Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 44, Ayat: 3-5)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

مسألة الإنزال تعني إنزال شيء من أعلى إلى أسفل ، وتقتضي : مُنزِل ، ومُنزَل ، ومُنزَل إليه ، فالذي أنزل هو الله ، وما دام أنْ المنزِلَ هو الله فالإنزال من جهة العلو بصرف النظر عن المكانية ، لأنه قال عن الحديد : { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ الحديد : 25 ] والحديد في باطن الأرض ، والإنزال يُشْعِر بعلُوّ المنزل . ثم الشيء المنزَل هو القرآن الكريم { أَنزَلْنَاهُ } [ الدخان : 3 ] إلىَ مَنْ أنزل إلى الناس { فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] هي ليلة القدر يعني : زمنَ النزول العام للقرآن . وقال { فِي لَيْلَةٍ } [ الدخان : 3 ] لأن الليل محل السكون والهدوء ، حيث لا لَغَطَ ولا ضوضاء ولا صَخَب يُمكن أنْ يُشوّش على المنزَل ، كذلك يكون الإنسان ساكناً غيرَ منشغل الجوارح بشيء . إذن : في الليل يتوفر للعقل كُلُّ مُقوِّمات الانتباه والاستيعاب وصفاء النفس ، لذلك اقرأ في أول سورة المزمل : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [ المزمل : 1 - 6 ] . إذن : نزل القرآن ليلاً لأنه أنسبُ وقت لنزوله ، ونزل على قلب رسول الله بمكة ، فهي ليلة مكة لا غيرها ، ومكة وسط العالم ومركزه ، لذلك قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] . البعض قال عن هذه الليلة : هي ليلة القدر لقوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] وآخرون قالوا : بل هي ليلة النصف من شعبان ، والمسألة هذه تحتاج منا إلى تمحيص لأنه نزل في واحدة منها . نقول : القرآن قبل أنْ ينزل ويباشر مهمته في الوجود كان في أيِّ مكان ؟ كان في اللوح المحفوظ { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [ الواقعة : 77 - 79 ] وقال : { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الزخرف : 4 ] . فالنزول الأول للقرآن كان جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، لكن هل نزل ما سُجِّل في اللوح المحفوظ أو نسخة منه ؟ قالوا : بل نسخة منه بعد استنساخه . ثم بعد ذلك نزل مُنجَّماً حسْب الأحوال والأحداث ، نزل به الملَكُ جبريل على قلب سيدنا رسول الله ، كل نَجْم منه في مناسبة . إذن : عندنا مراحل ثلاث لنزول القرآن : الأولى استنساخه من اللوح المحفوظ ، وهذا له زمن ، ثم نزوله جملةً واحدة إلى سماء الدنيا وله زمن ، ثم نزوله مُنجماً حسْب الأحوال ، وهذا النزول له زمن ممتدّ على مدى الأحداث استغرق عدة سنوات . ومن الممكن أنْ نجد في هذه المراحل الثلاث مخرجاً من إشكال : أهو في ليلة القدر أم في النصف من شعبان ؟ ولا مانع من اشتراك الليلتين في هذا الفضل في أيِّ مرحلة من مراحله . ثم إن ليلة النصف من شعبان لها شرفها وكرامتها الخاصة بها ، وهي مسألة تحويل القبلة التي هي متجه المسلمين جميعاً في كلِّ بقاع الأرض ، ثم إن الاتجاه إلى بيت المقدس كان له زمن وله حكمة ، ثم التحول إلى الكعبة كان أيضاً له زمن وله حكمة . فليستْ المقارنة هنا بين حَقٍّ وباطل ، بل الفرق بين أمرين حكيمين ، لكن هذا له زمن وهذا له زمن ، لذلك الحق سبحانه لم يشأ أنْ يجعل تحويل القبلة في فرض من أوله ، إنما في أثناء الفرض قسمه الأمر بالتحويل قسمين ، فصلى نصف الصلاة الأولى إلى بيت المقدس ، ونصفها الآخر إلى الكعبة . وهذا إنْ دَلَّ فإنما يدلّ على أن بيتَ المقدس داخلٌ في مقدسات المسلمين كالكعبة تماماً ، وحادثة الإسراء من بيت المقدس تؤكد ذلك . إذن : شاء الله تعالى