Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 46, Ayat: 17-17)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

القرآن الكريم أعطانا عدة لقطات للوالدين مع الأولاد ، وهذه اللقطات تختلف باختلاف الأحوال ، ولأهمية هذه العلاقة بين الوالد والولد قرنَ اللهُ الوصية بالوالدين بعبادته سبحانه ، وأعطاها نفس الأهمية والقداسة . فقال سبحانه : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً … } [ الإسراء : 23 ] لأن الوالد والولد هما الخلية الأساسية لبناء المجتمع ، فإذا صلحتْ صَلُح المجتمع ، وإذا فسدتْ فسد المجتمع ، وصلاح هذه الخلية يقتضي منا أن نعلم منزلة الوالدين ، وأنهما السبب المباشر في الوجود فلهما حَقُّ السَّببية في الإيجاد ، يعني : لولاهما ما وجد الولد . وحين نبرهما ونحترمهما تكون دُرْبة لنا على تعظيم واحترام المُوجِد الأول سبحانه والأصل الأصيل في المسألة . لذلك جاءت هذه الوصية عامة ، لا فرق بين مؤمن وكافر ، فالحق يُوصي بالوالدين حتى إنْ كانا كافريْنِ ، لأنه تعالى ربُّ الجميع يتكفل بالجميع حياة ورزقاً وإقامة ، لأنه عبده وصَنْعته . وقُلْنا : يجب أنْ نلحظ الفرق بين الألوهية والربوبية : فالربوبية عطاء وتربية ، والألوهية تكليف وتعبُّد بطاعة الأمر واجتناب النهي . فهو أيضاً عطاء ، لكن عطاء تكليفي بافعل ولا تفعل ، عطاء لأن فائدته تعود على العبد ولا ينتفع الله منها بشيء ، ولا تزيده طاعة الطائعين صفةً لم تكُنْ له سبحانه ، ولا تسلبه معصية العاصين صفةً ثابتة له سبحانه . فالله له صفات الكمال المطلق قبل أنْ يُوجد هذا الخلق ، لذلك نرى الإنسان حين يحزبه أمر لا يقدر عليه من أمور حياته يقول : يا رب ، فيدعو بصفة الربوبية يعني يا رب ، يا من تتولى رعايتي وتربيتي خُذْ بيدي وأعنِّي . لكن إذا أراد أنْ يستعين على أمر تكليفي لله تعالى يقول : يا الله ، يعني يا إلهي ، يا مَنْ كلَّفتني أعنِّي على طاعتك فيما كلَّفتني . إذن : الحكمة من التكليف لا تعود على الله إنما تعود على المكلَّف ، والحق سبحانه يريد مجتمعاً مؤمناً صالحاً يبني ويُعمر ، ويكون على أحسن حال ، كما تحثّ ولدك الصغير على المذاكرة وتقول له : إنْ نجحت سأشتري لك عجلة أو بدلة ، فأنت تريد له الخير ولن تنتفع أنت بما ستشتريه له . لذلك ورد في الحديث القدسى : " يا عبادي ، إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، ولن تبلغوا ضُرِّي فتضروني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وحيّكم وميّتكم ، وإنسكم وجنَّكم ، وشاهدكم وغائبكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً ، ولو أن أولكم وآخركم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم … اجتمعوا في صعيد واحد ، فسألني كلُّ واحد مسألته فأعطيتُها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخلَ البحر . ذلك أنَِّي جواد ماجد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري لشيء إذا أردته أنْ أقول له : كُنْ فيكون " إذن : حظ التكليف صلاح المكلف . وقد أوضحنا هذه المسألة في بيان معنى قوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ … } [ البقرة : 5 ] فكأن الهدى دابة ومطيّة تحمل المهتدي وتُوصِّله إلى غايته التي يسعى إليها ، فالهدي ليس حِمْلاً وليس ثِقَلاً على صاحبه إنما مُعين له . والآية التي معنا { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ … } [ الأحقاف : 17 ] تعطينا لقطة للوالدين حينما يكونان مؤمنين والولد غير مؤمن ، وتصور لنا حرص الوالدين على نجاة الولد ، كما رأينا مثلاً في قصة سيدنا نوح وولده . وهذه الآية نزلتْ في عبد الرحمن بن أبي بكر وكان أبواه قد أسلما ، وأبَى هو أنْ يسلم ، فكانا يدعوانه إلى الإيمان بالله والإيمان بالبعث ، فيقول لهما : أين فلان ؟ وأين فلان ؟ ممَّن ماتوا في السابقين . ثم أسلم عبد الرحمن بعد ذلك وحَسُن إسلامه . وإنْ كانت هناك روايات عن السيدة عائشة أنها نفَتْ ذلك ، وقالت : إنما نزلت الآية في شخص آخر وذكرتْ اسمه . قوله تعالى : { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ … } [ الأحقاف : 17 ] أي : اذكر الذي قال لوالديه { أُفٍّ لَّكُمَآ … } [ الأحقاف : 17 ] وأفّ اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر ، يقولون : فلان يتأفّف . يعني : يقول أف ويُظهر الضيق والضجر من شيء قذر أو مُنتن أو فعل لا يعجبك . وقوله { لَّكُمَآ } دلَّ على غضبه منهما لأنها يُلحان عليه . فقال : { أُفٍّ لَّكُمَآ … } [ الأحقاف : 17 ] أنتما ليس بعيداً عنكما . لكن لماذا يتأفف ؟ قالو : لأن الوالدين يُلحان عليه أنْ يؤمن وهو لا يريد الإيمان ، فلما أكثرا عليه تأفّف ، وقال : { أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ … } [ الأحقاف : 17 ] يعني : أُبعث بعد الموت ، والهمزة هنا استفهام للتعجب أو الإنكار فهو ينكر البعث . ثم يأتي بالدليل الذي يؤيد وجهة نظره { وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي … } [ الأحقاف : 17 ] أي : مضتْ القرون ومات كثيرون ممَّنْ سبق ، ولم أرَ أحداً منهم قام من قبره . لكن من قال أن البعث سيكون في الدنيا ، البعث موعده الآخرة بعد أنْ يموت الجميع ولا يبقى إلا الله . لكن الوالدين بعد أنْ سمعا هذا الكلام ، ولمسَا هذا التصميم على الكفر لم يجدا مُنقذاً سوى الله فتوجها إليه : { وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ … } [ الأحقاف : 17 ] . وهذا تصوير لطبيعة الوالدين وشدة حرصهما على نجاة الابن ، فهما يتضرعان ويُلحان على الابن أن يؤمن ، وأنْ يذوق حلاوة الإيمان التي ذاقاها . وكلمة { وَيْلَكَ آمِنْ … } [ الأحقاف : 17 ] حَثٌّ له على أنْ يؤمن ، أو الويل لك إنْ لم تؤمن ، ونلاحظ هنا أن الفعل يستغيث يتعدى بالباء فيقول : يستغيث فلان بالله ، فلماذا حذف الباء وعدَّى الفعل بنفسه فقال : { يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ … } [ الأحقاف : 17 ] . قالوا : هذا يدل على أنهما أمام أمر صعب ، وأمام قلب قاس متحجر معاند ، لا يقبل الدعوة ولا يستجيب لنداء الوالدين ، ولا يُقدِّر مشاعرهما . لذا توجَّها إلى الله مباشرة أنْ يهدي هذا الولد ، وأنْ يشرح صدره ، وأن يلين هذا الطبع القاسي ، ليسمع ويطيع وينجو ، لذلك قلنا : لا تجد إنساناً يحب لك الخير كما يحبه لك والدك ، يحب أنْ تكون أحسن حالاً منه ، وهذه لا تتوافر إلا في الوالد والولد . إذن : أمام هذا العناد ليس أمام الوالدين إلا التوجّه إلى الله مُقلِّب القلوب ومُسبِّب الأسباب ، فما ضاقتْ به أسباب الخَلْق دَعْهُ للخالق سبحانه ، فالقلوب بين أصبعين من أصابعه سبحانه يُقلِّبها كيف يشاء . وسبق أن قلنا ذلك في قصة أم موسى لما قال الله لها : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ … } [ القصص : 7 ] بالله أتقبل أم تخاف على ولدها أنْ تلقيه في البحر ؟ تقبل أنْ تنجيه من موت مظنون بموت مُحقَّق ؟ لكنها آمنَتْ وصدقتْ ونفذت . لأن الله قَلَب قلبها ، ووارد الرحمن لا يعارضه ولا يعطله وارد الشيطان ، لذلك قال تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ … } [ الأنفال : 24 ] . وهذه المسألة حدثتْ مع فرعون ، فحال اللهُ بينه وبين قلبه وما يريد ، فهو يبحث عن الأطفال ويقتلهم ، ومع ذلك جاءه طفل في صندوق مُلقى في البحر ، وعلى هيئة مريبة تدعو إلى الشك ، ومع ذلك استقبله واحتضنه وربَّاه وصدَّق امرأته لما قالتْ عن الولد { قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ … } [ القصص : 9 ] . إذن : هذا غباء ، ممَّنْ ؟ من فرعون الذي ادَّعى الألوهية وقال للناس : أنا ربكم الأعلى . ثم لما نتأمل القصة نجد دلالات أخرى لغباء هذا الرجل ، فقد قال له السحرة : إن زوال مُلْكك سيكون على يد طفل يُولَد من بني إسرائيل ، فما دُمْت قد صدَّقت بهذه النبوءة ، فلماذا تقتل الأطفال ؟ إذن : أقدار الله لا بدَّ أنْ تتحقق ، وأنْ يُهيء لها أسبابها ، وهذا هو معنى { وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ … } [ الأحقاف : 17 ] يقولان : يا رب أنت قادر على كل شيء وأنت فوق الأسباب ، وليس لنا حيلة مع هذا الولد ويعز علينا أنْ نتركه على كفرة فيهلك . وقد علّمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلجأ إلى الله ، فكان إذا حزبه أمر يعني : غلبه وضاقتْ عنه أسبابه قام إلى الصلاة ليقف بين يدي ربه ، فيحلّ له كل شَاقٍّ ويُهوِّن كلَّ عسير . وكلمة { آمِنْ } يعني : انطق بالشهادة واعترف بأن الله إله واحد . ومادة أمن لها في القرآن معانٍ متعددة ، تقول : آمنتُ بالله . وهذا الفعل مُتعدٍّ بالباء يعني : شهدتُ وصدّقتُ ، وأمنتُ له : صدقته كما في قوله تعالى : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا … } [ يوسف : 17 ] يعني : مُصدِّق ، وأمنته يعني أعطيته الأمان . وقولهما : { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ … } [ الأحقاف : 17 ] يؤكدان له هذه الحقيقة ، وما دام حقاً فسوف يحدث ولا مفرَّ منه ، لأن الله إله واحد لا شريك له ، ولا أحدَ ينقض هذا الوعد أو يعارضه ، وهو سبحانه القادر القوي الذي يملك إنفاذ ما وعد به . لذلك قال تعالى في شأن الساعة : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النحل : 1 ] هكذا بالفعل الماضي ، لأن وعَدْ الله يستوي فيه الماضي والحاضر والمستقبل ، فهو سبحانه خالق الزمن ومالكه والمتصرّف فيه ، فيعبر عن المستقبل بالماضي لأنه يعلم أنه لا توجد قوة تعارضه . إذن : فالقيامة التي ستأتي في المستقبل أتتْ بالفعل وهي حادثة لا شكَّ فيها ، لذلك يتصرف في الكون بشهادته سبحانه لنفسه ، فأول مَنْ آمن آمنَ اللهُ بذاته سبحانه ، فقال : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ … } [ آل عمران : 18 ] . فقد شهد الله لذاته قبل أنْ يشهد بذلك أحدٌ من خلقه ، وكأنه سبحانه بهذه الشهادة يقبل على كل شيء يريده وهو يعلم أنه لن يتخلف ، وما هي إلا كُنْ فيكون . كذلك سيدنا رسول الله يشهد لنفسه بالرسالة قبل أنْ يشهد بها أحد ، ففي رواية " أن سيدنا جابر بن عبد الله كان عليه دَيْن لرجل يهودي ، ووعده حين يثمر النخل أنْ يجز نخله ويقضيه دَيْنه ، فلما جاء أوان الثمر خاب ولم يُعط الثمر المرجو منه ، وعجز جابر عن السداد . فذهب بعض إخوان جابر وحكوا القصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث لليهوي وقال له : أنظِرْ جابراً حتى يقضي ما عليه . فقال : لا يا أبا القاسم ، فأعاد الرسول عليه : أنظِرْ جابراً . فقال : لا يا أبا القاسم . فتركه رسول الله وذهب إلى بستان جابر ومرَّ خلاله ، ثم قال : أين عريشك يا جابر ؟ فأخذ جابر رسول الله وأجلسه في عريشه ، فقال : دَعْني هنا يا جابر واذهب فجُذَّ واقضِ ما عليك ، فذهب جابر إلى نخله فجذَّ منه حتى قضى ما عليه وبقي له ما يكفيه ، فجاء بطبق من الرطب إلى رسول الله وقال له : يا رسول الله قضيتُ ما عليَّ وبقي لي ما لم يكُنْ يبقى في أيّ عام سابق ، عندها ضحك سيدنا رسول الله وقال : أشهد أني رسول الله " . فقوله تعالى : { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ … } [ الأحقاف : 17 ] يعني : صادق لا يتخلف ، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ، لأن الله هو الذي قضاه وحكم به ، فلا أحدَ يُغيره ، لذلك يقول سبحانه : { سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الفتح : 23 ] . وقوله تعالى : { فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ الأحقاف : 17 ] . أي : يقول هذا الولد المعاند لوالديه ، وهما يدعوانه للإيمان بالبعث والنشور : إن ما تقولانه ما هو إلا أساطير الأولين ، وهي أكاذيبهم وقصصهم التي جاءتْ في كتبهم ، يعني : ما تدعواني إليه كذب أشبه بالأساطير والخرافات .