِيهِ } [ غافر : 56 ] يعني : ليس عندهم دواعي الكبر ، فهو كِبْر كاذب لأن الذي يتكبَّر ينبغي أن يتكبر بشيء ذاتي فيه لا بشيء عارض ربما يُسلب منه ، فهو كبر كاذب كمَنْ يتكبّر بقوته وعافيته أو بماله أو بسلطانه . وقوله تعالى : { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [ غافر : 56 ] لأن الاستعاذة بالله تعني أن شيئاً جاء فوق أسبابك المادية فلا تقفْ أمامه مكتوفَ الأيدي ، إنما توجَّه إلى ربك الذي أرسلك وقُلْ له : إن هذا الأمر أعجزني وفاقَ طاقتي فاحمله عني ، لذلك قال سبحانه : { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] . فإذا عزَّتْ الأسباب فتوجَّه إلى المسبِّب { إِنَّـهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [ غافر : 56 ] هذان من صفات الكمال المطلق لله تعالى السمع والبصر لأن كل حركات جوارح الإنسان عملٌ ، فاللسان له عمل ، واليد لها عمل ، والرِّجْل لها عمل . وهذا العمل ينقسم إلى قسمين : إما قول أو فعل ، القول أخذ وحده شطر العمل وهو عمل اللسان ، وباقي الجوارح عملها يُسمى فعل . لذلك قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] فذكر القول والفعل ، وكله يُسمَّى عملاً ، فالسمع لما يُقال ، والبصر لما يُفعل ، فالحق سبحانه يُبيِّن لرسوله صلى الله عليه وسلم منزلة الاستعاذة { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [ غافر : 56 ] لأنه سميع لكل ما يُقال ، بصير بكلِّ ما يُفعل .