Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 41, Ayat: 10-11)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

تكلم الحق سبحانه عن خَلْق الأرض ، وأخبر أنه خلقها في يومين ، فهل معنى هذا أن خَلْق الأرض استغرق مُدَّة يومين بيومنا نحن ؟ لا ، إياك أنْ تظنَّ أن خَلْق الأرض استغرق يومين ، أو أنه كان معالجة تحتاج إلى وقت . فالمسألة كما تقول مثلاً : أريد أنْ أصنع الزبادي عندي في البيت ، فأقول لك : هات اللبن وضَعْ عليه المادة المعروفة لعمل الزبادي ، ثم اتركه في درجة حرارة معينة بمدة معينة ، وبعدها يصير اللبن زبادي بعد عدة ساعات مثلاً ، فهل يعني هذا أن صناعة الزبادي استغرقتْ منك عدة ساعات ؟ لا بل دقائق أعددتَ فيها المادة وتركتها تتفاعل لتصبح زبادي . مثلاً حين تذهب للخياط ليخيط لك ثوباً ، يقول لك : تعالَ خُذْه بعد أسبوع ، فهل استغرق الثوب في يده أسبوعاً ؟ كذلك مسألة الخَلْق هذه . وبعد أنْ خلق اللهُ الأرض جعل فيها الرواسي ، وهي الجبال الراسية الثابتة المستقرة ، والتي بها تستقر الأرض ، كما قال سبحانه : { وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } [ النبأ : 7 ] ولو أن الأرضَ مستقرةٌ بطبيعتها ما احتاجتْ إلى الجبال ، إذن : دلَّتْ الرواسي على أن الأرض تدور ، فهذا دليل على دوران الأرض . { وَبَارَكَ فِيهَا … } [ فصلت : 10 ] قلنا : البركة أنَّ الشيء يعطي من الخير فوق مظنَّة حجمه وفوق المنتظر منه ، كأن تجدَ الطعام مثلاً الذي تظنه يكفي خمسة يكفي لعشرة فتقول : فيه بركة . وقوله { وَبَارَكَ فِيهَا … } [ فصلت : 10 ] في أي شيء ؟ في الأرض حيثُ ذُكِرت أولاً ؟ أم في الجبال وهي آخر مذكور ؟ قالوا { وَبَارَكَ فِيهَا … } [ فصلت : 10 ] أي : في الرواسي { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا … } [ فصلت : 10 ] أي : في الجبال أيضاً . وقد أثبت الواقع ذلك ، وأثبت العلم أن الجبال هي مصدر الخير لباقي الأرض ، ومنها عناصر الخصوبة والغذاء الذي لا بدَّ منه لبقاء حياة الكائن الحي ، ومعلوم أن العناصر في التربة تنقص وتحتاج إلى مَدَد وتجدُّد من حين لآخر . وهذا ما يحدث فعلاً ، حين يسقط المطر على الجبال فيفتت قشرتها ، ويحمل السيل هذا الفتات ويسير به ليوزعه على الأرض المسطحة المنزرعة ، كما في طمي النيل زمان وقبل بناء السد العالي ، هذا الطمي من أين جاء ؟ من منابع النيل في أعلى الجبال . وكنا نرى ماء النيل مثل الطحينة ، ويظل كذلك إلى المصبِّ في البحر المتوسط ، ومن هذا الطمي نشأت الدلتا ، فالبحر كان يمتد حتى دمياط ، والآن انظر لما بين دمياط ورأس البر مثلاً . كذلك الحال في الوديان حول الجبال ، حيث تؤثر عوامل التعرية في القشرة الخارجية من الجبال ، ويجرفها السيل إلى الوديان ، فتجدد التربة وتزداد خصوبتها ، فكأن الجبال بالفعل مخازن قوت البشر ، لذلك قال عنها { وَبَارَكَ فِيهَا … } [ فصلت : 10 ] . وتأمل أيضاً الحكمة والهندسة الكونية العالية ، فالجبل قاعدته أسفل وقمته أعلى على عكس الوادي بين الجبلين ، فرأس المثلث فيه إلى أسفل وقاعدته إلى أعلى ، وكلّ عام يأتي المطر ليأخذ من قمة الجبل ويعطي لقاعدة الوادي ، وكأنه تجدد واتساع للوادي يناسب الزيادة البشرية . فالله تعالى يعطي من نعمه على قدر الزيادة التي تخيفنا الآن ، يعني : اطمئنْ فالرزق عند الله مضمون لذلك قال بعدها { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا … } [ فصلت : 10 ] . هذه المراحل : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا … } [ فصلت : 10 ] جاءت في { أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ … } [ فصلت : 10 ] هذه الأربعة أيام { سَوَآءً … } [ فصلت : 10 ] أي : أيام متساوية { لِّلسَّآئِلِينَ } [ فصلت : 