Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 51, Ayat: 38-40)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد أنْ حدَّثتنا الآيات عن طرف من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام تُحدثنا الآن عن سيدنا موسى عليه السلام ، لماذا ؟ لأن القرآن كثيراً ما يأتي بإبراهيم وموسى في قرن واحد لما بينهما من تشابه في مسيرة الدعوة إلى الله . اقرأ : { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } [ الأعلى : 18 - 19 ] وقال : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } [ النجم : 36 - 37 ] . فالقرآن يربط بينهما لأن سيدنا إبراهيم أول ما تعرَّض في أمر الدعوة تعرَّض للرجل الذي حاجَّه في ربه ، ويبدو من سياق القصة أنه ادَّعى الألوهية بدليل قوله { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ … } [ البقرة : 258 ] . وبعد ذلك كان لإبراهيم مواقف في إظهار آيات الله للناس ، فهو أول مَنْ علَّمهم أنْ ينظروا في الآيات الكونية ، ثم كانت له مواقف مع عبدة الأصنام ، خاصة مع أبيه آزر ، ثم جاءت أحداث إلقائه في النار ، ثم رُزِقَ الولد ، وابتُلِي بالأمر بذبحه ، ثم جاءت قصة بناء البيت ، إلى آخر أحداث قصته . لذلك قال الله في شأنه : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] أي : أدّاها كاملة لا بالمنطق العادي في الأشياء ، إنما بمنطق الإجادة والإحسان ، لذلك مدحه ربُّه فقال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] أي : يجمع من خصال الخير ما لا يتوفر إلا في أمة كاملة . كذلك مَرَّ سيدنا موسى عليه السلام بمواقف وابتلاءات مشابهة في رحلة دعوته لفرعون الذي ادَّعى الألوهية ، فقال لقومه : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي … } [ قصص : 38 ] . الواو في { وَفِي مُوسَىٰ … } [ الذاريات : 38 ] عاطفة ، فالمعنى في موسى آية من آيات الله معطوفة على قوله تعالى : { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [ الذاريات : 20 ] كذلك في موسى آيات { إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } الذاريات : 38 ] أي : بحجة واضحة بيِّنة . وسبق أنْ أوضحنا أن السلطان قد يكون سلطانَ قوة وقهر تخضع المقابل ، أو سلطانَ برهان وحجة يقنعه . سلطان القهر يقهر القالب ، وسلطان الحجة يقنع العقل ويستميل القلب ، وموسى عليه السلام لم يكُنْ يملك إلا حجةَ الإقناع ، ولا قوة له على فرعون يقهره بها ، فأعطاه الله سلطاناً مبيناً يقنع به فرعون ، وهو الآيات والمعجزات التي صاحبتْ دعوته . والمعجزة لا تؤتي ثمارها في القوم إلا إذا كانت من جنس ما نبغوا فيه وأتقنوه ، ولو تحداهم بشيء لا يعرفونه ما كان للتحدي معنى ، لذلك كانت معجزة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، لأن العرب نبغوا في البلاغة والفصاحة ، فتحدَّاهم بما نبغوا فيه . أما قوم فرعون فقد نبغوا في السحر فكانوا سحرة ، لكن مُكرهين على السحر بدليل أن فرعون لما استدعاهم من الآفاق لمقابلة موسى بسحرهم قالوا { أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ } [ الشعراء : 41 ] لأن الأعمال التي كانوا يعملونها كانت سُخْرة بدون أجر ، كما رأينا مثلاً في بناء الأهرامات . والأصل في دعوة سيدنا موسى أنه ما جاء ليدعو فرعون إنما ليأخذ منه بني إسرائيل ، ولينقذهم من بطشه ، هذا هو الأصل لكن جاءتْ دعوته لفرعون على هامش هذا الأصل وتابعة له ، بدليل قوله تعالى : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ … } [ طه : 47 ] . فقبل أنْ يدعو موسى بني إسرائيل كان عليه أنْ يخلصهم من فرعون واستبداده بهم ، ومعلم أن فرعون اضطهد بني إسرائيل لأنهم ساعدوا الهكسوس لما أغاروا على مصر وتعاونوا معهم ضد فرعون ، حتى انتصر الهكسوس وألغوا الفرعونية وجعلوها ملكية . لذلك عرفنا أن الهكسوس دخلوا مصر في عهد سيدنا يوسف عليه السلام ، لأن القرآن لما تكلَّم عن حكام مصر تكلم عن فرعون ، لكن لما ذكر يوسف ذكر لفظ الملك { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ … } [ يوسف : 50 ] ولم يأتِ بلفظ الفرعون . فلما أراد الحق سبحانه أنْ يُخلِّص بني إسرائيل من قبضة فرعون أرسل موسى لهذه المهمة . وقوله تعالى : { فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 39 ] أي : فرعون أعرض عن موسى ودعوته { بِرُكْنِهِ … } [ الذاريات : 39 ] أي : أعرض بسبب ركنه . أي : قوته وسلطانه وجبروته واستعلائه في الأرض . أو برُكْنه يعني بجانبه . وحين تُعرض عن إنسان تعطيه جانبك ، ثم تدير له ظهرك بعد أنْ كنتَ في مواجهته ، وهذا المسألة صوَّرها القرآن الكريم بقوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ … } [ التوبة : 34 - 35 ] . وبهذا الترتيب يكون الإعراض عن طالب الحاجة ، حيث يُعرض أولاً بوجهه ، ثم بجنبه ، ثم بظهره ، وهكذا يكون الكَيُّ يوم القيامة جزاءً وفاقاً ، وعلى قَدْر حركات الامتناع عن الخير . وقوله : { وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 39 ] تأمل التناقض حتى في الاتهام ، فالساحر له قدرة على ترتيب الأشياء ، وعنده ذكاء بحيث يُخيِّل للناس رؤية الأشياء على خلاف ما هي ، أما المجنون فعلى خلاف ذلك ، لأنه لا يُرتِّب الأشياء ، ولا قدرةَ له على السيطرة على مراداته ونزوعه ، لكنه تخبُّط الباطل وإفلاسه . ثم ينتقم الحق سبحانه من فرعون { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الذاريات : 40 ] أخذهم الله بأنْ ألقى في نفوسهم حبّ اللحاق بموسى وأغراهم بذلك حتى تبعوهم وخاضوا البحر خلفهم . فأطبق الله عليهم الماء فأغرقهم بعد أنْ نجَّى موسى وبني إسرائيل { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ … } [ الذاريات : 40 ] ألقيناهم في البحر وهو أي فرعون { وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الذاريات : 40 ] أي : فعل ما يُلام عليه من عُتوه وجبروته وادعائه للألوهية . والمعنى : أن الله تعالى لم يُهلكه وجنودَه بظلم أو جبروت ، إنما أهلكهم بما يستحقون من العذاب .