Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 22-23)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا استفهام من الله بهل ، ورجاء من الله بعسى ، والله لا يستفهم ليعلم إنما يستفهم ليقرر حقيقة واقعة . كلمة عسى فعل يدل على الرجاء وبعدها الشيء المرجو ، والرجاء يكون لأمر محبوب متوقع الحدوث وممكن الحدوث ، على خلاف التمني فهو لشيء محبوب ، لكن مستحيل أنْ يتحقق كقول الشاعر : @ ألاَ لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْماً فَأُخبرهُ بمَا فعَلَ المشِيبُ @@ أما الرجاء فتقول : عسى إنْ ذاكرتَ أنْ تنجح ، لكن يختلف الرجاء باختلاف القائل والمقول له ، فعندما أقول لك : اذهب إلى فلان عسى أن يقضي حاجتك ، أو عساني أفعل لك شيئاً فالرجاء هنا في بشر ، فإذا كان الرجاء في الله كان أقوى كأنْ تقول : عسى الله أن يغفر لي . فقوله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] لعلكم يحدث منكم هذا ويتوقع منكم ، إذن : ظلوا على ما أنتم عليه من الإيمان والطاعة ولا تدخلوا من باب الذنوب والمعاصي . { إِن تَوَلَّيْتُمْ … } [ محمد : 22 ] أي : أعرضتم عن الإيمان ، أو توليتم بعض المناصب كالرئاسة مثلاً تأتي لك بالمصيبة إليك . { أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ … } [ محمد : 22 ] يعني : مع الخَلْق جميعاً { وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ … } [ محمد : 22 ] رقَّى المسألة إلى الأقارب والأرحام يعني : يتعدى فسادكم الناس جميعاً إلى الأقارب والأرحام . أو نقول : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ … } [ محمد : 22 ] ما الذي صرفكم عن الحق الذي جاء به محمد ، ولماذا تضعون في طريقه العقبات ؟ ، وأولها أنْ تسخروا منه ، وأنْ تصفوه بما ليس فيه من قولكم : ساحر ، وكاهن ، وشاعر ، وكذاب . ثم آذيتموه في نفسه بالسب وفي بدنه وفي أهله وفي أصحابه ، بل بيَّتم له لتقتلوه ، ما الذي جعلكم تفعلون ذلك ؟ هل ظننتم ورجوتم أنكم إذا فعلتُم ذلك تصبحون على حَلِّ شعوركم للإفساد في الأرض وقطع الأرحام . والحق سبحانه يريد أنْ يُعلمنا أن الرسل لا تتدخل ولا تأتي السماء بمنهج جديد إلا إذا عَمَّ الفسادُ المجتمع كله ، لأن الفساد له مراحل : أولها : فساد النفس وهذا له رادع من النفس اللوّامة ، وهي مناعة في النفس الإنسانية تعود بها إلى الجادة وتُقوِّم سلوكياتها . فإذا فسدتْ النفس وتلاشى دور النفس اللوامة جاء دور الرَّدْع من المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإذا لم يكُنْ رادع من المجتمع وعَمَّ الفساد الجميع هنا تتدخل السماء برسول جديد يأتى بمعجزة ليقنع الناس ليؤمنوا بما جاءهم به . فأنتم حين توليتم عن الدعوة وأعرضتم عنها ووضعتم في طريقها العراقيل تنتظرون أنْ تظلوا على الفساد الذي نشأتم عليه في الأرض عموماً أو في تقطيع الأرحام ، لا فأنتم تجنون على أنفسكم ، ألم تنظروا إلى مَنْ سبقكم من الآباء والأجداد أين ذهبوا ، إن مصيركم كمصيرهم ، فاحذروا { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ الزخرف : 66 ] . وقال : { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ الزمر : 55 - 58 ] إذن : لماذا لا تعملون حساباً لهذا اليوم ؟ والذين استشروا في الفساد ظنوا أنه ينفعهم ، لكن الفساد في الكون يضر الجميع ، فالذين ينهبون أموال الناس سيأتي مَنْ هو أقوى منهم وينهب أموالهم ، فأنت إذن لست بمنجى عن أنْ يطولك الفساد وتكتوي بناره ، لأن المجتمع مركب واحد يضم الجميع . ثم إن القيم ثابتة لا اختلاف عليها ، فالخير خير حتى عند أهل الشر ، والدليل على ذلك لو أن هناك صحبة من الأشرار ، وأراد واحد منهم أنْ يتزوج أخت الآخر ، فقال له : لا لا أزوجك أختي أنا ملقتش غيرك أنت يا حرامي إذن : القيم هي القيم . فالكذاب يحترم الصادق ، والمنحرف يحترم المستقيم ، وهكذا . إذن : الحق سبحانه يقول لهم لا تفسدوا في الأرض ، وأحرصوا على إنهاء الإفساد في مجتمعكم ، فإنْ كانت لكم الآن قوة تفرضون بها الفساد على الناس فسوف يأتي مَنْ هو أقوى منكم ، ويفرض عليكم مثله وأكثر . وكلمة { تَوَلَّيْتُمْ … } [ محمد : 22 ] أي : أعرضتم تدل على أنهم سمعوا كلاماً لا يعجبهم ، فلو أعجبهم لَسمعوا وما أعرضوا عنه ، لكن كيف وهم يريدون الفساد الذي يحقق لهم شهواتهم ، فالفساد سبقه تولٍّ وإعراض . لذلك يقول تعالى : { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } [ العلق : 13 ] كذب لأن الكلام لا يوافق هواه ، لا أنه لا يوافق الواقع ، إذن : أنت مخطئ في هذه المسألة ومخطئ في تكذيبك . ثم نشأ عن هذا الخطأ خطأ آخر بأنْ توليت وظننتَ وتوقعت أنْ تظل على حالك في الإفساد في الأرض وتقطيع الأرحام . والإفساد في الأرض أنْ تجعل الصالح فيها غير صالح ، لأن الخالق سبحانه خلق الكون على هيئة الصلاح المطلق قبل أنْ يخلق الإنسان ، إذن : عليك أنْ تزيد في صلاح الكون بما لديك من طموح للأفضل وللأرقى ، أو أنْ تيسِّر الصلاح للناس ، وإذا لم تزد في صلاح الكون فلا أقلَّ من أنْ تتركه على صلاحه لا تفسده . لذلك رأينا أن عورات المجتمع ظهرت بظهور الفساد في الأرض والملوِّثات في البيئة التي أفسدتْ الماء والهواء والطعام وكل شيء { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ … } [ الروم : 41 ] . والحق سبحانه وتعالى حينما يحذرنا من الإفساد في الأرض إنما يريد منا أنْ يستطرق الخير في المجتمع كله ويعمّ الجميع . وقال بعدها : { وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] لأن الإفساد في الأرض يكون عاماً لكل الناس أقارب وغير أقارب ، فخصّ الأقارب لأنهم الأَوْلى بالمعروف والإحسان لا بالقطيعة والهجر ، والأقارب إما ذكور وإما إناث ، الذكور لهم قوة تحمل ، أما النساء ففيهم ضعف وحاجة . لذلك كانت قطيعتهم أشدّ وأعظم عند الله . لذلك يصل المجتمع إلى قمة الفساد حين يصل الفساد إلى هذه المرحلة ، مرحلة إهانة المرأة أو قطيعتها وهي من رحمك . وإذا رأيتَ المرأة في مجتمع مهيضة الجناح ، أو وقع عليها ظلم أو تُركتْ لكسب العيش والسعي على المعيشة ، فاعلم أن هناك خللاً في الأسرة ، وأن الرجل فيها لا يقوم بدوره ، أو قُلْ ليس عنده شهامة ولا نخوة ، فترك زوجته للشقاء ولم يكْفها مؤنة لقمة العيش ، لكن متى تخرج المرأة للعمل ؟ وكيف تخرج ؟ نجد الجواب في قصة سيدنا موسى مع ابنتيْ سيدنا شعيب عليهما السلام ، اقرأ : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } [ القصص : 23 ] . إذن : علة الخروج أن أباهما سيدنا شعيب شيخ كبير لا يقدر على القيام بهذه المهمة ، ثم لما اضطرتهما الظروف للخروج لم يتخليا عن الوقار والحشمة ولم يختلطا بالرجال { لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ … } [ القصص : 23 ] يعني : حين ينصرف الرجال . ثم يأتي دور المهمة الإيمانية في المجتمع { فَسَقَىٰ لَهُمَا … } [ القصص : 24 ] لابد أن يوجد هذا النموذج الشهم في المجتمع ، وأن يكون للرجولة دور ، ذكرت لكم زمان لما سافرتُ للسعودية سنة خمسين ، وفي يوم ركبتُ السيارة للذهاب إلى الكلية ، وفجأة نزل السائق وأخذ طاولة عليها عجين من أمام أحد البيوت ، فسألته : لماذا أخذته والباب مغلق ؟ فقال : هذا العجين يعني أن صاحب البيت غير موجود ، وعلى مَنْ يراه أنْ يأخذه ويخبزه ويعيده إلى مكانه . وقوله تعالى : { أَوْلَـٰئِكَ … } [ محمد : 23 ] أي : الذين ارتضوا التولِّي والإعراض عن دعوة الحق وتكذيب الداعي ليفسدوا في الأرض ويقطعوا الأرحام . { ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ … } [ محمد : 23 ] يعني : طردهم من رحمته وأبعدهم عن رضوانه ، والذين يلعنهم الله تلعنهم كذلك الملائكة ، ويلعنهم اللاعنون في كل زمان ومكان ، ويلعنهم كل مَنْ شقي بفسادهم . { فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ } [ محمد : 23 ] هذه نتيجة طبيعية لمنْ لعنه الله أنْ يصم آذانهم عن سماع الحق ويُعمي أبصارهم عن رؤية الآيات فلا يتدبرونها . إذن : هم يسمعون ويبصرون ، لكن لا يسمعون إلا الشر ، ولا يرون إلا الباطل ، فقد حجبهم الله عن كل خير ، وفتح عليهم باب كل شرٍّ جزاء وفاقاً ، لأنهم أغلقوا قلوبهم عن الحق وأحبوا الباطل فأعانهم الله عليه ويسَّر سُبله لهم .