10 ] أي : الطالبين للرزق . أو { فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ … } [ فصلت : 10 ] يعني : في تتمة أربعة أيام { سَوَآءً … } [ فصلت : 10 ] أي : استوت وتمتْ . وحين نضيف هذه الأربعة أيام ، إلى اليومين السابقين تعطينا ستة أيام هي مجمل خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، كما قال سبحانه في موضع آخر : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ … } [ الأعراف : 54 ] . بعد ذلك يتكلم سبحانه عن خَلْق السماوات على وجه التفصيل ، فيقول : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . كلمة { ٱسْتَوَىٰ … } [ فصلت : 11 ] عملت معارك بين العلماء ، ولما حصرنا مادة استوى في القرآن الكريم وجدنا أنها وردتْ اثنتا عشرة مرة ، سبعة منها في الاستواء على العرش واثنتان للسماء وللأرض ، هذه الآية التي معنا { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ … } [ فصلت : 11 ] وواحدة في البقرة : { فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ … } [ البقرة : 29 ] . هذه تسعة ، ويبقى ثلاثة مواضع ، واحد خاص بالوحي في قوله تعالى عن جبريل : { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } [ النجم : 6 ] يعني : بلغ مداه . وواحدة في موسى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } [ القصص : 14 ] يعني : بلغ سنِّ الرشد . وواحدة في التمثيل لهذه الأمة في الإنجيل ، قال تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ … } [ الفتح : 29 ] . هذه صورة أمة محمد في التوراة ، فهم قوم أشدَّاء على الكفار رحماءُ على المؤمنين ، وهم رُكَّع سُجَّد لهم سيمة وعلامة يُعرفون بها ، وهذه كلها قِيَمٌ معنوية لم يأتِ فيها شيء مادي ، ذلك لأن اليهود كانوا يؤمنون بالماديات ، حتى أنهم أرادوا أنْ يخلعوا الماديات على الخالق الأعلى ، لذلك قالوا لموسى عليه السلام : { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً … } [ النساء : 153 ] . أما مثلُهم في الإنجيل فلم يأتِ بقيم ولا روحانيات ، إنما جعله مثلاً مادياً بحتاً ، لماذا ؟ لأن المسيحية كلها مواجيدُ دينية روحية ، ليس فيها شيء من مادة الأرض ، لذلك سُئل سيدنا عيسى عن مسألة ميراث . فقال : لم أُرسَل مُورِّثاً . لذلك جاء مثل أمة محمد عنده مثلاً مادياً ، فالمثل عند اليهود جاء روحانياً لأنها مفقودةٌ عند اليهود ، وجاء مادياً لأن المادية مفقودة عند النصارى ، فقال : { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ … } [ الفتح : 29 ] هذا مثَلٌ مادي صِرْف ، فالمثل المادي مفقود في المسيحية ، والعنصر الروحي مفقود فيما اتخذه اليهود ، فجاء الإسلام ليجمع بين العنصرين معاً في دين واحد . هذه اثنتا عشرة موضعاً ذُكرتْ فيها مادة الاستواء ، وكان الخلاف بين العلماء في المواضع السبعة التي تتكلم عن الاستواء على العرش ، وهذه المواضع السبع في سبع سور جمعها الناظم في قوله : @ فَفِي سُورَةِ الأعْرَافِ ثمَّةَ يُونُسٌ وَفِي الرعْدِ مَعْ طَهَ فَللعدِّ أكِّدْ وَفِي سُورَةِ الفُرْقان ثُمةَ سَجدةٌ كَذَا فِي الحدِيدِ فَافهَمُوا فَهْمَ مُؤيِّد @@ كلمة { ٱسْتَوَىٰ … } [ فصلت : 11 ] إنْ كانت للعرش يقول : استوى على ، وإنْ كانت للسماء قال : استوى إلى ، البعض فَهِمَ استوى على أنه كاستواء المخلوق على الكرسي فوقعوا في التشبيه والتجسيم ، أما استوى إلى السماء يعنيك قصدها وتوجَّه إليها بإرادته سبحانه . ذلك لأن العرش في الموجودات سمة التمكُّن من الحكم واستتباب الأمر للحاكم ، فالحاكم إنْ كان عليه مشاغبات لا يستقر على العرش ولا يستتب له أمر الملْك إلا إذا دَانَ له الجميع وخضعوا . لذلك قال في بلقيس : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ] يعني : استتبَّ لها الأمر ، فكلمة استوى على العرش دلتْ على أن الكون كله استجاب له وانقاد لأمره دون منازع لذلك قال هنا عن السماء والأرض { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . وللعلماء في الاستواء عدة مقالات جمعها الناظم في قوله : @ وَلَهُمْ مَقالاَتٌ عَليْهَا أرْبَع قَدْ حُصِّلَتْ للفَارسِ الطّعَّانْ وَهْيَ اسْتَقرَّ وَقَدْ عَلاَ وكَذاكَ قَدْ صَعَد الذِي هُوَ رابِعْ @@ فالمعنى هنا { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ … } [ فصلت : 11 ] أي : قصدها وتوجَّه إليها بإرادته تعالى ، واستوى على العرش يعني : استقر له الأمر واستتبَّ ، لأن كل الوجود استجاب له وانقاد ، فلما قال للأرض وللسماء : { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . لذلك قلنا : إن الحق سبحانه لم يُقبل على قوله كَنْ إلا لعلمه تعالى أن شيئاً من مُلْكه لن يتخلف عن الاستجابة لأمره لذلك قال { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 2 ] يعني : فقط تسمع النداء فتستجيب فوراً ، لذلك شهد الله لذاته بذلك : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ … } [ آل عمران : 18 ] وبشهادته سبحانه لنفسه أنه لا إله إلا هو قال لكل شيء : كُنْ فكان . وبعد ذلك شهدتْ الملائكة ، وشهد أولو العلم . وقوله : { وَهِيَ دُخَانٌ … } [ فصلت : 11 ] أي : على هيئة الدخان الذي يسميه العلماء السَّديم ، والمراد أن الكون كان على هيئة غازية ، ومن هذه المادة الغازية تكوَّنت الأرض والصخور والجبال . وبعد أنْ تكوَّنتْ السماء والأرض أمرهما الخالق سبحانه { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً . . } [ فصلت : 11 ] فكان الردّ { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . وهذا الرد دَلَّ على سرعة الاستجابة للأمر ، وعلى انقياد الكون كُلِّه لخالقه تعالى { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] وهل نملك المخالفة ، ولماذا نأتي كارهين ؟ هذا يعطيك دليلاً على انقياد الكون لله ، لأنه ليس له هَوًى في نفسه يُغير الموقف { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] . أما الإنسان فكلٌّ له هَوًى ، لذلك جاء في الحديث الشريف : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعٌ لما جئتُ به " وما دام سيكون هواك تبعاً لما جاء به النبي ، وأنا هواي تبعٌ لما جاء به النبي ، فالهوى إذن واحد { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ … } [ المؤمنون : 71 ] . { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] هذا كلام السماء والأرض ، وكان القياس أنْ يقول : طائعينِ بالمثنى إنما قال { طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] بصيغة الجمع . والسماء والأرض مؤنَّث ، فكان القياس أنْ يقول : طائعات . إذن : خالف في أمرين ، لماذا ؟ قالوا : لأن الشيء يكون مفرداً لكنه تحته . فإذا نظرتَ إلى المفرد جئتَ بالمفرد ، وإذا نظرتَ إلى ما تحته جئتَ بالجمع . قال تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا … } [ الحجرات : 9 ] فلم يقل : اقتتلتا بالمثنى المؤنث ، إنما { ٱقْتَتَلُواْ … } [ الحجرات : 9 ] لأن أمر القتال راجعٌ إلى رؤساء كل طائفة ، هم الذين يقررون القتال أو عدم القتال ، وساعةَ القتال لا يمسك كل فريق بسيف واحد يقاتل به الفريق الآخر ، إنما يمسك كلُّ فرد بسيفه . فالطائفة هنا مفرد تحته جمع ، فقال في القتال { ٱقْتَتَلُواْ … } [ الحجرات : 9 ] لكن عند الصلح قال : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا … } [ الحجرات : 9 ] لأن أمر الصلح لا يكون مع أفراد الجيش ، إنما يكون مع القادة لكل طائفة الذين يُصرِّفون الأمر حرباً أو سِلْماً .