Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 46, Ayat: 9-9)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قُلْ … } [ الأحقاف : 9 ] أي : قُلْ لهم يا محمد { مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ … } [ الأحقاف : 9 ] البدع هو الشيء الجديد المستحدث الذي لم يسبق له مثال . ومن ذلك قوله تعالى : { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَٰحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 101 ] أي : خالقهما على غير مثال سابق ، نقول : فلان مبدع يعني : جاء بشيء لم يسبقه أحد إليه . والمعنى : ما جئتُ على سنة غير التي جاء عليها مَنْ سبقني من الرسل ، أو ما كنتُ مبتدعاً ما أدعوكم إليه ، لستْ أول رسول يُقابَل بالتكذيب ويُواجَه بالكفر والعناد والاضطهاد ، بل سبقني إلى ذلك كلّ الرسل السابقين ، أُوذوا وكُذبوا وصبروا حتى نصرهم الله ، كما قال تعالى : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ … } [ العنكبوت : 40 ] . فكانت سنة الله في الرسل السابقين أنْ تتولى السماءُ تأديب المكذِّبين للرسل المعارضين لدعوة الحق ، أما في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أمَّن الله محمداً وأمَّن أمته على أنْ يتولوا هم تأديب المكذِّبين للدعوة المصادمين لها ، وأن ينصروا الحق ، وأنْ يكونَ أهلاً له إلى قيام الساعة . لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة " والمراد الخير فيَّ حصراً وفي أمتي نثراً ، بحيث يأخذ كل جيل أو كل واحد منهم جزءاً من هذه الخيرية . وقوله : { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ … } [ الأحقاف : 9 ] أي : الآن لا أدري لكن لعله يدري في المستقبل بما يُوحيه الله إليه ، كما حدث في مسألة محاربة الكفار والجهر بالدعوة ، حين طلب بعض مَنْ أسلم مع رسول الله محاربة الكفار . فكان يقول لهم صلى الله عليه وسلم : ما أُمرت ، ما أُمرت . فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وافقهم على القتال . إذن : جهر بدين الله في مكة ولم يحارب إلا في المدينة ، وهنا حكمة ، فمكة كانت موطن قريش ومحلّ سيادتها ، وقريش كانت موضعَ اهتمام واحترام من كل قبائل العرب لمكانتها من بيت الله الحرام وخدمتها لحجاجه . ولتوسط مكة طريقَ التجارة بين اليمن والشام في رحلة الشتاء والصيف ، فكان لا بدَّ من مراعاة هذه المكانة لقريش ، وعدم إعلان الحرب عليها في هذا الوقت . وحين نقرأ مثلاً سورة الفيل : { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [ الفيل : 3 - 5 ] لو قلت : لماذا ؟ تجيبك سورة قريش : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ } [ قريش : 1 - 2 ] . يعني : فعل الله هذا لمصلحة قريش ، ولتظلّ لهم المكانة والمهابة بين قبائل العرب ، ولتظلّ آمنة مطمئنة في رحلة تجارتها بين اليمن والشام . لذلك قال بعدها : { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3 - 4 ] . والمعنى في { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ … } [ الأحقاف : 9 ] يعني : ما أدري أيأمرنا الله أنْ نقاتلَ هؤلاء ؟ أم يأمرنا بترك مكة إلى مكان آخر نلتمس فيه نُصْرته ، لذلك بعدها أمرهم رسول الله بالهجرة إلى الحبشة ، وقال : " إنَّ فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد " . وكأن سيدنا رسول الله كانت عنده خريطة للعالم من حوله ، وفعلاً لما ذهبوا إلى الحبشة أكرمهم النجاشي ، ومنعهم حينما أرسلت قريش عَمْراً في طلبهم ، فردَّ عَمْراً وردَّ هدايا قريش ، وآمن بمحمد ودعوته ، لذلك وكله رسول الله في أنْ يُزوِّجه من أم حبيبة ، ولما مات النجاشي صلى الله عليه رسولُ الله . والهجرة إلى الحبشة كانت مرحلة انتقالية يحتمي فيها المضطهدون من المسلمين عند هذا الرجل الذي لا يُظلم أحد عنده ، وحتى يأذن الله لرسوله في الهجرة إلى المدينة ، وحيث تأتي نُصْرة الإسلام وإعلاء كلمته هناك . والحكمة أن الصيحة الأولى للدعوة كانت في مكة ، أما نُصْرة الدين وتأييده فكانت في المدينة ، ذلك لأن قريشاً كانوا سادةَ العرب وأصحاب السيطرة في الجزيرة العربية . ولو أن النُّصْرة جاءتْ في مكة لَقالوا إنها بسبب سيادة قريش وسُلطتها التي تعدَّت الجزيرة إلى العالم من حولها ، فكانت الحكمة أن تكون الصيحة الأولى للإسلام في أذن هؤلاء السادة تهزُّهم وتُقبِّح أفعالهم ، وتُبطل ما هم عليه من عبادة الأصنام . لكن النُّصرة تُؤجل إلى المدينة لينتصر الدين بالمهاجرين والأنصار ، حتى لا يظن ظانٌّ أن العصبية لمحمد هي التي خلقتْ الإيمان بمحمد ، بل إن الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد . وقوله : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ الأحقاف : 9 ] انظر هنا إلى العظمة في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو يتكلم بما عنده كأنه يقول : " يرد عليّ فأقول : أنا لستُ كأحدكم ، ويُؤخذ مني فاقول ما أنا إلا بشر مثلكم " . إذن : سيدنا رسول الله لم يأتِ بشيء من عنده إلا في المسألة التي لم يرد فيها حكم ، فإنِ اجتهد في مسألة لم يردْ فيها حكم وأخطأ قبل أنْ يُعدِّل الله له ، وأنْ يُصحَّح له ولا يأنف من ذلك ، وهو الذي يخبرنا بهذا التعديل ، كما في قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التحريم : 1 ] . ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ … } .