Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 41, Ayat: 37-37)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ … } [ فصلت : 37 ] من هنا تفيد التبعيض يعني : هذه بعضُ آياته تعالى في الكون ، وإلا فآيات الله في كونه كثيرة لا تتناهى ، والآية هي الشيء العجيب في تكوينه وخَلْقه الدالّ على قدرة الله وحكمته وبديع صُنْعه . { ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ … } [ فصلت : 37 ] آيتان من آيات الله الكونية ، والليل والنهار يكونان معاً اليوم الذي نعرفه ، وهو من الوقت إلى مثله ، قال تعالى : { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً … } [ الحاقة : 7 ] . هذه الآيات الكونية المذكورة هنا { ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ … } [ فصلت : 37 ] أخذتْ حظاً واسعاً في موكب الرسالات وفي العقائد ، ففي قصة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وهو يبحث عن الحق والحقيقة لما نظر في الكون من حوله ، فرأى كوكباً قال : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ * فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ * فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 76 - 78 ] . إذن : فالشمس والقمر مرتبطان بالليل والنهار لهما مدخل في العقيدة ، هذا المدخل في العقيدة ينتقل من قسم العقيدة وهي الإيمان بالإله الواحد إلى شيء آخر ، هذا الشيء جُعل دليلاً إيمانياً على أمر شكَّ العربُ فيه لما نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم كانت دليلاً على عدم انقطاع الوحي عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . تعلمون قصة نزول الوحي على سيدنا رسول الله لأول مرة في غار حراء ، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يعاني ويتعب من لقاء الملَكِ لاختلاف الطبيعة الملائكية عن الطبيعة البشرية ، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى أهله يقول مرة : زمِّلوني زمِّلوني ، ومرة : دثِّروني دثِّروني لما كان يحدث في طبيعته صلى الله عليه وسلم من تغيير ، لذلك كان الوحي في بدايته ثقيلاً على رسول الله ، وقد قال تعالى : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] . وروى الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم كان يتفصَّد جبينه عرقاً لما ينزل عليه الملَك ، والصحابي الذي كان يجلس بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم يسند فَخِذَه عليه ، وكان يجد ثِقَلاً لا يطيقه حينما ينزل الوحي على رسول الله . لذلك أراد الحق سبحانه أن يخفف عن رسوله صلى الله عليه وسلم هذه المعاناة ، فانقطع الوحي لمدة ستة أشهر ، ليستريح رسول الله وتذهب عنه متاعب التلقِّي الأولى ، وليشتاق إلى لقاء الملَكْ من جديد ، وإلى كلام الله الذي انقطع عنه ، ولا شكَّ أن هذا الشوق سيعطيه طاقةَ لتحمُّل أمر الوحي والدعوة بعد ذلك . رأى كفار مكة في انقطاع الوحي عن رسول الله مأخذاً ، فقالوا : إن ربَّ محمد قلاه يعني : تركه وهجره ، وهم لا يعلمون أن فتور الوحي ليس هَجْراً ، إنما هو وداع الحبيب لحبيبه إلى لقاء آخر أعظم وأطول ، ولذلك أنزل الله تعالى : { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [ الضحى : 1 - 3 ] . هذا هو موضع الشاهد ، أن الحق سبحانه أقسم لهم بالضحى وهو النهار ، وبالليل إذا حَلَّ بظلامه ، وجعل من هاتين الآيتين الكونيتين دليلاً على أن الوحي ما انقطع ، إنما أراد الله لرسوله أن يرتاح من تعبه ، وأنْ يعاود نشاطه لتلقّي الوحي من جديد ، كما أنكم تتعبون في النهار وترتاحون في الليل . { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [ الضحى : 1 - 3 ] ومعروف ان الضحى للشمس والليل للقمر ، إذن : ففترة الوحي عن رسول الله يُراد بها التخفيف عنه ، كما قال سبحانه : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ } [ الشرح : 1 - 3 ] . والمراد : نشرح صدرك لنزول القرآن عليك فتشتاق إليه ، ويكون عندك طاقة لاستقباله ، فكأن القرآن أخذهم من الآيات الكونية المحسوسة إلى المعنويات ، وجعل ما يرونه دليلاً على ما ينكرونه ، يعني : إذا كنتم في حركة حياتكم اليومية تحتاجون لليل تسكنون فيه وترتاحون من عناء النهار ، فكذلك رسول الله يحتاج إلى هذه الفترة ليرتاح فيها من عناء وثِقَل الوحي في بدايته ، ليجدد نشاطه ويشتاق إلى لقاء الملَكِ من جديد . لذلك قال تعالى بعدها { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } [ الضحى : 4 ] فمعاودة الوحي ستكون أعظمَ من الأولى وخير منها ، لأن المعاودة ستكون أطولَ وأقوى . وكما دخلتْ هذه الآيات الكونية التي هي الليل والنهار والشمس والقمر في العقيدة في قصة سيدنا إبراهيم وفي الوحي المنزَّل على سيدنا رسول الله ، كذلك دخلتْ في حَلِّ بعض الإشكالات في قضايا اجتماعية اهتم الإسلام بها ، وهي قضية المساواة بين الرجل والمرأة . وهذه قضية كَثُر الجدل فيها ، وأخذها المغرضون ذريعة للهجوم على الإسلام ، مع أن الإسلام أعظم دين أنصف المرأة وأعطاها حقوقها ، وألزم المجتمع باحترامها ، الإسلام ينظر إلى الرجل والمرأة على أنهما نوعان من جنس واحد يعني : هما في الأصل شيء واحد . إذن : لا بدَّ أنْ يكون بينهما قدر مشترك ولما انقسما إلى قسمين ذكر وأنثى ، صار بينها قدر غير مشترك ، وصار لكل منهما مهمته في حركة الحياة ، ولكي يوضح لنا السياق القرآني هذه المسألة قال تبارك وتعالى : { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ * وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [ الليل : 1 - 4 ] فكما أن الليل والنهار متكاملان متعاونان غير متعاندين ، وكما أن لكل منهما مهمته في الحياة ، هذا للعمل وهذا للراحة ، فكذلك حال الرجل والمرأة ، عنصران لشيء واحد ، وهما يتكاملان ويتعاونان لا يتعاندان كالليل والنهار ، فحين تنظرون إلى الرجل والمرأة لا تنظروا إليهما على أنهما نوعان مختلفان في الجنس قد يكون بينهما تعاند ، لأنهما من جنس واحد ، والجنس الواحد لا يُصادم بعضه بعضاً ، الجنس الواحد رسالتُه واحدة ، الكلّ يتعاون في حملها كُلٌّ بما يناسبه وبما خلقه الله له ، وبما أعطاه من قدرات وإمكانيات . وهذه قضية اختلفوا فيها ، خاصة الملاحدة الذين نظروا إلى الجنس ، ولم ينظروا إلى ما تحته من الذكر والأنثى ، فرغم الاختلاف بين النوعين إلا أنهم أرادوا أن يكون لهما مهمة واحدة لا اختلاف بين الذكر والأنثى . لذلك الحق سبحانه يعطينا هذا المثل التوضيحي : الليل والنهار ، وهل مهمة الليل كمهمة النهار ؟ لكلٍّ مهمته وطبيعته ، ومَنْ يعاند هذه الطبيعة يتعب في حركة حياته . كذلك جُعِل الرجلُ للعمل وللقوة والسعي ، وجُعلَتْ المرأة للعاطفة واستقبال الأبناء وتربيتهم ، خاصة وطفولة الإنسان هي أطول طفولة في الكائنات ، والإشراف عليها مهمة المرأة ولا يجيدها الرجل . فالحق سبحانه حينما يعطينا هذا المثل يعلِّمنا أن نرد ما اختلفنا فيه إلى ما اتفقنا عليه ، فكما أننا لا نختلف في مهمة الليل ومهمة النهار ، كذلك ينبغي ألاَّ نختلف في مهمة الرجل والمرأة ، وألاَّ نُردد كلمة المساواة هكذا دون فَهْم لطبيعة كُلٍّ من الرجل والمرأة ودور كلٍّ منهما الذي خلقه الله له . وفي موضع آخر يعلمنا الحق سبحانه هذه الحكمة من خلق الليل والنهار ، فيقول سبحانه : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [ القصص : 71 - 72 ] . وبعد ذلك ، جعل سبحانه وتعالى للزمن مدخلاً آخر غير الليل والنهار ، وهو فترات الزمن : الساعات والدقائق والثواني ، وبها يتم ضبط الزمن ، والساعة التي تضبط لك الوقت لا تؤدي هذه المهمة إلا إذا كانت هي نفسها منضبطة تماماً ، لذلك جعل الله تعالى للشمس وللقمر مهمة أخرى هي مهمة ضبط الوقت ، لذلك جعلهما منضبطتين في حركتهما بإحكام . يقول تعالى : { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] يعني : بحساب دقيق محكم لا يختلف أبداً ولا يدخله فساد ، ومن حركة الشمس والقمر نحسب الوقت خاصة الأمور الدينية التي لا نستطيع أن نضبطها إلا بهذه الحركة . قال تعالى : { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ … } [ يونس : 5 ] فمن حركة الشمس أعرف الليل والنهار ، ومن حركة القمر أعرف بدايات الشهور ونهاياتها . إذن : من حركة الشمس والقمر والليل والنهار أستطيع أن أضبط حركة التكليف في الصلاة بأوقاتها المختلفة ، هذه الأوقات التي تضمن دوام إعلان الولاء لله تعالى في كل وقت وفي كل مكان نتيجة لاختلاف المشارق والمغارب على مدار اليوم الكامل . لذلك قال تعالى : { رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ … } [ الشعراء : 28 ] وفي موضع آخر قال : { بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ … } [ المعارج : 40 ] وقال { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } [ الرحمن : 17 ] . نعم ، هي مشارق متعددة ومغارب متعددة ، لأن كلَّ مكان له مشرق وله مغرب ، وكل مشرق في مكان مغرب في مكان آخر وهكذا ، ألا تروْنَ في الصيام مثلاً أننا نفطر في القاهرة قبل الاسكندرية بخمس دقائق ، لماذا ؟ لأن مشرق القاهرة غير مشرق الإسكندرية ، ومغرب القاهرة غير مغرب الإسكندرية ، لذلك نسمع المذيع يقول : مع مراعاة فروق التوقيت ، أي : الفروق الزمنية بين كل مكان ومكان . إذن : المتأمل في حركة الشمس يجدها في لحظة لها شروق ولها غروب ، وعليه فذِكْر الله في الصلاة وفي الآذان يسيح في الزمن كله بلا انقطاع ، لذلك يقول أهل التصرف : يا زمن وفيك كُلُّ الزمن ، فأنت حين تصلي الفجر ، هناك غيرك يصلي الظهر ، وغيره يصلي العصر ، وغيره يصلي المغرب ، وغيره يصلي العشاء في الوقت نفسه وفي اللحظة نفسها ، فتجد الحق سبحانه معبوداً في كل وقت بكل أنواع العبادة . وإنْ أردتَ الدقة أكثر فاجعل هذه المسألة مرتبطة بعقرب الثواني في ساعتك لا عقرب الدقائق ولا الساعات ، ففي كل ثانية لله مؤذن يُؤذِّن : الله أكبر . وغيره يقول : أشهد ألاَّ إله إلا الله ، وغيره في نفس اللحظة يقول : أشهد أن محمداً رسول الله وهكذا . فكأن شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله دائمة بدوام الزمن لا تنقطع من الوجود أبداً . ثم يعطينا الحق سبحانه ملحظاً آخر للشمس والقمر لأنهما من أعظم المخلوقات ، وعُرِف عنهما الثبات والدقة والعظمة في الخَلْق ، حتى أن بعض الناس عبد الشمس أو القمر ، فأراد الحق سبحانه أن يلفت الخلق إلى عظمة الخالق الذي هو أولى بالعبادة من مخلوقاته . فجعل الشمس والقمر يعتريهما تغيير هو الكسوف والخسوف ، فمهما كانتْ الشمس ، ومهما كان القمر هما مخلوقان متغيران ، والمتغير لا يكون معبوداً أبداً لذلك قال سبحانه في الآية التي معنا : { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ] . الحق سبحانه في أول الآية قال : { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ … } [ فصلت : 37 ] والآية هي الشيء العجيب في الخَلْق البديع في نظامه وإحكامه ، وهذا الخَلْق العظيم ينبغي أنْ يُعظّم بتعظيم الله له ، لكِنْ لا يجوز أنْ يتعدَّى هذا التعظيم إلى حَدِّ العبادة ، وإلى حَدِّ السجود للمخلوق مهما كان عظيماً ، لأنه مخلوق مُتغيِّر ، والإله لا يتغير من أجل العباد ، لكن العبادَ يتغيرون من أجل الله . وهذه المسألة تُفسِّر لنا قضية سجود الملائكة لآدم عليه السلام ، فلم يكن سجودَ عبادة ، إنما كان امتثالاً لأمر الله لهم بالسجود لآدم ، لكن لماذا أسجد اللهُ الملائكة لآدم ؟ قالوا : لأن آدم سينزل إلى الأرض ، وستكون له حركة إعمار فيها ، وستكون الملائكة في عَوْنه تساعده على أداء مهمته في الأرض ، الملائكة الموكلون بأمور الدنيا وهم المدبِّرات أمراً ، وكما قال تعالى في وصفهم : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ … } [ الرعد : 11 ] . فالملائكة الذين أُمروا بالسجود ليس هم كلّ الملائكة ، إنما الذين لهم علاقة بالإنسان ، فكأن الحق سبحانه يُعرِّفهم على هذا المخلوق الجديد ، الذي سيكونون في خدمته ، فاسجدوا له سجودَ خضوع وامتثال ، ليعلموا أنهم في خدمته يُدبِّرون له الأمور . لذلك ورد في الحديث الشريف " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم : كيف تركتم عبادي فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون " يعني : على هيئة ورديات دائمة لا تنقطع . ومن الملائكة نوعٌ آخر لا دَخْلَ له بالإنسان ، ولا علاقةَ له به ، بل لا يدرون عن عالمنا هذا شيئاً ، وهم العَالُون الذين قال الله فيهم في الحديث عن إبليس : { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ ص : 75 ] . إذن : إذا كان السابقون عظموا الشمس والقمر حتى سجدوا لهما ، فاعلموا أن خالقهما أَوْلَى بالسجود : { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ] يعني : إن كنتم تأتمرون بأمره . ملحظ آخر نأخذه من الشمس يُوقفنا على شيء غريب لم نكُنْ نعرفه من قبل ، ففي سورة الكهف يحكي لنا القرآن سياحة ذي القرنين ، فيقول سبحانه : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ … } [ الكهف : 83 - 86 ] . أي : مغرب الشمس في مرأى العين ، لأنك لو وصلتَ إلى العين الحمئة فسوف تجد الشمس ما زالت بعيدة { وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } [ الكهف : 86 ] ذلك لأنه رجل مُمكَّن في الأرض ، له منزلة وسلطان . والمُمكَّن في الأرض مهمته أنْ يقيم فيها موازين العدالة ومعايير الصواب والعقاب ، لأن حركة الناس في الدنيا لا تستقيم إلا إذا أُثيب المحسن وعُوقب المسيء . { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } [ الكهف : 87 - 88 ] . ثم تكلم عن مطلع الشمس ، فقال : { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } [ الكهف : 90 ] يعني : ليس بينهم وبينها حجاب يسترها ، ولم يذكر لنا شيئاً بعد مطلع الشمس كما ذكر الدرس السابق عند مغرب الشمس ، حيث كان له عمل ودور مع مَنْ أحسن ومن أساء ، أما في مطلع الشمس فقال : { لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } [ الكهف : 90 ] وسكت ، فكأن الهدف أنْ نعرف أن ذا القرنين وصل إلى مكان ، نهاره طويل لا شيء يحجب الشمس فيه . وبعد أن اكتشف العلماءُ خطوطَ الطول وخطوط العرض عرفنا أن بعض الأماكن عند القطبين يطول النهار حتى يصل إلى ثلاثة أشهر أو ستة أشهر ، وهذه لقطة من إعجاز القرآن العلمي . فإنْ قلتَ : فكيف يفعل مَنْ يعيش في هذه الأماكن ؟ كيف يصلي وكيف يصوم ؟ نقول : يُقدِّر لليوم العادي مقداره ، ولليل مقداره فيقسم الوقت إلى ليل ونهار كالمعتاد ، وكذلك مَنْ كان ليله ثلاثة أشهر أو ستة أشهر . ملحظ أخير يتعلق بصياغة الآية وما فيها من دقة بيانية ، فالحق سبحانه بدأ بآية الليل ثم النهار ، وبدأ بالشمس ثم القمر { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ … } [ فصلت : 37 ] وكانت المناسبة تقتضي أنْ يقول : والقمر ليناسب الليل ، والشمس لتناسب النهار . لكن لصياغة القرآن حكمة ودقة بيانية ، فالحق سبحانه يبدأ بالأهم في حركة الحياة ، فالليل جُعِل للراحة والنهار للعمل ، لأن الخالق سبحانه خلق الإنسانَ لإعمار الأرض ، وللسعي في مناكبها ، ولا إعمارَ إلا بحركة ، والحركة تحتاج إلى زمنين : زمن للراحة ، وزمن للعمل . فقدَّم الليل وقت الراحة لأنك لا تنتج ولا تكدّ إلا إذا أخذتَ حظك من الراحة أولاً ، فكأن الراحة أولاً هي أصلٌ يأتي بعدها العمل ، وإلا فالمتعب المكدود لا ينتج ولا ينجز ، كذلك قدَّم الشمس على القمر ، لأنها الأعظم والأهم ، ومنها تستمد كل النجوم والكواكب نورها . وما دُمْنا بصدد الحديث عن الليل والنهار ، فلا بدَّ أن يواجهنا هذا السؤال : أيهما أوَّلٌ في الخَلْق ؟ البعض يقول : الليل أولاً . بدليل أننا نثبت مثلاً دخولَ رمضان بليله لا بنهاره ، فحين نرى الهلال نقول : غداً رمضان ، والذين يعتقدون أن الليل وُجد أولاً لابدَّ أن لديهم قضية أخرى هي أن النهار غير سابق لليل . الحق سبحانه يُنهي هذه المسألة ، فيقول سبحانه : { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] . وننتهي بذلك إلى حقيقة كونية أثبتها الحق سبحانه هي : لا النهار يسبق الليل ، ولا الليل يسبق النهار ، لأنهما كما بينَّا وُجِدَا في بداية الخَلْق معاً ، في وقت واحد ، ثم دار كل منهما مع الآخر .