Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 19-19)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
معنى { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ … } [ محمد : 19 ] لا تطلب بأي شيء سبباً غير الله ، ولا يجوز لك أنْ تلجأ لغير الله ، فاللجوء لغير الله لا يفيد ، وقوله : { فَٱعْلَمْ … } [ محمد : 19 ] العلم إما علم يقين إذا أخبرك به مَنْ تثق في صدقه ، وعَيْن يقين حينما تراه بعينك وترى أثره ، وحَقَّ اليقين حينما تباشره بنفسك . والحق سبحانه حينما يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ … } [ محمد : 19 ] هل يعني هذا أنه لا يعلمها ؟ لا بل المراد داوم عليها ، وكما علمتها في الماضي فاجعلها في الحاضر وفي المستقبل . وهذا من باب قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ … } [ النساء : 136 ] فيأمرهم بالإيمان وقد ناداهم به . قالوا : إذا أمر الله أمراً وهو موجود بالفعل في المأمور فالمراد داوم عليه ، فأنت مؤمن لكن مطلوب منك أنْ تداوم على إيمانك في المستقبل . والحق سبحانه حينما يأمر نبيه هذا الأمر إنما ليُطمئنه على أنه إنْ جُحد وعُودِيَ وأُوذِيَ بشتَّى أنواع الإيذاء والاستهزاء لا يحزن ولا يهتم ، لأن الله بجواره ينصره ويؤيده ، ومهما فعل البشر فلن يمنعوه من إنفاذ دعوته . فسُنة الله في الرسل أنْ ينصرهم : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] لذلك قلنا : إذا رأيتَ جندياً منتسباً للإسلام وغُلِب ، فاعلم أن شروط الجندية اختلَّتْ عنده وإلاَّ ما هُزم . وأخذنا مثالاً على ذلك بما حدث للمسلمين يوم أُحُد من مخالفة أمر رسول الله فهُزموا وهو بينهم ، وهذه سنة الله ولن تجد لسنةِ الله تبديلاً ، ولو انتصروا بعد أنْ خالفوا أمر الرسول لهان عليهم أمره بعد ذلك ، ولقالوا في أنفسهم : لقد خالفناه وانتصرنا . إذن : جاءت الهزيمة لتردهم إلى الصواب وتوقظ غفلتهم في مسألة طاعة أمر رسول الله . وقوله سبحانه : { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ … } [ محمد : 19 ] فهل يعني هذا أن للرسول ذنباً يجب الاستغفار منه ؟ هذه من المسائل التي دار حولها جدل كثير ، والمعنى هنا : إذا سَهتْ نفسك فأذنبتَ فاستغفر لا أنه أذنب بالفعل ، يقول له ربه : إذا حصل منك ذنب فاستغفر له ، وكذلك استغفر للمؤمنين والمؤمنات . وفي آية أخرى قال تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ … } [ الفتح : 1 - 2 ] فذكر الذنب في حق الرسول رغم أنه معصوم . والعلماء حينما بحثوا مثل هذه الآيات قالوا : هي من باب : حسنات الأبرار سيئات المقربين . ومعلوم أن المقربين درجة من درجات الطاعة والامتثال لله أعلى من درجة الأبرار ، لأن الأبرار هم الذين يطيعون الله ويفعلون الخيرات وينفذون الأوامر . أما المقربون فهم الذين يزيدون على ذلك تقرباً إلى الله ، حتى في عُرْف الناس المقرَّب منك هو الصديق الملازم لك الذي لا يفارقك ويحبك ويخاف عليك . كذلك المقرب من الله ، له قانون آخر في التعامل غير قانون الأبرار ، ومقياس آخر للحسنات والسيئات يناسب درجة قُربه من ربه عز وجل . ترى لو أنك مثلاً مرضت لا قدر الله وجاءك أحد معارفك وزارك في مرضك ولو مرة واحدة ماذا تفعل ؟ تشكره وترى أنه أدى الواجب . أما صديقك المقرب لو زارك مرة واحدة مثله ماذا تفعل ؟ تعاتبه وتلومه لأنك كنت تنتظر منه أكثر من زيارة ، هذا هو معنى : حسنات الأبرار سيئات المقربين . إذن : الحسنة من الإنسان العادي قد تُعدُّ سيئة بالنسبة للنبي ، فالنبي مقرب وللمقرب حساب آخر ، ولهذه القربى ثمن ، وكان الله يقول لك : حافظ على هذه الدرجة من القرب مني ، وإياك أن يحدث منك ولو شيء بسيط بالنسبة لغيرك . أو أن سيدنا رسول الله كما قال : " رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " فقوله عن أمتي يعني : أنه غير داخل في هذا الحكم ، فلا يجوز منه النسيان الذي يجوز من غيره والنسيان في حقه إذن يُعدُّ ذنباً . " لذلك لما صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة رباعية وسلَّم منها بعد ركعتين قال له أحد الصحابة وهو ذو اليدين : أقصرتْ الصلاة أم نسيتَ يا رسول الله ؟ قال : كل ذلك لم يكُن ، قال : بل بعض ذلك كان " انظر عظمة الصحابي في السؤال ، وعظمة رسول الله في الرد ، وعظمة الإيمان الذى ربَّى هؤلاء . إذن : من الممكن أنْ ينسى رسول الله ويُعد نسيانه ذنباً لماذا ؟ لأنه رسولٌ وصاحبُ رسالة مكلَّف بتبليغها وإشراقات النبوة لا تفارقه فكيف ينسى ؟ لذلك لما سأل أحد العامة العالم العابد المنقطع لله وقال له : ما حكم مَنْ سها في الصلاة ؟ قال له : عندنا أم عندكم ؟ قال : بل عندنا . قال : يسجد للسهو ، قال : وعندكم ؟ قال : نقتله . ولماذا نذهب بعيداً وقصة معصية سيدنا آدم معروفة للجميع ، قال تعالى - في حق آدم { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [ طه : 121 ] فسمى نسيان آدم معصية ، لماذا ؟ قالوا : لأن آدم خلقه الله بالمباشرة ، خلقه الله بنفسه ونفخ فيه من روحه ، فله ميزة في الخَلْق ليستْ لغيره ، ولم يكلف إلا تكليفاً واحداً هو عدم الأكل من الشجرة ، فأيّ شيء ينساه وأي شيء يذكره وهو أمر واحد . لذلك كان النسيان في حقه معصية ، لأنه نبي رسول وهو أبو البشر ، لذلك معصية آدم جاءت لحكمة لأنه أبو البشر ، والبشر على قسمين : معصوم وغير معصوم ، المعصوم هم الرسل . وغير المعصوم هم بقية الخلق فلا بدّ أنْ يتمثل في آدم القسمان . فحينما يخاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ويقول له : { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ . . } [ محمد : 19 ] أي : من النسيان الذي تجاوزتُ عنه لأمتك استغفر أنت منه لأنه لا يغفر لك كما يغفر لأمتك . ثم تعال وانظر في المواضع التي عاتب الله فيها نبيه محمداً ، اقرأ مثلاً : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التحريم : 1 ] مجرد أن واحدة من زوجاتك غضبت من شيء تحرمه على نفسك وقد أحله الله لك ، فعدّ هذا ذنباً . كذلك لما أذن لبعض الصحابة في التخلف عن القتال عاتبه ربّه : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ } [ التوبة : 43 ] إذن : عاتبه على ذلك ، لكن بدأه بالعفو عنه . ثم إن الرسول فيه جانبان جانب البشرية وجانب الرسالة ، فآدم عليه السلام عصى ببشريته بدليل قوله تعالى : { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [ طه : 121 - 122 ] إذن : ما جاءته الرسالة إلا بعد أنْ خاض هذه التجربة ، وكان منه ما يكون من البشر ، ثم اجتباه ربه بالرسالة . وحين نتأمل القضايا التي عاتب فيها نبيه محمداً نجدها مسائل عامة ليس فيها نصّ ولا حكم شرعي خالفه رسول الله ، فكان يجتهد فيها برأيه كبشر وكما يمليه الموقف . فمثلاً في قصة عبد الله بن أم مكتوم الذي عاتب الله رسوله من أجله ، فقال : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } [ عبس : 1 - 2 ] تجد هذا العتاب ليس اعتراضاً على ما فعله رسول الله إنما رحمة به وشفقة عليه . لأنه ترك عبد الله وهو مؤمن جاء ليسأله عن حكم من أحكام الشرع ، وأعرض عنه ليتفرغ لبعض صناديد الكفر ، فهو صلى الله عليه وسلم بتفكيره البشري حريص على هداية هؤلاء ، أما عبد الله فهو مؤمن بطبيعة الحال . إذن : رسول الله يشقّ على نفسه في سبيل دعوته ، ثم اقرأ إلى نهاية القصة { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ * أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ * وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ } [ عبس : 3 - 10 ] . فكأن الحق سبحانه يقول لنبيه : يا محمد ليست مهمتك أنْ يؤمن الناس ، مهمتك أنْ تدلهم وأنْ ترشدهم فقط { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ … } [ آل عمران : 20 ] وخاطبه في موضع آخر بقوله : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] . وفي الكهف : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] يعني : ما عليك إلا أن تُبلغ ، أما مسألة الإيمان فأريدهم مؤمنين قلباً لا قالباً ، طواعية لا إجباراً . وقال تعالى : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] أي : أجبرناهم على الإيمان . وقوله سبحانه : { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } [ محمد : 19 ] معنى { مُتَقَلَّبَكُمْ . . } [ محمد : 19 ] ذهابكم إلى أعمالكم وسعيكم في أنحاء الأرض الواسعة طلباً للرزق . و { وَمَثْوَاكُمْ } [ محمد : 19 ] مرجعكم إلى بيوتكم ومأواكم إلى مضاجعكم بالليل . والمعنى : أنه سبحانه يعلم كل أحوالكم ولا يخفى عليه شيء من أموركم . وسبق أنْ تحدَّثنا عن فَضل السعي في مناكب الأرض واستنباط خيراتها ، لأنك في بيتك ستأخذ خيرات هذه البيئة وحدها ، أمَّا حين تنتقل في شتى نواحي الأرض فإنك تجد ألواناً أخرى من الخيرات . الخالق سبحانه وزَّع خيره على جميع أرضه ، فكل أرض ولها عطاء ، الصحراء لها عطاء ، والأرض الزراعية لها عطاء ، ليس هناك أرض فقيرة وأخرى غنية ، بحيث لو أخذتَ قطاعاً طولياً من الكرة الأرضية لوجدتَ فيه من الخيرات مثل ما في القطاعات الأخرى . وقد كنا نظن أن الصحراء الجرداء لا خير فيها ، والآن هي مصدر الرزق الوفير لأصحابها الذين صبروا على شظف العيش فيها أعماراً طويلة . لذلك يقول تعالى : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ … } [ النمل : 69 ] وقال : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ … } [ الأنعام : 11 ] أي : تأملوا ما فيها من آيات وعبر ، والإنسان يسافر ويتنقل إما للسياحة ، وإما لطلب الرزق ، وفي كلتا الحالتين ينبغي ألاَّ يغفل عن الاعتبار والنظر في آيات الكون . وفي موضع آخر قال تعالى : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا … } [ النساء : 97 ] فالتقلُّب هو الخروج من المكان الذي تستوطنه إلى مكان لا تستوطنه ، وهذا يحتاج إلى قدرة مالية وصحبة وقوة ، لذلك قال سبحانه { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } [ النحل : 46 ] . قالتقلُّب إذن دليل القوة ، فالرجل الغني هو الذي يسافر كل يوم إلى مكان يتقلب في أنحاء الأرض ، أما الفقير فيلزم مكانه لا يبرحه .