Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 41, Ayat: 43-43)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كأن الحق سبحانه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد أنت سيد الرسل ، والرسل أُوذُوا ، فلو كان الإيذاء على قَدْر المنزلة لكان إيذاء قومك لك أضعاف إيذاء الرسل السابقين ، وما يُقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ، فلسْتَ بدعاً في الرسل . والذي قيل للرُّسُل من قبلك : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] وأنت يا محمد واحد منهم ، فأبشر بنصر الله لك ولجندك ولمن تابعك . ويصح أيضاً أنْ يكون المعنى { مَّا يُقَالُ لَكَ } [ فصلت : 43 ] أي : من أعدائك والمعاندين لك { إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] أي : من أعدائهم والمعاندين لهم . يعني : لا تحزن فهذه سنة الله في أهل الدعوات وحَمَلة الرسالات ، وأنت واحد منهم فلا تُتعِبْ نفسك ، ولا تُحمِّل نفسك في سبيل دعوتك ما لا تطيق . { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ] . ذلك لأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذاق حلاوة الإيمان بالله أحبه الناس جميعاً ، وكانت عنده غيرة على ربه ، يريد أن يسلم الناسُ جميعاً لا يفلت منهم أحد ، ولا يشذ منهم عن الإيمان بالله أحد ، لذلك كان يجهد نفسه وكثيراً ما عاتبه ربه على ذلك عتاب المحبِّ لحبيبه { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] . وبيَّن له صلى الله عليه وسلم { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ العنكبوت : 18 ] . وكثيراً ما نرى القرآن الكريم يقصُّ على سيدنا رسول الله قصص الأنبياء السابقين تسليةً لرسول الله وتخفيفاً عنه ، فسيدنا نوح - عليه السلام - عمّر في قومه يدعوهم إلى الله ألفَ سنة إلا خمسين عاماً ، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل . وحكى القرآن عنه قوله : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } [ نوح : 5 - 7 ] . قوله : { جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ } [ نوح : 7 ] مبالغة في الإعراض وسَدِّ الآذان عن السماع ، فالذي يُوضع في الأذن الأنملة لا الأصبع ، وأكثر من ذلك { وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } [ نوح : 7 ] يعني : غطُّوا بها وجوههم ، وبذلك سَدُّوا كل منافذ الإدراك والتلقي كأنهم لا يريدون سماعه ولا حتى رؤيته . إذن : اصبر يا محمد فلستَ جديداً في الإيذاء ولا في الإعراض والعناد . وقوله سبحانه : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [ فصلت : 43 ] تأمل هذا الكلام الذي نُسميِّه كلام سياسي ويسميه العلماء ترغيب وترهيب ، فالحق سبحانه وتعالى يراعي أحوال هؤلاء المعاندين لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ويخاطبهم بما يناسب كلَّ الاحتمالات ، فمَنْ عاد منهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم فبابُ التوبة مفتوح والله غفور رحيم ، ومَنْ أصرَّ وتمادى في عناده فالله ذو عقاب أليم . وتلحظ هنا أن المغفرة سبقت العقاب ، بل إن الحق سبحانه يَعِد مَنْ يؤمن ويَحسُنُ إيمانه أنْ يُكفِّر عنه ذنوبه ، وأن يزيده بأنْ يُبدِّل سيئاته حسناتٍ تفضّلاً منه وكرماً ، وكأن الحق سبحانه يُؤنس عباده ويُحنِّنهم إليه ، وهو الغني عنهم . وتاريخ الإسلام حافلٌ بهؤلاء الذين صادموا الإسلام ودعوته وعاندوا رسول الله والمؤمنين معه ، وكانوا ألدَّ الأعداء ، ثم صاروا بعد ذلك حملة لوائه ، وقدَّموا نفوسهم رخيصة في سبيله ولو أغلق الباب في وجوههم ما دخلوا في دين الله ، وأنتم تعرفون قصة إسلام عمر وحمزة وعكرمة بن أبي جهل وخالد وعمرو وغيرهم ممَّنْ كانوا صناديد في الكفر . حتى أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين أخذوا دين الله على أنه دينٌ لا سلطة زمنية أنصفهم القرآن ، فقال فيهم : { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } [ آل عمران : 75 ] . وبعد ذلك يأتي القرآن ويحكم على أُنَاس أنهم لن يؤمنوا ولن يهتدوا ، وهم في سَعَة الدنيا وفي وقت الاختيار ، مَنْ شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ومع ذلك ظلُّوا على كفرهم ولم يؤمنوا حتى نفاقاً ، ولو رغبةً منهم في تكذيب القرآن لم يحدث . ومن هؤلاء أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يمشي وراء رسول الله ويقول للناس : إنه كذاب ، فحكم الله عليه بأنه سيموت على كفره ، وأن مصير النار والعياذ بالله ، وفيه نزلتْ : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } [ المسد : 1 - 5 ] . وقد سمع أبو لهب هذه السورة ، وكان بوُسْعه أن يقف أمام نادي القوم وتجمُّعهم ، ويقول بأعلى صوته : أشهد ألاَّ إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ولو كذباً ، لكنه لم يفعل لأن الله تعالى حكم عليه أنه لن يقولها أبداً . فالله تعالى { لَذُو مَغْفِرَةٍ } [ فصلت : 43 ] لكل كافر ولكُل مُكذِّب ولكل معاند ، رجع إلى الجادة وتاب وأناب { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [ فصلت : 43 ] لمن أصرَّ على كفره وتمادى في عناده ومصادمته لدعوة الحق . ولا يخفى أن الجمع بين المعنى وضده في موضع واحد سِمةٌ من سمات الأسلوب القرآني ، لأن الضدَّ يُظهره الضد ، وبضدِّها تتميَّز الأشياء ، وربك يخبرك ويترك لك أنْ تختار لنفسك دواعي المغفرة أو دواعي العقاب .