Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 16-16)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ … } [ محمد : 16 ] ممَّنْ ؟ ستعرف بعد أن تقرأ أوصافهم { مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ … } [ محمد : 16 ] يستمع إلى رسول الله وهو يقرأ القرآن { حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ … } [ محمد : 16 ] يا محمد { قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ … } [ محمد : 16 ] أمثال ابن مسعود وابن عباس { مَاذَا قَالَ آنِفاً … } [ محمد : 16 ] يعني : ما الجديد فيما قاله محمد ، كأنهم يحتقرون ما سمعوه من رسول الله . هذه إذن ليست صفات الكافرين ، لأن الكافرين لم يكونوا يستمعون للقرآن ، إنما هي صفات المنافقين الذين كانوا يشاركون المسلمين صلاتهم ومجالسهم ويذوبون فيهم بخبث ودهاء ، لكن كان القرآن ينزل على رسول الله فيكشفهم . لذلك كان النفاق أسوأ وأضرَّ على المسلمين من الكفر ، فالكافر معلوم أنه عدو ظاهر العداوة ، ويمكن أنْ تحتاط له ، أمَّا المنافق فواحد من الجماعة المسلمة يعلن الإسلام ويبطن الكفر ، فعداوته غير ظاهرة وخطرة أعظم . والذي يتتبع تاريخ النفاق في الإسلام يجده لم يظهر في مكة إنما ظهر في المدينة ، فرغم العداء الشديد بين الإسلام والكفار في مكة إلا أنه كان عداءً ظاهراً مُعلناً يمكن مواجهته ، فلم يوجد فيها نفاق ، لم يظهر إلا في المدينة ، لماذا ؟ لأن النفاق لا يكون إلا مع القوي ، فالضعيف لا يُنافق الضعيف ، تعلن العداء في وجهه ، أما القوي فتنافقه لتتغلب عليه . إذن ما الداعي للنفاق في مكة والمسلمون فيها قلَّة مستضعفة ، هذا يعني أن النفاق ظاهرة تدل على قوة الإيمان ، وأنه أصبح له شوكة تُنَافَق ، وهذا حدث في المدينة . لذلك قال سبحانه وتعالى في حقهم : { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ … } [ التوبة : 101 ] . كلمة { يَسْتَمِعُ … } [ محمد : 16 ] وردتْ هذه المادة في القرآن بلفظ : سمع واستمع وتسمَّع ، سمع أي : دون إرادة منه للسماع ، واستمع لمن يحب أنْ يسمع شيئاً محبوباً لديه ، أما تسمع ففيها تفعُّل وتكلُّف للسماع ومحاولة . إذن : قال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ … } [ محمد : 16 ] يعني : برغبته وارادته وهو محب لأنْ يسمع ، وهكذا كان حال المنافقين يجلسون في الصفوف الأولى ويُبدون من الاهتمام ما لا يُبديه غيرهم ، فلا تفوتهم كلمة ولا تفوتهم صلاة ليحبكوا خطتهم ويُخْفوا نفاقهم . { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ … } [ محمد : 16 ] لأنهم سمعوا الكلام ولم يؤمنوا به ولم يعملوا بمقتضاه ، فكان الجزاء أنْ ختم الله على قلوبهم وطبع عليها ، وكأن الله يقول لهم : ما دُمتم أحببتم النفاق فسوف أزيدكم منه وأختم على قلوبكم حتى لا يخرج منها النفاق ولا يدخلها الإيمان . { وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } [ محمد : 16 ] الهوى أنْ يميل قلبك إلى شيء تعتقد أنه سارّ ومُفرح لك ، فرح عاجل ولذة وقتية دون النظر في العواقب بعد هذه اللذة . إذن : اجعل لهواك ضوابط ، واختر الهوى الأبقى أثراً والأدوم نفعاً ، اجعلْ هواك فيما ينفعك لا فيما يضرك ، كالذي يأكل شطة مثلاً ، لأنها تجعل للأكل لذة وطعماً هو يرغب فيه الآن حين يأكل ، لكنه غفل عن مسألة إخراج هذا الطعام ، وأنه سيجُر عليه ألماً يفوق لذة الأكل . إذن : على العاقل أنْ يتدبر عواقب هواه ، ويحذر أنْ يميل به الهوى ، لذلك يقول تعالى : { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ … } [ المؤمنون : 71 ] . والحق سبحانه أتى لنا بالمنهج ليحمينا من الهوى ، لأن أهواء النفوس متضاربة ومتعارضة ، فهي أداة اختلاف وتنافر ، والله يريد لنا أن نتفق ، وأنْ نتساند لا أنْ نتعاند . وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به " . البعض يقف عند قوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ … } [ محمد : 16 ] فيقول ما دام أن الله طبع على قلوبهم وأراد لهم الضلال ، فلماذا يعذبهم ؟ نقول : الله يهدي العباد لا يضلهم ، وهم الذين يختارون الضلال ولا يهتدون بالإيمان . لذلك نقرأ : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 264 ] و { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [ المائدة : 108 ] و { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 258 ] . فالضلال إذن وعدم الهداية ناشىء عنهم هم ونتيجة مسلكهم غير المستقيم ، فالله لم يهدهم لأنهم إما كافرون أو فاسقون أو ظالمون . وإلا فالحق سبحانه في واقع الأمر هدى الجميع ، المؤمن والكافر ، لأنه نادى الجميع في قوله سبحانه : { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } [ البقرة : 21 ] فدلَّ الجميع وأرشدهم إلى منهجه وعاقبة السَّيْر على هذا المنهج ، وأنذرهم عاقبة الخروج عنه . وبيَّن لهم أن المنهج ما وُضع إلا لمصلحتهم باستقامة أمورهم في الدنيا وسلامتهم في الآخرة ، وأنه سبحانه لا تنفعه طاعة ، ولا تضره معصية ، فهو سبحانه غني عنهم مُستغن عن عبادتهم ، لأن له صفات الكمال قبل أنْ يخلقهم ، يقول لعبده : يا عبدي أقبل عليَّ أعْطِكَ خيري . واقرأ قوله تعالى في قوم ثمود : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ … } [ فصلت : 17 ] يعني : دللناهم وأرشدناهم إلى طريق الخير { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ … } [ فصلت : 17 ] فلما استحبُّوا العمى أعماهم الله . ثم إن الذين يقولون : لماذا يعذبهم الله وهو أضلهم ؟ لماذا لا يذكرون المقابل فيقولون : ما دام كتب عليهم الطاعة ، فلماذا يثيبهم عليها ؟ . لذلك ورد في الحديث القدسي : " قالت السماء : يا رب إئذن لي أنْ أسقط كسفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت الأرض : يا رب إئذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت الجبال : يا رب إئذن لي أنْ أسقط على أبن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، فقال الله لهم : دعوني وخلقي لو خلقتموهم لرحمتموهم ، فإنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم ، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، وأبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب " . وسبق أنْ مثَّلنا مسألة الهداية - ولله المثل الأعلى - برجل المرور حين تذهب إليه فتسأله عن الطريق ، فيقول لك : الطريق من هنا ، فإنْ أطعته زادك وقال لك : إن في الطريق عقبة في المكان الفلاني فانتبه لها ، أو يأخذك بنفسه حتى تبلغ ما تريد . وهكذا الحق سبحانه دلَّ الجميع وأرشد الجميع ، فمنْ سمع وأطاع زاده هداية ، ومَنْ أعرض وتمرد زاده ضلالاً بأنْ ختم على قلبه . لذلك قسَّم العلماء الهداية إلى نوعين : هداية الدلالة وهي للمؤمن وللكافر ، وهداية التوفيق والمعونة ، وهي خاصة بالمؤمن ، لذلك قال في الآية بعدها : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى … } .