Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 41, Ayat: 5-5)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

معنى { أَكِنَّةٍ … } [ فصلت : 5 ] يعني : أغطية جمع كنان أي : غطاء . والغطاء يغلف الشيء بحيث لا ينفذ إليه النور ، وفي آية أخرى قال سبحانه : { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ … } [ الكهف : 57 ] فالأكنة مرة من جَعْل الله ومرة منهم ، فأيهما أسبق ؟ أجعل الله لهم أكنة أولاً ثم أصابتهم الغفلة ، أم أن إعراضهم عن دين الله هو الذي جعل الأكنة على قلوبهم ؟ وقلنا : إن الإنسان إذا أَلِفَ الكفر وأَنِس به زاده الله منه وختم على قلبه ، بحيث لا يدخله الإيمان ولا يخرج منه الكفر . إذن : يأتي منهم الكفر أولاً ، وبعد ذلك يختم الله على القلب ، كذلك في مسألة الأكنة جاءتْ منهم أولاً ، فزادهم الله ، وجعل على قلوبهم الأكنة وزادهم مرضاً على مرض . إذن : المراد بالأكنّة أي الأغطية التي تمنعهم فَهْمَ وتدبُّرَ ما يسمعون ، وما يُلقي عليهم { وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ … } [ فصلت : 5 ] وقر يعني : صَمَم يمنع السماع . وفي سورة البقرة قال : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ … } [ البقرة : 18 ] . ومعلوم أن البكم ينشأ عن الصمم ، لأن الأصم الذي لا يسمع كيف يتكلم ؟ لأن اللغة ظاهرة اجتماعية وهي بنت المحاكاة ، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان ، فإذا لم تسمع الأذن شيئاً لا ينطق اللسان بشيء ، فاللغة ليست جنساً ، اللغة سماع ومحاكاة ، بدليل أنك تأتي بالطفل الإنجليزي مثلاً في بيئة عربية ينطق العربية . والأصم عنده القدرة على الكلام ، بدليل أنه ينطق ببعض الأصوات غير المفهومة كما نسمع من الأخرس مثلاً ، حتى الإنسان السَّوي الفصيح لا يستطيع أنْ يتكلم بكلمة لا يعرفها من لغته هو ، من أين يأتي بها ؟ من السماع أولاً . ولذلك أخذنا من هذه المسألة أدلة مادية على وجود الخالق الأعلى سبحانه ، نقول : أنت كيف تتكلم ؟ يقول : أتكلم لأنني سمعتُ في صِغَري أبي وأمي ومَنْ حولي يتكلمون ، فقلت كما يقولون ، إذن : لا تنشأ لغة إلا بالسماع . وكذلك الحال في الآباء وفي الأجداد ، وارْتَقِ بهذه السلسلة إلى آدم عليه السلام وقُلْ : كيف تكلم آدم وليس قبله أحدٌ يسمع منه ؟ لا بُدَّ أنه سمع ، سمع من مَنْ ؟ سمع من الله تعالى حين علَّمه الأسماء كلها . منافذ الخواطر التي ترد الآذان ، ومنافذ الخواطر التي تصدر من اللسان ، ولأن هؤلاء صُمٌّ لا يسمعون لم يأخذوا شيئاً ، وبالتالي لم يُخْرجوا شيئاً ، لذلك قال سبحانه : { قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ … } [ فصلت : 5 ] يعني : أغطية تمنع عنهم الاستفادة { وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ … } [ فصلت : 5 ] يعني : صمم ، ولم يأتِ هنا بذكر اللسان لماذا ؟ لأنهم لن يتكلموا في الدين لأنهم لم يسمعوه ، فكوْنه لم يأت بالكلام هنا دلَّ على أنهم لن يسمعوا ولن يتكلموا ، تأمل هنا الدقة لأنه كلامُ ربٍّ . وقولهم : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ … } [ فصلت : 5 ] أي : ستر غليظ يحجبك ، فأنت تكون مع جليسك تُحدِّثه ويُحدِّثك ، تسمعه ويسمعك ، تراه ويراك ، تأنس به ويأنس بك … إلخ لكن إنْ كان بينك وبينه حجاب امتنع ذلك كله . هذا الحجاب قد يكون معنوياً ، تقول : بين فلان وفلان جفوة أي : جفوة صغيرة سرعان ما تزول . لكن إنْ قلتَ : بين فلان وبين فلان جفوة ، وكررتَ ظرف المكان دلَّ ذلك على أنها جفوة كبيرة ليس من السهل إزالتها . كذلك قالوا : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ … } [ فصلت : 5 ] يعني كثيف غليظ يستر كل شيء ، من هنا إلى هنا ، يعني : يملأ كل ما بيننا من مسافة . قالوا : لما كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم القوم ، ويعرض عليهم دين الله كان أبو جهل يأخذ ثوبه ويضعه على وجهه حتى لا يرى رسول الله . وما دام أن بيننا وبينك حجاباً ، فلن نتفق وكُلٌّ منا في طريق ، وما دام أن لكل طريقه { فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } [ فصلت : 5 ] وهذه القضية أوضحها الحق سبحان في سورة الكافرون : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 1 - 6 ] هذه هي النتيجة الطبيعية للحجاب بينهما . بعض الناس حين يقرأون هذه السورة يظنون بها تكراراً ، وهذا ليس تكراراً ، بل في السورة قَطْع علاقات ، وقطع العلاقات له ظرف يحكمه ، ألم تر إلى الدول تقطع إحداها علاقتها بالأخرى ، ثم تصفو الأجواء مرة أخرى ، وتعود العلاقات أحسن مما كانت ، ففرْقٌ في الدبلوماسية بين الماضي والحاضر . لكن في مسألة الكفر والإيمان الأمر مختلف فهما ضدان لا يلتقيان ، مهما حدث في المستقبل . فلن تعود العلاقاتُ بينهما ، لذلك قال سبحانه : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 2 - 3 ] أي : في الزمن الحاضر الآن { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 4 - 5 ] أي : في المستقبل ، فلا تظنوا أن العلاقات بيننا قد تتحسن وتعود بيننا علاقة ، لا … لا التقاء بيننا … لا في الحاضر ولا في المستقبل . هذه هي قطع العلاقات ، وما دام بيننا حجاب وحاجز ، فكُلٌّ منا في طريقه والحَمْرة في خيله يركبها . { فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ } [ فصلت : 5 ] اعمل ما يروق لك ، وما يأتيك من إلهك وإسلامك ، ونحن نعمل على قدر آلهتنا وديننا وعبادتنا ، اعمل لإلهك الذي أرسلك ، ونحن نعمل لآلهتنا التي نعبدها ، أو اعمل لآخرتك ونحن نعمل لدنيانا ، فالمسألة من الرسول إصرار ، ومنهم معاداة ، إلى أن يستقيم الميسم ، ويأبى الله إلا أن يُتمَّ نوره . لذلك نرى تدرُّج الإسلام وانتشاره في بطء ، أمر أتباعه بالهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة ، تدرج بهم إلى أنْ تقوى شوكتهم ، بدأ ضعيفاً بالضعفاء ، ثم قوي حتى دخل الأقوياء ، كان منحصراً في مكة ثم اتسعتْ دائرته ، وكانت تزيد كل يوم بحيث تزيد أرض الإسلام وتنقص أرض الكفر . لذلك لما رأى خالد بن الوليد وعمرو بن العاص انتشار الإسلام على هذه الصورة قال خالد لعمرو : والله لقد استقام الميسم ، يعني : استقام أمر هذا الدين فهيا بنا نسلم . وأخذ صناديد الكفر يعودون إلى الجادة ، ويدخلون في دين الله ، فهذا عكرمة بن أبي جهل الذي قاد المعركة في فتح مكة يوم الخندمة ثم أسلم وأبلى في الإسلام بلاءً حسناً ، حتى مات في إحدى المعارك ، وقال قبل أنْ يموت : أهذه ميتة تُرضِي عني رسول الله ؟