أنْ يكون متجه الصلاة مرة إلى بيت المقدس ، ومرة إلى الكعبة لحكمة في كليهما . الأولى : أنْ يكون بيتُ المقدس من مقدَّسات المسلمين . الثانية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أُلفة بقبلة إبراهيم عليه السلام . لذلك قال تعالى : { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ … } [ البقرة : 144 ] . والصلاة فُرضَتْ على رسول الله بعد معراجه إلى السماء من بيت المقدس ، والصلاة هذه بها متجه القبلة ، فالقبلة لابدّ أنْ تأخذَ الاثنين مبدأ التشريعي ومبدأ الاستبقائي ، وهذا جعله الله فتنةً للمسلمين ولغير المسلمين ، لأن القِبْلَة لما كانت إلى بيت المقدس قالوا : ما الذي حوَّله عن قبلة إبراهيم إلى قبلة داود وسليمان ، وقلنا : لكي تدخل في مقدسات الإسلام ولا يستبدوا بها . واليهود التقطوا هذه المسألة وجعلوها شبهة وقالوا : إذا كان محمد رافضاً لديننا فكيف يتبع قبلتنا ؟ إذن : كانت فتنةً للطرفين لكي يلتزم الإنسانُ التوجيهات الإلهية بدون تدخُّل للعقل فيها . وقالوا في الليلة المباركة : إنها ليلة البراءة وليلة الصّك وليلة الرحمة ، ليلة البراءة مأخوذة من البراءة التي كان يُعطيها العامل على الزكاة للمموِّل حين يعطيه حَقَّ الله في المال وهو الزكاة ، فيعطيه العامل صَك البراءة الذي يدلّ على أدائه للزكاة وبراءة ذمته منها ، والصَّك بنفس المعنى . وليلة الرحمة ، قالوا : رحمة برسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً ، لأن نفسه كانت تتُوق للتوجُّه نحو قِبْلة إبراهيم . وقوله سبحانه : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [ الدخان : 3 ] بعد أنْ ذكر الإنزال ذكر الإنذار ، فالإنزال للإنذار ، لأن القاعدةَ الشرعية أنَّ درْءَ المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة فذكر منذرين قبل مبشِّرين . وسبق أنْ قلنا : هَبْ أن واحداً يرمي لك تفاحة ، وفي ذات الوقت آخر يرميك بحجر ، فبأيِّهما تنشغل ؟ لا شكَّ أنك تحرص أولاً على دَفْع الحجر عنك وتُقدِّمه على استقبال التفاحة . كذلك الحال في هذا الأسلوب القرآني { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [ الدخان : 3 ] كلمة كُنَّا دلتْ على الماضي مع أن الإنذار مستمر ولا يزال ، لأن الحق سبحانه لا يحكمه زمن معين ، لأنه سبحانه خالق الزمن ، وما دام الزمن من خَلْق الله فالمخلوق لا يتحكم في الخالق . فالماضي والحاضر والمستقبل في حقنا نحن البشر ، أمَّا في حَقِّ الله تعالى فالزمن كله سواء ، فحين تقرأ مثلاً { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الأحزاب : 50 ] تقول : كان ولا يزال وسيكون في المستقبل ، لأنه ما دام كان في الأزل ، وهو سبحانه لا يعتريه تغيير فهو من الأزل إلى الأبد غفور رحيم . وقوله تعالى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [ الدخان : 4 ] أي : في هذه الليلة { يُفْرَقُ } [ الدخان : 4 ] بمعنى يُوضَّح ويُفصَّل ويُبيَّن ، والفرق هنا ليس بين حق وباطل ، إنما بين أمرين كلاهما حق ، وله حكمة في زمنه . وتأمل وصف الأمر ذاته بأنه حكيم لأنه أمر الله { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ } [ الدخان : 5 ] يعني : ليس هناك حكمة ترتقي إلى هذا الأمر الذي يأتي من قِبَل الحق سبحانه { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [ الدخان : 5 ] يعني : لم نترك خَلْقنا هملاً إنما خلقناهم وأرسلْنا لهم مَنْ يأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم ويدلُّهم على الهدى ويُبيِّن لهم . فالحقّ أول ما خلق الخَلْق أرسل الرسل لهدايتهم ، لذلك كان آدم عليه السلام وهو أول البشر رسولاً ، لأن الخالق سبحانه خلق الإنسانَ ، لماذا ؟ لأنه خلقه لعمارة الأرض { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا … } [ هود : 61 ] يعني : طلب منكم عمارتها ، والعمارة تقتضي الصلاح وتمنع الفساد ولا أقلَّ من أنْ نترك الصالح على صلاحه إذا لم نَزد في الصلاح . وقد أوضحنا هذه المسألة بالبئر في الصحراء . وقلنا : إذا لم تَرْتَق به بأنْ تبني حوله سوراً وحافَّة تحميه من زَحْف التراب عليه ، أو تجعل عليه آلة لرفْع الماء ، فلا أقلَّ من أنْ تتركه على حاله ولا تهدمه . كذلك حالُ الإنسان في عمارة الأرض عليه أنْ يُعمِلَ عقله في البدهيات ليصل منها إلى نظريات ترتقي بها حياته ، عندنا مثلاً الصوف والوبر والشعر ، لكلٍّ منها صفاته الخاصة وما يصلح له ، لذلك قال القرآن { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } [ النحل : 80 ] . ومعلوم أن الوبر للجمال ، والصوف للغنم ، والشعر للماعز ، ولكل نوع منها خصائصُ يستخدمه الإنسان في ثيابه ومسكنه ، وهذا من عمارة الأرض ، حتى لو نظرنا إلى القواعد الهندسية والنظريات نجدها تعتمد في بدايتها على أمر بديهي موجود في الكون . إذن : كلُّ ارتقاء في الكون أتى من أمر بديهي موهوب من الله ، وعمل العقول في البدهيات من عمارة الأرض . لذلك عندما تتأمل أسلوبَ القرآن في مخاطبة الناس تجده يبدأ بأمور بسيطة بعيدة عن التعقيد الفكري ، فيُحدِّثهم أولاً عن أصل المنهج وما به تستقيم حياتهم وتنسجم حركاتهم في الحياة ، ويُحدِّث العقول بما يناسب ارتقاءها الفكري . فإذا ما نضج الفكر الإنساني وتمكّن المنهج في الناس سلوكاً وتطبيقاً بدأ يُحدِّثهم عن نظريات عقلية ويقول لهم : إن الأرض كروية ، وأنها تدور حول الشمس لأن العقول أصبح عندها استعداد للبحث والتقصِّي . انظر مثلاً إلى الطرق ، وكيف كانت بدائية ، مجرد مدقّ في الصحراء يسع البعير الواحد ؟ وكيف تطورتْ الآن وما توفّر لها من أسباب الراحة والأمان والسرعة والسلامة وغيرها ، إنه العقل حينما يعمل ليرتقي . ألم يتعلّم الإنسان من الغراب كيف يدفن الموتى ؟ ألم نتعلم من الكلاب ونستخدمها الآن رغم التطور العلمي في تقصِّي الأثر والتعرف على المجرمين باستخدام حاسة الشم ؟ إذن : أخذنا الأمور الفطرية التي وهبها الله لنا وبنيْنَا عليها ، وطوَّرناها لعمارة الأرض . وعمارة الأرض لا تقوم إلا إذا استقام المنهجُ أولاً ، فهو أساس الارتقاء وأساس الإصلاح ، لأن الخالق سبحانه لما خلق الخَلْق جعل له منهجاً يحكمه ويُنظم حركته في الحياة بافعل كذا ولا تفعل كذا . فإن استقام على منهج ربه وخالقه استقامتْ حياته ، وإنْ شذَّ وانحرف ظهرتْ عورة المجتمع وبدَتْ مظاهر الفساد تدبْ في أوصاله . وسبق أنْ مثَّلنا ذلك بالكتالوج الذي يضعه الصانع لحماية صنعته وصيانتها ، كذلك أنت إنْ سِرْتَ على منهج خالقك لا يصيبك عَطَبٌ أبداً . ومن هنا كانت مهمة الرسل ، للبيان وللتذكير بالمنهج افعل كذا و لا تفعل كذا ، حتى سيدنا آدم ماذا حدث له لما خالف المنهج ؟ ربنا قال له : كل من الجنة كما شئت إلا هذه الشجرة فأكلا منها ، ماذا حدث ؟ لما خالف حدث له العطب ، وظهرت عورته لمَّا أكل من الشجرة واضطر لما لم يعهده من قبل من خروج الريح والغائط واضطراب البطن ، وهذه أمور لم يكن يشعر بها قبل المخالفة . وقوله سبحانه : { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [ الدخان : 5 ] يعني : مرسلين رسلاً إلى مَنِ استخلفناه في الأرض حتى تسْلَم حركةُ الحياة من العطب ، وحتى يسلَمَ المجتمعُ من الشرور ، ويتساند ولا يتعارض .